غادر دنيانا الكاتب ذو الموهبة النادرة والإبداع الفذ محمد إبراهيم مبروك. مؤلف المجموعة القصصية عطشي لماء البحر ،والذي جمع مقالاته في مجلة النديم وأصدرها المجلس الأعلي للثقافة في كتاب تحت عنوان : زمن الكتبة يأفل وأزمنة الكتاب تجيء, والذي تعلم الأسبانية بعد الخمسين من عمره اعجابا بماركيز ،وترجم الي العربية عددا من قصص أدباء امريكا اللاتينية . عندما صدرت مجموعته الأولي (نزف صوت صمت نصف طائر) شدت الانتباه بقوة زخمها الحسي وعنفوانها العاطفي ،برحابه آفاقها ودوي إيقاعاتها. وجرأة تحررها من أسر المألوف والمباح، وتدفق لغتها بصور مفعمة بتيارات شعورية هادرة. وقد ظن بعض النقاد أن مبروك يخطو فوق ارض لم تطأها قدم ،وأنه يرغم اللغة علي الافصاح عما لم تخلق للإفصاح عنه. لكن اللغة عند مبروك لم تكن البلاغة والصورة المتوهجة لان اللغة عنده ليست هدفا في ذاته ، انها التعبير الأدبي لرؤي جديدة تحلق خارج الهياكل الفكرية السائدة، هي لغة لاتنتمي لعالمه او بيئته او الدائرة الوطنية أو الاقليمية هي تنتمي للعالم وللإنسان : لجماهير البشر الكادحين عبر كل العصور ،الذين يكابدون العمل في حقول الاقطاع وعنابر الرأسمالية المتوحشة ،الجنود في جيوش النازية والفاشية وحروب التنافس علي المستعمرات، الاسري في معسكرات الأباطرة المستبدين, وضحايا الاوبئة والمجاعات والسيول ... الخ. وقد ظن مبروك أنه أحد أدباء جيل الستينيات في القرن الماضي . لكن ما كان يجمعه بذلك الجيل هو صدفة التزامن, فهو لم يكن قارئا للأجيال السابقة من الأدباء العرب (إلا في حدود وفي متابعة للموهوبين النادرين منهم ) كان ما يجذبه هو كتابات الأدباء الكبار في الشرق والغرب (تشيكوف ودستوفسكي وتولستوي وفوكنر وفرجينيا وولف وتنسي وليامز ويوجين اونيل). كانت نظرته الشاملة للعالم قد الهمته تقمص تجربة المسيح ولذا احتوت قصصه علي مفردات من القصة الانجيلية مثل الاب والابن والعذراء والصليب والزيتون والبشارة والقيامة. وقد ظل مبروك مخلصا لرؤاه العامة لا تغريه الشهرة أو الجوائز ،وظل يشارك مع المجموعات الخارجة علي هياكل السلطة الرسمية ،مثل جماعات أدب الغد وكتاب الغد وظل يؤمن أن الكتابة إبداع ينتمي للناس وللأجيال الجديدة وللرؤي العصرية والمستقبلية. في قصته (نزف صوت) صمت, جحيم أبد الرحم, شلالات الكهف الداعر، ومسيح المراسيم المحالة في كل تلك القصص بطل واحد يحيا تجربة روحية كأنها مرايا متعددة الزوايا ، ليس للبطل اسم ولا يحمل ملامح تنبئ عن بيئته أو تكوينه النفسي أو الثقافي، وقد بلغ سن الرجال لكنه ظل يحمل في صدره قلب طفل برئ يطل علي العالم ولا يكف عن الدهشة او الحيرة او البحث عن يقين. وقد وجد في أدباء أمريكا اللاتينية ضالته. إذ غابت عنها الرؤي الزائفة والإنجازات الشكلانية والضبابية ووجد فيها روح الانتماء للشعوب وللانسان. ظل مبروك كاتباً فريداً صادقاً مع نفسه ومع أبناء جيله ،يحتفي بالادباء الجدد، ويعشق ما هو مشترك بين الأدب وفنون المسرح والسينما والموسيقي وكان يؤمن أن الأدب الحقيقي يتجاوز العمر الشخصي لمؤلفه ويخاطب أجيالاً مقبلة تقرأه بشغف واهتمام علي طول المدي.