كان الاجتياح الصهيوني للبنان عام 2891 الفاتحة الفعلية لمعرفتي بالشاعر اللبناني الراحل سعيد عقل. مثل الهجوم الشرس الذي قرأته في مطبوعة عربية مهجرية في غمرة العدوان علي شخص الشاعر ومقالته العميلة التي نشرها في جريدة لبنان والتي رحب فيها دون تحفظ بالجيش الاسرائيلي وعدوانه المخلص من الدموية العنصرية الفلسطينية مسوغا كي أنبش في المنجز الشعري والنثري للرجل.لم يستسغ عقلي الذي لم يكن قد شب بعد علي الطوق ان يوجه مبدع غنيت مكة وزهرة المدائن التحايا للعدو الصهيوني الذي اغتصب أرض وشعب فلسطين وغض الطرف عن المجزرة التي ارتكبتها الميليشيات المسيحية في مخيمي صبرا وشاتيلا. لم أكن أشتمل في ذلك التاريخ القريب البعيد علي عادة الوصل بين المبدع العربي وهويته الدينية، وأعترف في هذا المعرض بان دهشتي كانت عاتية وأنا أغوص في نصوص دقموس وبنت يفتاح ولبنان إن حكي وغيرها من التحققات الشعرية والنثرية ان الانتماء المسيحي للشاعر قد ألقي بظلاله الثقيلة علي التحول الراديكالي للرجل من الهوية القومية العروبية الي الشوفينية اللبنانية بمسوحها الفينيقي وأبجديتها الأتاتوركية. كان سعيد عقل قد أفصح منذ ذلك التاريخ دون مواربة عن هوية مغلقة ومتعالية علي إكراهات التاريخ0 غير ان اللافت للانتباه يتمثل في ان المبدع والمنظر الايديولوجي لحزب حراس الأرز اليميني المحافظ قد واظب علي الإبداع بلغة عربية جاوزت في الفصاحة والجزالة كل حد في الوقت الذي كان يبذل فيه قصاري جهده كي يخرج بمشروع الهوية الثقافية اللبنانية من حيّز اليوتوبيا الي سياق التحقق. ويمكنني ان أفترض أن مصاحبتي للمنجز الإبداعي للشاعر قد وضعتني وجها لوجه امام مفارقة عصية علي الفهم0 كانت الأعمال الشعرية والنثرية التي أعقبت طلاق الشاعر مع بعده القومي العروبي قد غلبت عليها غنائية ذاتية مفرطة في احاديتها وتوحدها بالمقصدية الضمنية المتمثّلة في تبجيل الوطن اللبناني بجغرافيته ورموزه وتواريخه غير العربية والإسلامية. لم يكن الشاعر الذي أفصح في سياق مماثل عن توقه الي الانتقال بيوتوبيا الوطن اللبناني المسيحي والفينيقي من حيّز الخيال او المحال الي الواقع يدرك بان هذه المقصدية سوف تقزم تجربته الشعرية وتقلص من مساحة التعدد التي تستحقها لغته العربية.ويمكنني ان أؤكد من خلال قراءتي لنماذج دالة من هاته النصوص احتفاظها بوجه شبه فاقع بما كان يكتب إبان عهد جوزيف غوبلز وزير الدعاية والثقافة في عهد سييء الذكر ادولف هتلر او أندري جدانوف وزير ثقافة جوزيف ستالين0هل نسوق في هذا المعرض نص أرض الأبطال والذي يمكن عده قرينة دالة علي هذا النزوع الشوفيني والدوغمائي نحو هوية لبنانية تسح بالتبجح والتعالي وذات الميسم الموميائي. ولأن الهوية الفاشستية لا تري في الأنا غير الصفاء والإيجاب وفي الاخر غير النقائص والسلب، فسوف يعثر القارئ علي إشارات نصية الي اجتياح الطرابيش الحمر لزحلة، وهو ما يمكن عده قرينة دالة علي التلوث الذي طال الوطن اللبناني الذي كان بطبيعة الحال قبل الاجتياح أيقونة للصفاء والرقي. في السياق التاريخي والثقافي ذاته الذي كان فيه الشاعر سعيد عقل يكيل فيه التحايا في صحيفة لبنان لقوات المخلص الاسرائيلياني كان ثمة شاعر لبناني آخر يصوب فيه بندقيته صوب رأسه وينتحر احتجاجا علي العدوان ذاته. من منا يتذكر خليل حاوي وتاريخ 9 يونيو عام 2891؟ تقاسم الشاعران الانتماء الي لبنان والمسيحية لكنهما اختلفا في طرائق الاقتراب والتعاطي مع هذين المكونين. كان خليل حاوي قد افلح في تخصيب اللغة العربية ومنحها التعدد الذي تستحقه باستدعاء المتخيل الديني المسيحي بتوظيفه وفق طريقة تنأي عن الاحادية والتعصب ومنطق التضاد العاطفي الساذج. كانت لغة الشاعر توليفا محكما بين الغنائية والدرامية ومراهنة علي منح الذات رحابة تتعالي علي الأنا بشوفينيتها النرجسية والتي وسمت جزءا كبيرا من المنجز الشعري والنثري لسعيد عقل. ولئن كان استدعاء الرموز المسيحية والأسطورية عند خليل حاوي أبعد ما يكون عن مقصدية الاستقواء المرضي بالأنا وامتداداتها في حيّز ماضوي مغلق تهيمن فيه صور ورموز وأمجاد محنّطة، فان حضورها عند سعيد عقل تبقي مدموغة بحنين جارف تعضده حماسة شرسة وتحريض مضمر علي العنف. سوف يكتب الشاعر في خماسياته الشهيرة الصادرة عام 1991 ما يلي: يشاؤونني غير نضر الخيال كما اللا ولا عبقري الغد أبيت 000 أنا قبلة الموعد سكنت بلادي صنع المحال سأسكنها بعد صنع يدي سوف تمثل جريدة لبنان التي صدرت بالحرف القومي اللبناني تجسيدا جليا لهذا الوعد بالانتقال من صنع المحال الي صنع اليد وقرينة دالة علي إرادة القوة بوسمها الشوفيني والفاشستي.سرعان ما سوف نتبين ان هذا الانتقال الي صنع اليد لن يعدو كونه استنساخا فجًّا وفاقدا للقيمة ليوتوبيا مصطفي أتاتورك ذلك ان الأبجدية اللاتينية التي تفتقت عنها عبقرية سعيد عقل ابن زحلة او ابن الأبطال شفت عن حقيقة مؤداها ان العنصرية الدموية الفلسطينية التي احتج بها سعيد عقل كي يكيل التحايا للجيش الاسرائيلياني ويحض اللبنانيين علي القتال بجانبه في غمرة العدوان القذر إياه لم تكن سوي تعلة او قناع يخفي ذلك التوق الي أنا لبنانية فينيقية ومسيحية صافية من التلوث العروبي والإسلامي. جرت مياه غزيرة تحت الجسر منذ مقالة التحايا والترحاب إياها للمخلص الاسرائيلياني الي ان علمت بوفاة الرجل بعد ان طعن في السن وجاوز قرنا من الزمان. وكنت أتوقع مع كرور الزمن ان يكتشف مبدع زهرة المدائن وغنيت مكة ان العنصرية الدموية الفلسطينية لا تقاس علي افتراض وجودها بالهمجية الصهيونية ومجازرها المتناسلة مثل سرطان وأسوارها العنصرية. هيمن النفاق بلغاته ووسائطه التعبيرية إلا في القليل النادر الذي لا يقاس عليه علي المقالات والمراثي التي دبجت بعد وفاة شاعر زحلة. وبدا جليا أن ثمة إجماعا علي تخليص الرجل قسرا وضدا علي إرادته من أحلامه العرقية واللغوية التي لم يتردد في الإفصاح عنها بصلف لا حدود له والتي لم يعتذر أو يتراجع عنها. كانت المسافة التي فصلت صاحب غنيت مكة وزهرة المدائن عن مقالة التحايا الموجهة للمخلص الاسرائيلياني وامتداداتها القطرية والعنصرية البغيضة هي المسافة ذاتها التي عبرتها الذات العربية من صحراء داحس والغبراء إلي صحراء داعش.