خرجت علينا أخبار الأدب في عدد 23 نوفمبر الماضي بسبق صحفي تمثل في "ورقة" للنقاش أشرف علي وضعها وزير الثقافة الحالي وتهدف لطرح تصور عن السياسة الثقافية للدولة، ولكن بقدر ما سعدت بأن الدولة ستبدأ أخيرا في تبني سياسة معلنة تجاه العمل الثقافي بقدر ما أحبطت من محتوي هذه الورقة. تبدأ الورقة بجملة كاشفة جدا بالنسبة لي- عما تحتويه من جهة وعن الرؤية التي تتبناها الدولة تجاه الثقافة بمعني عام، فالورقة تري في فقراتها الأولي أن دور السياسة الثقافية هو "إعادة تشكيل بناء الإنسان"، وتقول بوضوح أن "السياسة الثقافية هي توجهات الدولة الأيديولوجية"، إنها جمل معبرة عن ثقافة رجال الدولة أكثر مما تعبر عن فهم لواقع الثقافة الحالي. فالثقافة بمعناها الواسع (المكتوبة والمقروءة والمسموعة والراقية والدينية) التي يسيطر علي إنتاجها وتداولها القطاع الخاص والإبداع المستقل والتمويل الذاتي مازال البعض يظن أنها يمكن أن تستخدم في بناء نماذج للمواطنين المثاليين/الشرفاء الذين ترغب فيهم الدولة. إن هذه الرؤية -التي لا تمت للواقع بصلة- علي الأغلب امتداد لرؤية "الأخ الأكبر" الذي يعرف مصلحة رعاياه ويراقبهم ويسعي لتشكيل وعيهم بما يناسب "توجهات الدولة الأيديولوجية". ويسعي الأخ الأكبر من خلال هذه الورقة إلي التأسيس النظري لتجنيد "موجهين ثقافيين شعبيين" (ألا يذكرك هذا بالشرطة المجتمعية)، وهو أمر طبيعي إذا كنت تعمل للترويج ل"توجهات الدولة الأيديولوجية" وتهدف إلي "إعادة تشكيل بناء الإنسان"، فلابد لك من ظهير (أو لنقل بصاصين) في أوساط الشعب. ولكن السؤال الذي ألح علي ذهني بعد قراءة تلك الجمل مرارا وتكرارا هو: هل للدولة المصرية أيديولوجيا معلنة؟ أم أن الوصاية علي الشعب هو أيديولوجيا بحد ذاتها! شكليات واحدة من ملاحظاتي علي الورقة قد يعتبرها البعض شكلية، فالورقة تشرح في ثلثي حجمها تقريبا الأسس التي ترتكز عليها وتفرد نحو ثلثها فقط للسياسات المقترحة، ورغم أن الورقة تناقش بالتفصيل التحولات التي شهدها المجتمع المصري منذ ثورة 25 يناير 2011 إلا أنها تمر بسرعة شديدة علي أحد أهم اقتراحاتها "ثورة تعليمية شاملة"، فلا تقدم أي شرح لها ولا أي توضيح لكيفية التأسيس لها سوي بالسلب فهي "تحاول إلغاء عملية التعليم التلقينية" وفقط! وتنتقد الورقة بشدة "عدم الاعتراف بالمديرين والرؤساء وشرعية الانقلاب عليهم ومحاصرتهم في مكاتبهم والدعوة إلي فصلهم أو تغييرهم" وتعتبر ذلك أحد مظاهر أزمة القيم في مصر!! فهل سمع معدو الورقة باعتصام المثقفين في 2013 والذي كان مقدمة للإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي! وهل سمعوا بمحاصرة قصر الاتحادية والإطاحة بمرسي وقبله مبارك! ثم تتحدث الورقة في موضع آخر عن تجربة لمحو الأمية في الريف بمشاركة السيد ياسين ونادر فرجاني وعبدالباسط عبد المعطي وعزالدين نجيب (مع حفظ الألقاب) انتهت علي يد أمن دولة مبارك، ولكن رغم أن الدرس المستفاد بوضوح هو أن التدخل الأمني يفسد العمل الثقافي التنموي إلا أن الورقة تنتهي إلي أن الدرس المستفاد هو (إثبات أن تطبيق ما يعرف ب"التنمية الثقافية الجماهيرية" يحتاج إلي إجراء مسوح اجتماعية وثقافية)!!! واقع يفوق الخيال الجزء الأخير من الورقة والمتضمن للاقتراحات العملية يبدو مثيرا للسخرية، فهو لم يكن مقتضبا بشدة فحسب، بل أقل مما تنفذه وزارة الثقافة وحدها. فاستثناء الاقتراحات ذات الطابع الانشائي مثل "نشر ثقافة التجدد المعرفي الدائم" و"تجديد القيم المصرية" فإن الاقتراحات العملية الوحيدة التي تقدمها الورقة تتلخص في نشر بعض الكتب التي تنشرها المؤسسات الحكومية بعضها أو ماهو مثيل لها بالفعل. ويبدو أن معدو الورقة لم يسمعوا عن تعاون وزارة الثقافة مع المجتمع المدني والنشاط الثقافي الخاص والمستقل، هل يعرفون أن المركز القومي للترجمة يتعاون مع ناشرين من القطاع الخاص ومع مؤسسات ثقافية مانحة عند إصدار بعض كتبه! هل يعرفون أن مركز الإبداع بالأوبرا سوف يستضيف عروضا لمهرجان سينما المرأة! هل.. وهل.. وهل.. العديد من التساؤلات طرحت نفسها أمامي بشأن هذه الورقة. إن الورقة التي تدعي أنها تنتمي لعالم ما بعد السرديات الكبري تعمل وفق نموذج الراعي "الأيديولوجي" للمجتمع، الذي يهتم بقيمه وأخلاقه وتشكيل مواطنيه علي حسب رغبة السلطات، الأمر الذي جلب إلي ذهني فورا نماذج ومحاولات أخري علي هذا المنوال من روسيا ستالين إلي كوريا الشمالية إلي إيران الخوميني.. وسؤالي الباقي: أي هذه النظم هو مصدر إلهام هذه الورقة!