رضوي عاشور مبدعة وناقدة وأستاذة جامعية لم تفاضل بين مقاعدها الثلاثة بل أميل لكونها أشركتهم في لعبة الأواني المستطرقة بحيث يدعم كل منها الآخري؛ مواقفها الوطنية والعروبية معروفة للجميع، وبالمثل نضالها الحياتي بالتمرد علي الكثير من التقاليد البالية، وبناء الذات باستقلالية تامة، وكذلك سجاياها الإنسانية، فهي شديدة الألفة والتواضع وقليلة الظهور في الإعلام، ومن أقوالها الدالة: "ليس المهم أن يكون الإنسان ماركسياً أو بوذياً أو مسلماً أو مسيحياً.. المهم أن يكون ماركسياً شريفاً أو مسلماً شريفاً أو مسيحياً حقاً" لكن قوة مواقفها لن تنسينا مساهماتها الرائعة إبداعًا ونقدا، وهذا الكتاب "التابع ينهض" هو الذي التقطته يدي بعدما علمت باشتداد حدة المرض عليها وإدخالها لوحدة العناية المركزة، هذا الكتاب كان الجسر الذي أوصلني بعالم رضوي عاشور الفكري، قبل أن ألتقيها في الواقع، وقبل أن تلج إلي عالم الإبداع الروائي والقصصي؛ في "التابع ينهض" أرادت أن ترد علي مقولة الغرب بخصوص أن الأدب الأفريقي الحديث يستمد قيمته فقط من كونه ردًا علي أوضاع جائرة "سياسية بالأساس" وأنه سيفقد هذه القيمة بزوال تلك الأوضاع. درستْ رضوي أدب بلدان غرب أفريقيا وقدمت للقارئ العربي عددا كبيرا من الروايات لتدحض هذه المقولة، بتناول نشأة الرواية هناك وبعرض جهود أفرقة الشكل الروائي بالرجوع للتراث الأفريقي واستلهام حكاياته وأساطيره، كما جعلت فصلا لانتقاد الزنوجة كموقف رومانسي متعدد المزالق، وفصلا لمناقشة علاقة المبدع الأفريقي بتاريخه، ومنه تعرفت بالعملاق "تشينوا أتشيبي" بروايتيه الشهيرتين: الأشياء تتداعي وسهم الله. ما أودعه هذا الكتاب بنفسي من تصور حول رضوي عاشور هو نفس ما وجدته في أعمالها الإبداعية الشهيرة: ثلاثية غرناطة والطنطورية وغيرهما في السنوات التالية، ألا وهو: مزيج من الرقة والصلابة، فالصلابة بمواجهة الظالم والمستبد، والرقة مع المظلوم والمقهور والتابع.. حتي ينهض، لم يخلُ أي عمل من أعمالها من ثيمة التحرر الوطني والانساني، وهذا خيار فكري خاص يحتاج لمعايير نقدية غير معتادة، هذا اختيار لم تنكره رضوي.. "أكتب لأنني منحازة، أعي العنصر الأيديولوجي فيما أكتب وأعتقد أنه دائما هناك في أية كتابة، ولكن لو سألتموني الآن هل تكتبين لكسب الآخرين إلي رؤيتك؟ سأجيب بلا تردد: ليس هذا سوي جزء من دوافعي". ينتهي كلامها وأضيف: بل وحتي لو هو الجزء الأهم من دوافعها، فيكفي رضوي أنها كتبت فقط ما تريد أن تكتبه، وطورت جمالياتها في الحدود التي تخدم كتابتها وقضيتها دون أن تولي أدني اعتبار لموضات "صرعات" الكتابة، كما لم تخضع لابتزاز من ينصبون أنفسهم حراسا علي القيم الجمالية أو من يسعَون لتنميط الذائقة؛ ويبدو أن ما يأتي من القلب يذهب للقلب أيضا مباشرة، لأن الصدق أمضي من أي سلاح جمالي آخر، وبينما يكثر المدعون في الكتابات الأدبية المحملة بأعباء وطنية إلا أنه ثمة ما يشبه الإجماع علي أن الادعاء لا يمس كيان رضوي عاشور ولا كتاباتها قط، فلا عحب أن يكون قراؤها بعشرات الآلاف، وأغلبهم من الشباب، وأعتقد أن هذا المعيار هام للغاية؛ تقول رضوي: "وحتي عندما ارتبك المسار لم يهتز اليقين..لأنني ساذجة؟ لأنني متفائلة إلي حد البلاهة؟ لأنني اؤمن بقشة الغريق فلا أفلتها أبدا من يدي؟ربما". أعيد قراءة "التابع ينهض" فيما لم يسعدني الحظ بلقائها في الفترة الأخيرة وأخذ النسخة التي حفظتها لي من فترة طويلة من كتابها الأثير لديها: الحداثة الممكنة.. الشدياق والساق علي الساق. الرواية الأولي في الأدب العربي الحديث" فقد كان الوقت قد تأخر وتعذر اللقاء. شكرا رضوي عاشور علي إصرارك علي الكتابة حتي النفَس الأخير، شكرا لكل ما تعنيه من رقي ورحابة وإخلاص.