النيابة العامة تنظم ورشة عمل بحقوق المنصورة (صور)    رئيس "التنظيم والإدارة" يبحث مع "القومي للطفولة" تعزيز التعاون    وزير الكهرباء: نسعى لتعزيز استدامة الطاقة وتوفير حلول طاقة نظيفة وآمنة    «التموين» تواصل صرف مقررات مايو لليوم ال23    زيادة إمدادات «خام مربان» إلى آسيا وسط انخفاض أسعاره بعد زيادة إنتاج أوبك+    وزيرة التضامن تبحث دعم الصناعات الريفية وريادة الأعمال المجتمعية    استرداد 10 أفدنة من أراضي أملاك الدولة بوادي النطرون    «حماس»: رفض الدول استغلال المساعدات لأي غرض يتطلب ضغطًا لإغاثة الفلسطينيين    حماس: المساعدات حتى الآن لا تمثل نقطة في محيط احتياجات أهالي غزة    الزمالك يختتم تدريباته اليوم وينتظم في معسكر للقاء بتروجت    تفاصيل الاجتماع الفني لمباراة صن داونز وبيراميدز في ذهاب نهائي دوري الأبطال    رقم خيالي، إغراءات جديدة من الهلال للتعاقد مع إنزاجي    تفاصيل الاجتماع الفنى لمباراة صن داونز وبيراميدز فى ذهاب نهائي دورى الأبطال    بحوزتهم مخدرات ب21 مليون جنيه.. مصرع 4 عناصر إجرامية بالإسكندرية وأسوان    رابط نتيجة الصف الخامس الابتدائي الأزهري 2025 الترم الثاني فور ظهورها    لمدة 48 ساعة.. غلق كلي لطريق الواحات لتنفيذ أعمال محطات الأتوبيس الترددي    رئيس الأوبرا يقود حفل أيقونات بليغ ووردة 30 مايو    اليوم.. بداية فعاليات مهرجان دبا الحصن للمسرح الثنائي ومصر تشارك ب"بروفايل"    "بئر غرس" بالمدينة المنورة.. ماء أحبه الرسول الكريم وأوصى أن يُغسَّل منه    ما حكم بيع واستعمال سجاد الصلاة المكتوب عليه لفظ الجلالة؟.. الإفتاء توضح    إضافة خدمة جديدة ومتطورة إلى بنك الدم بمجمع الإسماعيلية الطبي    "الصحة" تعقد اجتماعا تحضيريا لتنفيذ خطة التأمين الطبي لساحل البحر المتوسط    فحص 11.3 مليون طالب ابتدائى ضمن مبادرة للكشف المبكر عن «الأنيميا والسمنة والتقزم»    صلاح يتوج بجائزة أفضل لاعب في البريميرليج من «بي بي سي»    الصحة العالمية: النظام الصحي على وشك الانهيار في غزة مع تصاعد الأعمال العدائية    الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن جوريون بصاروخ باليستي    وزيرة التخطيط: الابتكار وريادة الأعمال ركيزتان أساسيتان لتجاوز «فخ الدخل المتوسط» (تفاصيل)    شاب ينهي حياته بأقراص سامة بسبب خلافات أسرية    الأرصاد تحذر من حالة الطقس: موجة حارة تضرب البلاد.. وذروتها في هذا الموعد (فيديو)    4 جثث ومصاب في حادث مروع بطريق "إدفو - مرسى علم" بأسوان    محافظ أسيوط يشهد تسليم 840 آلة جراحية معاد تأهيلها    بروتوكول تعاون بين "الإسكان" و"الثقافة" لتحويل المدن الجديدة إلى متاحف مفتوحة    بسمة وهبة ل مها الصغير: أفتكري أيامك الحلوة مع السقا عشان ولادك    وزير الثقافة يشهد حفل فرقة أوبرا الإسكندرية ويشيد بالأداء الفنى    رمضان يدفع الملايين.. تسوية قضائية بين الفنان وMBC    الخارجية: الاتحاد الأفريقى يعتمد ترشيح خالد العنانى لمنصب مدير عام يونسكو    «الشيوخ» يناقش تعديلات قانونه ل«تقسيم الدوائر» غدا    الهلال يفاوض أوسيمين    يدخل دخول رحمة.. عضو ب«الأزهر للفتوى»: يُستحب للإنسان البدء بالبسملة في كل أمر    توريد 180 ألف طن قمح لصوامع وشون قنا    ضبط 379 قضية مخدرات وتنفيذ 88 ألف حكم قضائى فى 24 ساعة    رئيس الأركان الإسرائيلي يستدعي رئيس «الشاباك» الجديد    مقاطع مفبركة.. جارديان تكشف تضليل ترامب لإحراج رئيس جنوب أفريقيا    وزير الصحة يشارك في مائدة مستديرة حول البيانات والتمويل المستدام لتسريع التغطية الصحية الشاملة    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الجمعة 23-5-2025 في محافظة قنا    زلزال بقوة 6.3 درجة يهز جزيرة سومطرة الإندونيسية    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الجمعة 23 مايو 2025    مجدي البدوي: علاوة دورية وربط بالأجر التأميني| خاص    دينا فؤاد تبكي على الهواء.. ما السبب؟ (فيديو)    قائمة أسعار تذاكر القطارات في عيد الأضحى 2025.. من القاهرة إلى الصعيد    انتقادات لاذعة لنتنياهو واحتجاجات بعد إعلانه تعيين رئيس جديد للشاباك    مدفوعة الأجر.. موعد إجازة المولد النبوي الشريف 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    موعد نهائي كأس أفريقيا لليد بين الأهلي والزمالك    نموذج امتحان مادة الmath للصف الثالث الإعدادي الترم الثاني بالقاهرة    جانتس: نتنياهو تجاوز خطًا أحمر بتجاهله توجيهات المستشارة القضائية في تعيين رئيس الشاباك    خدمات عالمية.. أغلى مدارس انترناشيونال في مصر 2025    أدعية مستحبة في صيام العشر الأوائل من ذي الحجة    اتحاد الكرة يعلن حكام مباريات الجولة قبل الأخيرة لدوري المحترفين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مقابر إلكترونية
الحسابات " الميتة " تهيم في الفضاء الافتراضي
نشر في أخبار الأدب يوم 27 - 12 - 2014

في البدء كانت الحياة بلا موت حتي قتل هابيل قابيل ليشق الحزن طريقه إلي قلب البشر . إنها البدايات التي تظل فيها الصورة ناقصة حتي يكتمل المشهد تدريجيا ويمتليء بتفاصيل تجعلنا نفكر كيف كان يمكن للطبيعة أن تمضي بدونها . الأمر نفسه ينطبق علي الفضاء الإلكتروني ، لم يكن رواده الأوائل يضعون تفاصيل كثيرة في اعتبارهم ، عاشوا فيه كما لو كان الفردوس المفقود لكنهم أفاقوا فيما بعد علي الحقيقة المرة . فالواقع ألقي بظلاله عليه لينتقل الموت إلي ساحته ، إما لموت واقعي تعرض له أحد رواده ، أو لسكتة إلكترونية أصابت حسابه أو بريده فأردته قتيلا وذهبت معها بحياته التي عاشها عليه ، في حالة الموت الحقيقي لا يحتاج سكان الإنترنت إلي غراب يرشدهم إلي كيفية إخفاء جثث أمواتهم لأن تراب الواقع يكون قد واراهم ، أما في الحالة الثانية فالغراب لم يظهر بعد لتظل حساباتهم الصريعة أشبه بمقابر هائمة لا تستقر ، تبدو في صفحات الفيس مميزة بلون أسود قاتم لا تستجيب لأي ضغطة عليها ، بينما تظل أيقوناتها مغلقة في قوائم الماسنجر ، كشاهد قبر يقول : هنا كان يعيش فلان !
الحياة بعد الموت . جملة تختزل عشرات الأسئلة التي راودت البشر منذ بدء الخليقة ، ورغم آلاف السنين التي مرت علي أول إنسان راودته هذه الاستفسارات إلا أن التساؤلات لا تزال تتردد ، وانتقلت إلي الفضاء الافتراضي لتثقله بالمزيد من أعباء الواقع . ولأن بوابة التفاصيل لا تضع ضوابط لنفسها عندما تنفتح ، فقد انتقلت الطقوس إلي الإنترنت : التأبين ، العزاء ، الوصايا ، والذكري التي يرغب البعض في أن تظل خالدة ! لهذا لم يكن غريبا أن تشهد إحدي بنايات استكهولم ولادة أول موقع من نوعه يحمل عنوان " وصيتي الإلكترونية " . بعيدا عن الانشغال بالتناقض الواضح بين الميلاد والموت يصبح تأمل الموقع وأهدافه باعثا علي الدهشة ، فحسبما نقل موقع " دويتش فيلا " في فبراير 2010 كانت سيدتان سويديتان قد أنشأتا الموقع بعد أن عايشتا حالات وفاة لدي بعض معارفهما . زرنا الموقع فواجهتنا هذه العبارات : " نحن نحيا قدرا متزايدا من حياتنا علي شبكة الإنترنت، ولكن ما الذي يحدث لهويتنا الرقمية بعد وفاتنا؟ الذي يحدث حتي هذه اللحظة هو أن مواقعنا، وصورنا، وحساباتنا للتواصل الاجتماعي تواصل الحياة بدوننا، تاركة محبينا دون أدني قدرة علي التحكم فيها أو إزالتها" . العبارة التالية تحمل مفارقة حقيقية حيث يتم وصف الخدمة بأنها :" خدمة
جديدة تساعد علي إرسال تغريدات ورسائل إلكترونية ، واستخدام الفيس بوك بعد وفاتك " !! إنها رؤية جديدة للحياة بعد الموت ، تتجاهل ارتباط الموت بالعدم وتحاول فصل الوجود المادي عن نظيره الإلكتروني ، يبدو هذا من خلال قائمة الخدمات :" فالمشتركون يمكنهم أن يسجلوا وصية رقمية بها كل التعليمات التي يجب أن تتبع فيما يخص بريدهم الإلكتروني وحساباتهم للتواصل الاجتماعي بعد موتهم. حاليا يمكن أن يبقي "بروفايل" الفيس بوك علي سبيل المثال نشطا فترة طويلة بعد وفاة صاحبه. وفي بعض الأحيان من الممكن أن يبقي كلوحة لإرسال التعازي أو حتي للثرثرة ولو كان هذا ضد رغبة العائلة ". لا يقتصر الأمر عند هذا الحد فالموقع يتضمن خدمة تتيح لك إرسال رسالة لأصدقائك الإلكترونيين تخبرهم فيها بوفاتك ! كل ما يتطلبه الأمر هو تقديم معلوماتك التي تتضمن اسم الدخول وكلمة السر وطريقة التأكد من وفاتك إذا انقطعت عن دخول حسابك لفترة محددة . وتري مؤسستا الموقع أن الخدمة تكاد تكون رمزية إذ أن مقابلها لا يتجاوز 30 يورو سنويا أو 300 يورو مدي الحياة .
تركات رقمية
يعتبر الميراث واحدا من أكثر تفاصيل الموت حضورا ، يغيب الميت ويبقي ميراثه محورا لاهتمام المحيطين به . لكن الحسابات الإلكترونية لم تصبح بعد جانبا أساسيا من التركة ، رغم أنها تضم معلومات وربما إبداعات وأسرارا والأهم ذكريات يرغب من يمتلكون قدرا من الوفاء في الاحتفاظ بها ، تماما كما يود البعض أن يحتفظوا بصورة أو قطعة ملابس أو منزل يضم مقتنيات راحل عزيز عليهم . يطرح السؤال نفسه : لماذا لم تدخل الحسابات والبريد الإلكتروني حيز التركات رغم أهميتها لا سيما إذا كانت تخص شخصا شهيرا ؟ نطرح السؤال علي عاطف النجمي المحامي بالنقض ورئيس جمعية الدفاع العربي فيبدو الاستفسار مفاجئا .. بعد فترة يرد : " المشكلة أبعد من ذلك ، لأنها تتعلق بحق صاحب الحساب نفسه في تملك منتجه ، فعندما يرغب أي إنسان في فتح حساب علي الفيس أو اليوتيوب أو إعداد بريد إلكتروني ، ينبغي عليه أن يوقع عقدا مع مقدم الخدمة يسلبه الكثير من حقوقه . حيث يمتلك الأخير الحق في ملكية الحساب أو الإيميل ، كما أن في إمكانه أن يلغيها في أي وقت يشاء ، أو يستخدمها أي استخدام . ليصبح السؤال : هل يملك المستخدم حسابه من الأساس أم لا ؟ والإجابة أنه وفقا للعقد لا يملكه " .
الأمر إذن أشبه بعقد إيجار مؤقت أو حق انتفاع وهو أمر يتعارض مع حقوق الملكية الفكرية حسبما يؤكد النجمي . وبدلا من أن يرد علي الأسئلة المطروحة يطلق سؤالا جديدا : " هل يجوز أن يحتكر المالك كل هذه المحتويات ويجعلها مرهونة بإرادته وشروطه ؟ وهل يمكن أن يقع الأمر كله تحت طائلة قوانين منع الاحتكار ومحاربة المنافسة ؟ " يري النجمي أن الأمر يحتاج إلي بحث بشكل دقيق ، ويضيف : »لابد من تشكيل لجنة قانونية دولية تنظم هذه العلاقة وتضمن للمستخدمين حقوقهم ، هنا فقط يصبح البحث عن حقوق الورثة ممكنا« .
وفقا للكلام السابق يصبح " المالك " هو المسيطر علي كل شيء ، وإذا تنازل عن بعض حقوقه فإن ذلك يعتبر بمثابة منحة منه ، لهذا تعددت مواقف الشركات وتباينت ، فلا يوجد قانون ملزم لها ، وأصبحت أهواء الإدارات هي المتحكمة . ويوضح الدكتور خالد الغمري أستاذ الحاسب الآلي ونظم المعلومات بجامعة عين شمس : " في إبريل 2013 بدأت جوجل خدمة إدارة الحسابات غير النشطة لتنظيم عملية نقل ملكيتها في خدماتها المختلفة. وبموجب هذه الخدمة يحدد المستخدم فترة زمنية إذا لم يستخدم حسابه خلالها يحق للموقع إيقاف الحساب. وبموجب هذه الخدمة أيضا يمكن للورثة الوصول إلي التركة الرقمية بعد تقديم شهادة وفاة رسمية للمستخدم وإثبات علاقة القرابة به. ونفس الشئ تقريبا يفعله بريد هوت ميل التابع لشركة مايكروسوفت " . لكن هذه العروض لا تشمل بعض الشركات ، يواصل :" أما شركة ياهو فلا تعطي الحق للورثة في الاطلاع علي التركة الرقمية للمتوفي بأي شكل من الأشكال. وكانت هناك استثناءات محدودة جدا، مثلا عندما سمحت لوالد أحد جنود المارينز من ولاية ميشيجان الأمريكية بالحصول علي رسائل البريد الإليكتروني الخاصة بابنه بعد أن قتل في معركة حربية .. لكن ذلك لم يحدث إلا بعد حصول الأب علي أمر من المحكمة يمكنه من ذلك ". ويضيف : " أسلوب آخر ينتهجه موقع فيسبوك حيث يقوم بتحويل الحساب الخاص بالمتوفي إلي حائط مبكي لتأبينه ويكون ذلك بناء علي طلب يقدمه أحد أقارب المتوفي مرفق به مايثبت وفاة المستخدم وعلاقة مقدم الطلب به ، ومن فترة كان موقع تويتر يعطي للورثة كل ما يخص المستخدم المتوفي عند الطلب وتقديم أوراق الثبوت المطلوبة، ولكن هذه الخدمة توقفت الآن . وهناك بعض المواقع الأخري التي تقوم بوقف أي حساب عامة بعد 90 يوما من عدم الاستخدام " .
قبو الذكريات
ربما يبدو الأمر لدي الكثيرين نوعا من الترف المبالغ فيه لكن ستيفن وو الذي يعمل محاميا للتركات بولاية كاليفورنيا الأمريكية يوليه اهتماما بالغا ، فالموضوع مرتبط بالذكريات التي تحظي باهتمام الغالبية العظمي من البشر . في تحقيق أجرته صحيفة " فاينانشيال تايمز " قبل عام ربط المحامي الأمريكي بين ذكريات الإنترنت و الخزانة التي يحتفظ فيها المسنون بذكرياتهم في ركن قصي من المنزل ، أو "سندرة " عليا تضم رسائل حب أو مقتنيات ذات قيمة خاصة بالنسبة لهم ، لكن هذه الذكريات التي كانت تنتقل إلي حوزة أبنائهم كجزء من تاريخ العائلة أصبحت محمية بكلمة سر تمنع توارثها ، لتظل هائمة في أرجاء الشبكة العنكبوتية . وجهة نظر ستيفن لا تخلو من وجاهة ، خاصة بعد أن استند إلي طقس لا يزال الكثير من البشر يحرصون عليه . مجرد قراءة هذه السطور قد تحيل ذاكرة أحدنا إلي وريقة يحتفظ بها لأنها تربطه بقصة حب قديمة ، أو رابطة عنق ارتداها والده في حفل زفافه ، وعندما يرتبط الأمر بالحنين يصبح للتركات الإلكترونية قيمتها التي تنفي عنها سمة الترف . وهو ما جعل ستيفن يتعجب من قلة القوانين التي تحكم مرحلة ما بعد الموت علي الإنترنت ، لهذا قرر أن يتخصص في تخطيط تركات الملكية الرقمية التي يري أنها أصبحت صناعة واعدة في أمريكا . إشارة المحامي الأمريكي إلي قلة القوانين يشير إلي أن هناك بوادر ، فالنصوص بدأت في الظهور فعليا حيث منحت ولايتا أوكلاهوما وإيداهو الحق لمنفذ الوصية في أن يسيطر علي حسابات التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني تماما مثلما يضع يده علي حسابات البنوك والعقارات ، أما ولاية إنديانا فوضعت قانونا يسمح بدخول هذه الحسابات دون السيطرة عليها ، بينما قصرت ولايات أخري حق منفذ الوصية علي دخول البريد الالكتروني فقط دون مواقع التواصل الاجتماعي ، ربما لأن المعلومات الواردة به تكشف عن تفاصيل مرتبطة بالتعاملات المالية للمتوفي .
رغم هذه القوانين إلا أن الأمر لا يزال محلا للجدل ، يوضح الدكتور خالد الغمري قائلا : " تري الشركات التي تقدم خدمات الانترنت أن في ذلك انتهاكا لخصوصية المتوفي، وتستند إلي القانون الفيدرالي الأمريكي لعام 1986 الذي يحمي خصوصية التواصل الرقمي مؤكدة أنه يمنع الوصي علي أصول رقمية من إتاحتها لطرف ثالث دون الحصول علي إذن من المرسل والمستقبل أو أمر محكمة. وتبرر الشركات رفضها بأنها قلقة من قضايا السب والقذف والتشهير في حالة الرسائل البريدية التي قد يضر نشرها بطرف ثالث .. فقد يكون البريد الإلكتروني مملوكا لطبيب نفسي يراسل مرضاه لمناقشة حالاتهم المرضية ، أو معالجا للمخدرات يمتلك معلومات علي درجة عالية من الخصوصية عمن يتابعهم .. وقتها يمكن لهذا الطرف مقاضاة الشركة" . مبررات تبدو منطقية لكن الردود جاهزة بدورها ، يلخصها الغمري بقوله : " يرد محامو الورثة بأنه لا مساس بالخصوصية وأن الاختلاف بين التركة الورقية والتركة الرقمية هو مجرد اختلاف في طبيعة الوسيط. أما فيما يخص قضايا التشهير وغيرها فيرون أن ماتقوله الشركات ليس صحيحا .. فيمكن أن يحدث الأمر نفسه مع التركة الورقية التي تتضمن المعلومات ذاتها ، ويؤكدون أن الوصي في هذه الحالة هو من يتحمل المسئولية ، وليست الشركات ".
رغم إرهاصات القوانين الأمريكية التي تضع محددات للموت الرقمي وما يتبعه إلا أن عاطف النجمي يبدو مصرا علي موقفه ، فهو يري أن بنود العقد المجحف التي تضعها الشركات مقدمة الخدمة تجعل أي قضية خاسرة ، نحيله إلي النماذج الأمريكية فيرد بإصرار : " ربما تكون قوانين بعض الولايات الأمريكية قد أتاحت توريث الحسابات ، لكن بالتأكيد سيخضع الورثة لشروط العقد الأصلي ، لهذا إذا أردنا الحديث عن مواريث رقمية حقيقية فينبغي أن تكون الملكية في الفضاء الإلكتروني غير منقوصة ، ولا محددة بشروط مجحفة ، كما أنه ينبغي علينا أن ننتظر بعض الوقت لنري نتائج هذه القوانين من أحكام ".
كلمات منزوعة السرية !
في عالم غالبيته من الشباب والمراهقين يصبح الحديث عن الموت ومفرداته أمرا غير ملح ، تماما مثل الواقع الذي لا تكون فكرة الموت مطروحة فيه علي أذهان الكثيرين منا إلا بعد سن معينة ، ورغم أن أحد الاحصاءات يشير إلي أن الموت غيّب 580 ألف مستخدم للفيسبوك في عام واحد ، إلا أن الرقم يبدو ضئيلا إذا قيس بعدد مستخدميه في العام نفسه والذي تجاوز وقتها مليار مستخدم . إذا وضعنا في الاعتبار أن المسنين يشكلون نسبة كبيرة من المتوفين ، فإن الأمر يبدو طبيعيا في ظل عالم رقمي لا يزال يتعامل بالذهنية التقليدية ، فالموت " الطبيعي " أمر سيحدث لا محالة . لكن بعد سنوات سوف يبدو الأمر أكثر اختلافا . لنتخيل أن طفلا بدأ التعامل مع الإنترنت وعمره 10 سنوات وعاش حتي سن الستين . هل يمكن أن يكون مرتاح البال وهو يشعر أن ذكريات خمسين عاما ستذهب أدراج رياح الشبكة العنقودية ؟ وهل يمكن لأبنائه أن يتعاملوا مع هذه التركة ككم مهمل ؟ بالتأكيد ستتطور الأوضاع لتصبح أكثر تنظيما ، سيظهرالغراب الذي يعلم الكائنات الإلكترونية كيفية دفن موتاهم ، وربما تظهر جبانات ضخمة تفصل عالم الأحياء عن عالم الموتي . لكن حتي يتحقق ذلك تبدو الأوضاع مستقرة ، فكبار السن الذين يرحلون حاليا خاصة في منطقتنا العربية - لا يتركون غالبا شيئا خفيا ، لسبب أساسي هو أنهم يستعينون بأبنائهم في التعامل مع حساباتهم وبريدهم الإلكترونيين . ما يهمنا في سياق هذا الحديث هو التركات المفترضة ذات القيمة الإبداعية ، فعندما يرحل أديب أو فنان ينتظر أن تكون تركته عامرة بالإبداعات والأسرار التي يمثل الكشف عنها إضافة مهمة تفاجيء ورثته بأنهم
أمام كنز حقيقي لا يقل قيمة عن صناديق الذهب
والمجوهرات التي يتم العثور عليها بعد سنوات وربما قرون في قبو مهمل بقصر قديم . لكن الواقع حتي الآن لم يكشف أيا من هذه الكنوز ، فالورثة يعرفون كل ما بالقبو الاكتروني باعتبارهم المسئولين عنه . عندما سألنا إيمان ابنة الأديب الراحل خيري شلبي عن مصير البريد الالكتروني لوالدها أجابت ببساطة أنها تملك كلمة السر لأنها هي التي كانت تتولي إرسال واستقبال رسائله ، والأمر نفسه انطبق علي رحاب ابنة الروائي الراحل محمد عبد السلام العمري ، لكن رحاب أضافت أن الحنين ظل يربطها بحساب والدها علي الفيسبوك ، لدرجة أنها نشرت بعض " البوستات " عبرها . ولأنها تنشر باسمه لكونها تمتلك كلمة السر فإن الأمر يبدو لمن يطلع علي الصفحة كما لو كانت روح العمري تزور محبيه !
لا يختلف الأمر كثيرا مع الأحياء ، فالدكتور زاهي حواس وزير الآثار الأسبق يؤكد أن أحد مساعديه يدير بريده الإلكتروني ، لكنه يشير إلي أن أبناءه لا يملكون كلمة السر لسبب بسيط ، هو :" أنهم لم يطلبوها " . لا يبدو حواس منزعجا مما ستئول له مقتنياته علي الإنترنت لأنه ينشرها أولا بأول في مقالاته وكتبه ، إذ أنها لا تخرج عن كونها أبحاثا علمية ترتبط مراسلاته بها ، لا توجد بها أسرار ، كما أنه يحذف أي بريد غير مهم أولا بأول . نسأل عن أمثلة لما يتم حذفه فيجيب : " رسائل المعجبات إذا خرجت عن المألوف " . نستفسر من جديد فيوضح ضاحكا: " جاءتني رسالة قبل فترة من سيدة تؤكد أنها ستنتحر إذا لم أتجاوب مع انجذابها لي ، فقلت لها انتحري ، وحذفت الرسالة ومنعت استلام أي رسائل أخري منها ". علاقته مع الانترنت تقتصر علي البريد الالكتروني ، أما الفيس بوك و تويتر فلا يهتم بها رغم أن عدد معجبيه علي الأخير يتجاوز 120 ألفا ، ويبرر ذلك بأنه لا يرغب في الدخول بمهاترات تضيع الوقت بلا فائدة .
كلمات سر المشاهير إذن منزوعة السرية ، والأمر لا يقتصر علي المنطقة العربية ، حيث يوضح خالد الغمري : " معظم حسابات المشاهير والمبدعين والسياسيين وغيرهم من الشخصيات العامة يقوم بإدارتها آخرون ، وأحيانا فريق عمل كما هو الحال مع الرؤساء مثل أوباما وبعض الأدباء كباولو كويلو الذي لا تزال حساباته علي تويتر وفيسبوك نشطة حتي بعد وفاته. وفي المقابل هناك مثلا حساب تويتر الخاص بالممثل الأمريكي "روبين ويليامز" الذي انتحر منذ شهور، لكنه توقف عن التغريد بعد وفاته بناء علي رغبة ابنته التي امتنعت هي الأخري عن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بعد وفاة والدها ".
لكن المستقبل قد يختلف ، يضيف الغمري : " الحالة التي خلقها العالم الافتراضي بجوانبها القانونية والنفسية والاجتماعية سوف تغير كثيرا من القوانين والتقاليد السائدة في التعامل مع التركة الإبداعية، وعندما يتم تأصيل التقاليد القانونية للتعامل مع هذا العالم سوف يفاجؤنا الورثة مستقبلا بكثير من الأسرار والمذكرات
لصوص المقابر
عندما رسخت فكرة الموت وطقوسها بدأ الإنسان يبدع في تشييد المقابر ، لأنها تمثل محطة للانتقال بين عالمين . كانت المقابر في البداية تحمل قيمة دينية تدفع البشر إلي الاهتمام بها ، لكن بعد قرون حظيت بنوع آخر من الاهتمام ، ففي فترة حكم رمسيس التاسع " 1142 1123 ق.م. " تم اكتشاف أول حالة سرقة للمقابر في التاريخ ، استهدف اللصوص جبانة البر الغربي بمدينة الأقصر لأنهم يدركون أنها عامرة بالكنوز . استغرق الأمر وقتا طويلا بين اختراع المقبرة "!" والسطو علي مقتنياتها ، غير أن تسارع الأحداث في العالم الرقمي يبدو هائلا إذا قورن بنظيره في مرحلة تشكل الحضارات الأولي . علي شبكة الإنترنت ينتشر " الهاكرز " كتطور طبيعي لقطاع الطرق واللصوص العاديين ، لكن الهدف واحد . إنها الرغبة في الكسب السريع عبر اصطياد الكنوز حتي لو تم ذلك عن طريق نبش القبور . سؤال فانتازي يطرح نفسه : هل يمكن أن يفرز المستقبل نباشي قبور إلكترونيين يستهدفون حسابات المشاهير دون غيرها بحثا عن أي مقتنيات ذات قيمة؟ نطرح السؤال علي الدكتور زاهي حواس فيرد بكلمة مقتضبة : " ممكن " .
تناسخ الأرواح
في بعض المعتقدات القديمة ظهرت فكرة تناسخ الأرواح . إنها الفكرة التي تقوم علي أن الروح تنفصل عن الجسد بعد موت صاحبه وتحل في أجساد أخري وعبر أزمنة مختلفة . وبعيدا عن الجدل الذي يدور حول هذا المعتقد يصبح الفضاء الإلكتروني أكثر ملاءمة لفكرة الحلول ! بقليل من الخيال سوف يبدو الأمر أكثر وضوحا ، حيث يمكن لكل منا أن ينشيء حسابا علي الفيسبوك مثلا ، لكن علي عكس السياق السابق للموضوع الذي يموت فيه صاحب الحساب أولا يمكن أن يحدث الموت بشكل معاكس ، فوفقا لضوابط موقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يجد أي منا نفسه مطرودا من حسابه فجأة لأنه اخترق القواعد . حيث يتم إعلان موت الحساب بغلقه نهائيا . إنه الموت بالسكتة الإلكترونية الذي تسبقه عادة تحذيرات تنذر بأنه دخل مرحلة الاحتضار . بمجرد أن يقوم " عزرائيل " الفيسبوك أو غيره من مواقع تقديم الخدمة - بقبض روح الحساب لا يمكن الوصول إليه إطلاقا ، يصبح مجرد اسم مصمت علي قوائم أصدقائه لا يستجيب لأي ضغطة ، كل من يحاول الضغط عليه يواجه بجملة مختصرة تشير إلي أن الحساب لم يعد موجودا وأنه وحده من يري الاسم . وأي محاولة لإجراء بحث عنه ستبوء بالفشل . هنا يكون الحساب قد حصل علي شهادة وفاة رسمية رغم أن صاحبه لا يزال حيا . الجسد " الحساب " أصبح ميتا ، لكن الروح " صاحب الحساب " هائمة في الفضاء الإلكتروني ، يشعر صاحب الحساب الصريع ببعض الأسي علي ذكرياته التي ضاعت إلي الأبد ، كما أن من ارتبطوا به وجدانيا من أصدقاء الانترنت سيواجهون شعورا بالفقد حسب مستوي العلاقة ، تماما مثلما يحدث في الواقع . بعد فترة سوف ينشيء الشخص نفسه حسابا آخر ليحل فيه ! يحمل سماته الشخصية نفسها أو يقوم بتغييرها مرتديا قناعا جديدا .
خلال فترة بحث ماضية كررت التجربة نفسها لمرات عديدة علي الفيسبوك والياهو ، حادثت بعض من تعارفت عليهم إلكترونيا بعد أن حلت روحي في جسد جديد ، قليلون جدا هم من شعروا بأنهم كانوا يعرفونني من قبل . بدوري عايشت تجارب غيري من الأرواح الهائمة ، وكنت أشعر في مرات عديدة أنني أمام الشخصية نفسها . وهو أمر لا يمكن التأكد منه إلا بالحصول علي اعتراف صريح ممن أشك فيه ، وربما يكون حدسي خاطئا . لكن الثابت أن الفضاء الإلكتروني أصبح مكتظا بالحسابات وعناوين البريد الإلكتروني الميتة ، فيما يشبه المقابر الجماعية ، لكن علي عكس الواقع أصبحت الحياة بعد الموت حقيقة قائمة ، وتحول تناسخ الأرواح من مجرد فرضية إلي أمر واقع .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.