يقول ابن خلدون في مقدمته "أهل الحضر ألقوا جنوبهم علي مهاد الراحة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلي واليهم والحاكم الذي يسوسهم والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلي الأسوار، فهم آمنون قد ألقوا السلاح وتوالت علي ذلك منهم الأجيال. بينما أهل البدو فهم لتفردهم عن المجتمع وتوحشهم في الضواحي، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكونها إلا سواهم، يتفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم واثقين بأنفسهم قد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية" يصلح هذا المقتطف لطرح عدد من الأسئلة حول ثقافة الهامش، و ثقافة الحدود، وكذا العلاقة بينهما، ومع ندرة الدراسات المكتبية والميدانية التي تناولت المجتمعات أو الجماعات المصرية التي تعيش علي الحدود، وبالرغم من الصعوبات العلمية والعملية للإحاطة بثقافة الحدود المصرية، الأمر الذي يحتاج لمشروع قومي تكون مقدمته الثقافة؛ الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي، وهو ما سنطرحه هنا عبر كتابة متصلة، وندرك أن هذه الخطوة المقدمة الحقيقية لاستعادة مصر لدورها ، والوقوف أمام أية ثقافة غازية أو الثقافات الخليط التي تتصارع عناصرها في أماكن العبور ، وتعد هذه الدراسة خطوة ممهدة لاقتحام هذه العوالم المجهولة، وخلخلة القناعات الثابتة والتعريفات الكسولة لهذه المجتمعات وما يدور حولها من الاصطلاحات، وكذا تفجير القضايا المسكوت عنها التي يشتبك فيها الثقافي بالسياسي، والاجتماعي بالجغرافي .. إلخ، بل تشتبك جميع العناصر لنصبح أمام مقولة الثقافة بوصفها الكل المركب الذي يمكن أن نقرأ من خلاله الحال والحالة، في هذا السياق تضعنا هذه أمام ثلاثة أنوع من الأهمية : أولا الأهمية النظرية تكمن الأهمية النظرية لدراسة ثقافة الحدود في عدد من النقاط الجوهرية لعل منها : محاولة إضاءة وإثراء الدرس العلمي لهذه المناطق التي غاب عنها العلم كثيرا، وإزاحة ركام الغيوم المتواترة عن ثقافة بعض الجماعات أو المناطق بشكل لا يستند إلي أية دراسات ميدانية . إثراء حقل دراسة التراث والمأثور الشعبي بما يضمها من أنواع : المعارف والمعتقدات الشعبية العادات والتقاليد الفنون الشعبية (قولية موسيقية حركية - تشكيلية) الثقافة المادية. توسيع مساحة الدراسة من خلال المنهج الأنثروبولوجي، واختبار الأدوات والوسائط في مناطق تتعرض لتغيرات حادة بوصفها مناطق عبور ثقافات من المتن إلي الحدود، والعكس. إتاحة الفرصة لتعريف القارئ بمنظومة الثقافة في هذه المناطق التي همشت طويلا لأسباب سياسية جيوبوليتيكية جغرافية . الوقوف علي مناطق المقر ومناطق الممر أو المناطق التي تجمع بين السمتين، لأن كل واحدة منهما حسب توصيفها الإثنوجرافي ستمنحنا دلالات ثقافية فيما يتعلق بعدد من القضايا مثل : الاتصال الثقافي الاتجاهات المركزية الموروث المشترك .. إلي آخر القضايا التي تضمرها الاصطلاحات الإثنولوجية فيتعمق العلم من خلال الدرس الميداني ويصبح مقدمة ضرورية لتنمية المجتمعات الحدودية علي أسس دقيقة تراعي الأبعاد الثقافية قبل وأثناء وبعد عمليات التنمية . ويجدر الإشارة هنا إلي أهم أسباب عدم الخوض في المضمار الشاق لهذا النوع من الدراسات وهو ما يتمثل في صعوبة الإمساك بالمدخل الثقافي لقراءة منظومة القيم التي تحكم هذه القبائل والجماعات التي دأب البعض علي وصفها بأنها جماعات إثنية ليس لوصفها فحسب لإبعادها وتجنيبها في عمليات الفرز الفوقية التي تقوم بها السلطات المركزية لإزاحة هذه المناطق وعدم تحمل مسئوليتها من وجهة نظر البعض لأنها : قليلة العدد ولا تمثل وزنا علي المستوي الديموجرافي . مجموعات أو جماعات آثرت أن تعيش بعيدا عن هيمنة الدولة فتركتها لحالها ظنا أنها لا تمثل خطرا من أي نوع . مقدور عليها في أي توقيت يمكن أن تخرج فيه علي سلطة الدولة المركزية. مجموعات أو جماعات ترزح تحت نير التخلف أو تعيش راضية علي هامش التاريخ والجغرافيا، لذا فلا ينشغل المركز بها من خلال آلياته الضابطة، خاصة إذا كان الهامش لا يمثل له أية ضغوط من أي نوع ولا تظهر هذه الهوامش علي الحدود في بؤرة الضوء حتي لو كان بشكل مؤقت إلا حال حدوث مشكلات قبلية يهتز لها المركز، أو مشكلات حدودية كنتاج للتهميش المستمر الذي يجعل هذه المناطق تبدي انحيازا لمن ينشغل بها أو يفتح لها بابا لإثارة نعرات النسب الإثني والمكاني أو إثارة قلاقل سياسية. ضيق الأفق الثقافي الذي يحول دون فهم الأبعاد الثقافية لعدد من المشكلات التي يمكن رصدها في المناطق الحدودية، والتركيز فحسب علي الأبعاد الأمنية والسياسية. ثانيا: الأهمية التطبيقية تسعي بعض أقسام الأنثروبولوجيا لتفعيل ما يمكن تسميته بالأنثروبولوجيا التطبيقية applied anthropology وذلك من خلال "تدعيم البحث العلمي بالأسس التي تتحكم في علاقات الكائنات البشرية ببعضها وتشجيع هذه الأسس علي نطاق واسع في حل المشكلات العملية "، وتصف ليزا بياتي هذا الميدان بأنه " جزء من حركة عامة في العلوم الاجتماعية للابتعاد عن الدراسات الإنسانية والاقتراب من نموذج العلوم الطبيعية والبيولوجية" (راجع مادة : أنثروبولوجيا تطبيقية، قاموس مصطلحات الإثنولوجيا والفولكلور، إيكه هولتكرانس، ت: د.محمد الجوهري، د.حسن الشامي، دار المعارف بمصر، 1972، ص 54) ، ويمكننا هنا أن نرصد عدة نقاط تصب في أهمية هذا النوع من الدراسات علي المستوي التطبيقي، وذلك علي النحو التالي : تأكيد الانتماء المكاني من خلال دراسة السمات الثقافية وما بينها من اختلافات ومشتركات عند الجماعات التي تعيش علي حدود محافظتين أو دولتين أو قارتين. ربط هذه المناطق وثقافتها بالثقافة الأم وتعميق الصلات واقعيا بين أفراد الجماعات المحلية التي تعيش في المناطق الحدودية وبقية مناطق المعمور المصري. إتاحة البيانات الإثنوجرافية، فضلا عن نتائج الدراسات العلمية المتعددة لمؤسسات الدولة للإفادة منها في المجالات الحياتية المختلفة مثل: الصحة - العمارة- التعدين - التجارة التعليم - السياحة ... إلخ . توطين سكان المجتمعات الحدودية بشكل علمي يعتمد علي معطيات العلم بعيدا عن العشوائية والفوضي التي ساهمت في نفرة ورفض هذه التجمعات لما تقدمه مؤسسات الدولة . ثالثا : الأهمية المنهجية إن هذا النوع من الدراسة ليس نوعا من الجدل العقلي أو الرفاهية العلمية، لكنه يقوم بالدرجة الأولي علي العمل الميداني، وهو يحتاج إلي عدة وسائط مهمة حتي يتسني لأي دارس القيام بمهمته بشكل علمي لعل أولها : إعداد دليل عمل ميداني يعتمد علي ما تم إنجازه من جمع ميداني field work، كذلك الكتابات التي كتبت عن المناطق المدروسة (جغرافية تاريخية كتب الرحلات) disk work، كما سيعتمد أدوات البحث الميداني التي خبرها علما الفولكلور و الأنثروبولوجيا ومنها: الدراسة الاستطلاعية pilot study - الاستعانة ببعض الأدلة من أبناء المنطقة- مقابلة الرواة والإخباريين - الملاحظة - الملاحظة بالمشاركة - المعايشة. وتكمن الأهمية المنهجية هنا في اختبار الأدوات الميدانية وإعادة النظر فيما لا يصلح منها لمجتمع الدراسة، خاصة أن دراسة الحدود وثقافتها لا يمكن أن تتم بنفس الطريقة التي تدرس بها المجتمعات الأخري، كما نشك في صلاحية دراسة ثقافة الحدود بنفس الأدوات في كل الحدود، كذلك اختبار أدلة العمل الميدانية في ضوء الوقائع والممارسات التي يتم معاينتها في الميدان، فضلا عن تصحيح بعض المفاهيم المغلوطة التي انتشرت عبر ثقافة الشائعة أو من خلال النقول من كتب تراثية أو تاريخية لم تعرك الميدان أو عفا عليها الزمن فلم تعد مادتها قادرة علي وصف أو تحليل ثقافة المناطق التي يجري عليه الدرس الميداني الحالي، ويمكن من خلال هذه الإجراءات وتناميها أن يبلور العلماء منهجا خاصا بثقافة الحدود بعد دراسة أنساقه الاقتصادية الثقافية الدينية . إن الإشكاليات التي تحوطنا في هذا المقام متعددة وشائكة في آن واحد، وهي تضع أيدينا علي مكامن خطرة فيما يتعلق بثقافة الحدود، حيث تنفتح عدة نقاط جوهرية يجب النظر لها في إطار كلي، من هنا ينبغي التأكيد من جديد أنه من العصي علي باحث فرد وعبر دراسة مفردة أن يقوم بمعاينة الحدود وثقافتها معاينة ميدانية، فمثل هذه الدراسات الموسعة مشروعات علمية علي المؤسسات الثقافية والبحثية تبنيها التي تسعي للإلمام بتفاصيل الثقافة وأبنيتها وحركتها بين المتن والهامش بوصفهما حدين أو مرتكزين لمقارنة الحراك الثقافي بين عالمين أو بالأحري بين عدة عوالم تتحرك مع حركة البشر،