أعتبر نفسي مصريًا، مصريًا خالصًا، ما أعنيه بهذا هو أنني أستطيع التعامل عن قرب مع كافة أنواع المصريين. أعرف كيف أمزح معهم، كيف أتواصل معهم، أيًا كانت مكانتهم الاجتماعية، أتقبلهم كما هم. ربما دفعتني وفاة والدي وأنا في الرابعة عشرة من عمري للالتحام بالعالم في سن مبكرة عن أقراني. لم تكن لي رفاهية التمتع بفترة المراهقة. كان يجب أن أتعلم كيف أحيا، عرفت الشارع وحياة الفقراء والمهمشين من المجتمع المصري. أعتقد أن تجاربي اليومية التي عاصرتها في قريتي قحافة هي ما طورَّت شغفي تجاه تحقيق مبدأ العدالة. تلقيت معظم تعليمي الديني المبكر في كتّاب القرية، تعليمًا يعتمد علي التلقين، وعلي قائمة الأولويات حفظ القرآن وتلاوته، وكانت أهدافنا النطق الصحيح والواضح للكلمات العربية، وهو موضع تقدير الأساتذة. حفظت القرآن كاملًا ببلوغي الثامنة من عمري، إلا أنني لم أفهم الكثير مما يقوله النص. شرح لي والدي ووالدتي وإمام المسجد وآخرون من أبناء القرية معني النص. حافظت علي أداء الصلاة خمس مرات يوميًا، وصيام رمضان. كان هناك أناس في قريتي لا يداومون علي تلك الطقوس، وهي طقوس تعد مركزية بالنسبة للإسلام. كان هذا مقبولًا، فلم يكن هؤلاء منبوذين من المجتمع، وأنا لم أعتبر يومًا هذه الطقوس الجزء الرئيسي المكوّن للإسلام. حتي في طفولتي أدركت أن الإسلام يدور حول النمط العام الذي تسير به حياتك، حيث الأولوية للسلوك المستقيم وليس اتباع العقيدة الحرفي. تعلمت في مجتمعي الصغير أن الدين الإسلامي هو دين مساعدة الفقير والضعيف، الوقوف مع المظلوم أينما كان وفي أي وقت. بين عامي 1992 و1995 السنوات التي اتهمت فيها نهائيًا بالردة، ظهرت صورتي باستمرار في الجرائد والمجلات المصرية. يومًا ما بينما كنت أقرأ الجريدة فوجئت بكاريكاتير يصورني علي هيئة شيطان. ظل الرسم يحدق بي، شيطان يطعن القرآن والدماء تندفع من النص المقدس. هكذا أصبح الشعب المصري علي معرفة جيدة بوضعي. في مساء أحد الأيام، توقفت في طريقي أنا وابتهال للمنزل، عائدين من الجامعة، عند سوبر ماركت لشراء بعض المستلزمات لإجازتنا الطويلة. دخلنا السوبر ماركت، جمعنا الأغراض التي نريدها في عربة التسوق، تحركنا للرحيل قبل أن يقف أمامي رجل كبير في السن أخذ يحملق بي، هيئته ذكرتني بوالدي وجدي، بل وكل الآباء في مصر. أدركت أنه تعرف عليّ، بدأ يدور حولي، يتفرسني وينظر لي من أعلي وأسفل، ثم سألني "هل أنت..؟". كنت علي دراية بما يريد قوله، ففي ذلك الوقت أينما ذهبت كانوا الناس يسألونني أن كنت الرجل المتهم بالهرطقة، وكنت أجاوبهم: "نعم نعم، أنا هو"، بنبرة صبر مستهزئ يشعر بالملل. أما هذا الرجل المسن ففقد أعصابه وبدأ يصرخ في وجهي، فتجمع الناس حولنا "ألا تشعر بالخجل من نفسك؟ يجب أن تفعل. أنا أعرف أن والدك رجل مسلم، أليس كذلك؟.. نعم بالفعل، واسمه حامد"، وهو اسم في العالم العربي لا يخفي انتماء صاحبه الديني. استمر الرجل موجهًا حديثه إليّ: "كيف تعتبر نفسك مسلمًا؟ كيف وأنت من أبوين مسلمين تهين القرآن الكريم، النبي محمد والإسلام، ألا تشعر بالخجل من نفسك؟ لا بد أنك مجنون". ثم استمر الرجل يردد هذه الأسئلة مرة بعد مرة، فقط مع ترتيب مختلف للأسئلة والاتهامات. سألته في النهاية: "من فضلك، هل انتهيت؟"، أجاب: "نعم، انتهيت". "حسنًا، من فضلك استمع لي، لقد شاهدتني لمدة عشر دقائق في هذا السوبر ماركت، شاهدت كل إنش من جسدي ووجهي، هل هذا صحيح؟". وافقني الرأي: "نعم، هذا صحيح". "إذن أخبرني، إذا لم تكن علي دراية بسمعتي، ما هو الانطباع الذي كنت ستأخذه عني؟ هل أبدو لك في حاجة لعلاج نفسي؟ أم أبدو طبيعيًا؟ أنت بالفعل لا تعرفني بشكل شخصي، ما هو حكمك؟". اعترف قائلا: "أنت تبدو مثل الجميع". سألته: "إذن، أنا لست مختلًا عقليًا، لست مجنونًا؟". "لا، لا تبدو مجنونًا". أكملت المحادثة قائلًا: "أخبرني إذن، لو أن شخصًا لا يبدو مجنونًا، بل طبيعيًا، مثل ابنك ربما، يعمل في جامعة القاهرة في مجتمع مسلم مثل مصر، وأراد الحصول علي ترقية ترفع من راتبه ليوافق الزيادة في أسعار المعيشة، هل تعتقد أن هذا الشخص الطبيعي لو تقدم لنيل ترقية سيعلن إلحاده أمام لجنة الممتحنين؟". بدا العجوز منصتًا، فتابعت: "أنا لا أتحدث عن إذا كان ملحدًا أم لا، لدينا بالفعل ملحدون في مجتمعنا ويظهرون أنفسهم كمؤمنين، لكن لو لم تكن صائمًا في رمضان، هل ستذهب لتأكل أمام الجميع؟ بالطبع لا، ستذهب لتأكل خلف باب مغلق. إذن حتي لو كنت ملحدًا، هل كنت سأعلن هذا أمام الجامعة وأطلب منها ترقيتي؟ كيف كنت ستري شخصًا يفعل ذلك؟". أجاب: "سيكون مجنونًا بالطبع". "لكنك قلت لتوِّك إنني لست مجنونًا، هل تعتقد أنني مجنون؟". "هذا صحيح، رجل عاقل مثلي كان سيقدم شيئًا لائقًا للجامعة، شيئًا مخلصًا للإسلام، ثم بعد أن أنال الترقية ربما سأظهر إلحادي، لأنني مثلك تمامًا، الحياة صعبة، أحتاج لراتبي، وهذه هي زوجتي - قدمت ابتهال له - وأنت تعلم الأسعار هنا". تحول الرجل الذي كان يهاجمني منذ عدة دقائق لرجل هادئ، ثم سألني: "إذن، لماذا هؤلاء الناس يتهمونك بذلك؟ هم ليسوا أغبياء، إنهم رجال دين طيبون؟". اتفقت معه: "نعم، هم رجال دين طيبون، هل تريد أن تعرف ما هي المشكلة؟". أجاب في إصرار: "نعم، أخبرني". ."لقد انتقدت هؤلاء الرجال الطيبين، لأنهم يدعمون شركات توظيف الأموال الإسلامية، ولأنهم نفس الرجال الذين سرقوا الشعب المصري". صرخ الرجل: "لعنهم الله جميعًا". لقد كان كل مصري علي دراية بالفضيحة التي تحيط بشركات توظيف الأموال الإسلامية، وحين أخبرني بقصته، عرفت أن هذا الرجل عمل في الكويت لمدة عشر سنوات، ثم أودع كل أمواله التي اكتسبها من هناك في إحدي تلك الشركات وخسرها جميعها. سألني: "إذن، هذا هو سبب كل هذا اللغط حولك؟". أجبت: "نعم هذا هو السبب تحديدًا. هل تعرف اسم الرجل الذي اتهمني بالردة - لقد كان مستشارًا شرعيًا لإحدي تلك الشركات - لهذا السبب انتقدته. أنا مجرد مصري مثلك، ولأنه لم يكن لدي أي أموال لأستثمرها، لم أخسر شيئًا مثلك، لكنني كنت أدافع عنك، عن ابنك وحفيدك، هؤلاء الناس استطاعوا أن يسرقوا الآخرين باسم الدين". انهار الرجل: "يا بني، لم أكن أعرف، أنا آسف، لم أكن أعرف"، ثم تقدم ناحيتي وقبَّلني واحتضنني وسط السوبر ماركت المزدحم. أحسست بالراحة والرضا وأنا في طريقي للمنزل، أقطع مسافة أربعين كيلومترًا، أخبرت ابتهال: "ما أحتاج إليه هو أن أقابل كل مواطن مصري وأشرح له قصتي، كيف أفعل هذا؟". عن طريق التليفزيون بالطبع، أستطيع أن أتواصل جيدًا مع الناس، لكن لا بد أن يكون لي بث مباشر فتجميع قطع من الحديث سويًا لن يجدي. هذا ما أعنيه حين أقول إنني أعتبر نفسي مصريًا خالصًا قادرًا علي التواصل مع الناس من مختلف الخلفيات التعليمية، كما مع غير المتعلمين. لطالما عبّر المصريون عن أنفسهم بعدة طرق، تاريخنا الحديث خاصة يبرهن هذا. كنت ما زلت صغيرًا حين عرفت مصر الضباط الأحرار في 1952، عدد من ضباط الجيش ثاروا علي النظام الملكي، لينتزعوا منه السلطة. كانت تلك نقطة تحول فارقة في تاريخ مصر، أنهك الناس من الفساد الذي استشري في كل جزء من المجتمع، فساد تسببت في معظمه العائلة المالكة، والاحتلال البريطاني منذ عام 1882، مع بعض الأحزاب الصغيرة المتصارعة علي السلطة. عاش المصريون في معاناة، لذا تجمع الضباط الأحرار سويًا، تخلصوا من الملك وأعلنوا جمهورية مصر العربية وبدأوا في إجراء بعض الإصلاحات. رحب الناس بهذا التغير في مسار الأحداث، مصر يحكمها المصريون أخيرًا. خلال هذا التحول اختلفت آراء الناس حول الاتجاه الذي يجب أن يأخذه البلد، تطورت آيديولوجيات وطرق تفكير مختلفة، وحاول جميعهم تضمين الإسلام في رؤاهم الخاصة. بتعبير آخر، وقتها إن أردت أن تحظي بالاستماع لآرائك، كان لا بد أن توازن وجهة نظرك مع الفكر الإسلامي. استولت القومية العربية منذ منتصف الخمسينيات وحتي الستينيات علي مخيلة البلاد، ونُشر عدد كبير من الكتب عن الإسلام والقومية العربية. فسر هؤلاء الكتّاب الإسلام بما يخدم أفكارهم عن الاتجاه والشكل الذي يجب أن تكون عليه دولة مسلمة، وهو الإخلاص والتفاني لمصر. في ذلك الوقت انتهجت الدولة سياسة الاشتراكية، وإنه لمن السهل أن تدعي أن الإسلام يعلم الاشتراكية أيضًا. في ذلك الوقت كنت في أواخر فترة المراهقة وبداية العقد الثاني من عمري، اتفقت مع هذا التفسير الاشتراكي للإسلام، وجدته منطقيًا. إن الإسلام الذي تعلمته وأنا أكبر في قحافة مارس العدالة الاجتماعية، وكان يؤمن بالمساواة بين الناس وحتي بين الرجال والنساء. في الستينيات اكتسبت النساء أرضية معقولة مع تسرب الاشتراكية لوعي المصريين، كان ملاحظًا بشدة التوسع في تعليمهن، وقد أحببت هذا التفسير للدين. وخلال الخمسينيات والستينيات، كان يتم القضاء بسرعة علي أي معارضة للنظام، من الشيوعيين كانت أو الإسلاميين. أصبح جمال عبد الناصر (1918-1970) رئيس مصر الجديد في عام 1954، كان عضوًا في تنظيم الضباط الأحرار الذي أطاح بالنظام الملكي (كما كان كذلك خليفته أنور السادات). دشّن ناصر نظامًا اجتماعيًا جديدًا في البلاد، نظامًا أتاح التعليم للجميع. طه حسين كان يحمل نفس الفكر في بداية القرن، لقد آمن بأن التعليم لا بد أن يتاح للجميع كالماء والهواء. لم أكن لأجرؤ علي الحلم بالالتحاق بالجامعة، دون هذا التحول الاجتماعي، فمصاريفها كانت مرتفعة، وعلي الرغم من هذا أصبحت في النهاية منتقدًا لنظام ناصر. لقد كان هناك صوت سياسي وحيد، وهو صوت الدولة تحت الحكم العسكري، حكم لا يتقبل النقد. روعت كمواطن مصري كيف كان النظام يحكم علي منتقديه بالإعدام. في ذلك الوقت كان لي أصدقاء من الشيوعيين والاشتراكيين وبعض ممن انتموا للتيار الإسلامي ممثلًا في جماعة الإخوان المسلمين.
علي الرغم من أن العديد من الدول رأت في فكر ناصر فكرًا علمانيًا، فإن المصريين رأوه بشكل مختلف، يتضح هذا في محادثة أجريتها مع طبيب يدرس بالولايات المتحدةالأمريكية (1978-1980) لها دلالتها الواضحة. في البداية لم يكن الطبيب علي علم بأنني مصري، لكن مع معرفته بهذا، بدأ في التحدث عن السادات بوصفه بطلًا قوميًا ورجل دولة عظيما. لم أتفق معه، وبدا من سلوكي اختلافي معه فسألني: "ها.. أنت ناصري إذن؟"، حين أجبت بالإيجاب، استنتج فورًا: "إذن أنت شيوعي"، فرردت فورًا "لا، علي الإطلاق"، "لم يكن ناصر شيوعيًا". هذه المناقشة القصيرة أوضحت لي أنه أحيانًا تختلف صورة القائد في بلده كليًا عن صورته خارجه. حتي يومنا هذا أشعر بأنه دون الإصلاحات الاجتماعية التي جاء بها نظام ناصر - حتي في غياب الحرية السياسية - لم نكن لنشهد كل تلك التغيرات الإيجابية التي حدثت بمصر، لقد احتفظت باحترامي لناصر حتي مع انتقادي له. تخرجت في المدرسة الفنية عام 1960، وبدأت بالعمل في المحلة الكبري في قسم البوليس متخصصًا في صيانة أجهزة الاتصالات، مارست هذا العمل لمدة 12 عاما. في عام 1961 التحقت بنادٍ أدبي صغير يضم عددًا من الشعراء وكتاب القصص القصيرة من المنطقة. هؤلاء المشاركون تم إقصاؤهم من التجمع الشبابي المحلي لأنهم يفكرون بشكل نقدي، أكثر مما ينبغي. المثير للتأمل كيف أصبح هؤلاء المنبوذون لاحقًا من أهم الكتاب المصريين. في ذلك الوقت أتذكر أنني أصبحت منتقدًا قويًا لمصر من منظور إسلامي. صار البوليس السري متشككًا من مجموعتنا، وبدأ في تتبع عدد منا، وقبض علي واحد من الأعضاء، وقضي 15 عامًا في السجن. ذهبت لمركز البوليس في غير مواعيد عملي بعد هذا التعرض وإلقاء القبض علي زملائي، لم يكن فعلًا حكيمًا، لكنني بادرت الضابط بالسؤال: "لماذا تتبعني؟". أجابني بأن هذه هي وظيفته، أن يتحقق، شعرت حينها بالاستياء الشديد من هذه العسكرة للمجتمع. خلال ذلك الوقت بدأ المفكرون في إصدار روايات وقصائد تنتقد النظام السياسي المصري، ليس بوضوح بالطبع، لكن باستعارات رمزية. في مجتمع لم تكن حرية التعبير به مكفولة، كان علي المفكرين أن يتوخوا الحذر، بمعارضتهم للنظام السياسي في السلطة. أتاح لي العمل في قسم البوليس التأمل، بل وفي بعض الأحيان الانخراط في عدد من المشاكل الاجتماعية، خاصة المشاكل التي يعاني منها الفقراء والمحرومون والمهمشون. أذكر في هذا السياق حادثة بعينها، جاءت سيدة لقسم البوليس تشتكي أن زوجها اعتدي عليها بالضرب. كانت تنزف، ولم يكن من السهل أن تري مصدر النزيف، تم تجاهلها وظلت هي تنتظر وتنتظر، ماذا كان بمقدورها أن تفعل غير ذلك؟ مهمة البوليس بالطبع في حالة تعرض شخص ما لنزيف أن يتم اصطحابه للمستشفي، لكن لسبب ما تجاهل الضابط هذه السيدة. في مصر لا نعتبر الشرطة هيئة تقدم خدمات عامة للمواطنين، وفي مجتمع سلطوي، حيث يستحوذ ضباط البوليس علي السلطة فقط لأنهم يحتلون هذا المنصب، فهم عادة ما يسيئون استخدام تلك السلطة. النظام السلطوي يعتبر أن من بالسلطة "يعرفون" ولأنهم "يعرفون" فأنت المواطن الذي لا يمتلك سلطة لا يحق لك مساءلتهم من الأساس، ناهيك عن طلب شيء ما. نحن المصريين بشكل عام لدينا تجارب غير سارة مع جهاز الشرطة. تدخلت بالأمر، ساءني تراخي القسم. سألت في ضيق الضابط المسئول، أجابني: "لماذا أنت غاضب؟، هل تعرف هذه المرأة؟"، رددت عليه سؤاله: "لا، هل كان هذا ليحدث فرقًا؟ لا بد أن تؤخذ للمستشفي، وتأمر بإحضار زوجها لاستجوابه، أليس هذا المتبع؟". كنت أعلم أن الوضع لو تطور مع الضابط، فسوف أضع نفسي تحت رحمة معاملتهم السيئة، بل ولن أحقق ما تدخلت من أجله بالأساس، وهو مساعدتها. انتهي الأمر بأن اصطحبت السيدة للمستشفي، ومكثت معها طوال الليل حتي عولجت وانصرفت. عدت مجددًا لقسم الشرطة، سلمتهم تقرير المستشفي وتابعت مهام عملي. بعد يومين أحضر القسم الزوج، ولم أتدخل أكثر من هذا. لاحقًا في نفس اليوم، جاءت المرأة لمكتبي، أحضرت لي وجبة ساخنة من الأرز والدجاج. خشيت أن يتصور الضباط الموجودون أن عدم التكلف الذي تظهره نحوي يدل علي أنني كنت بالفعل علي معرفة بها، لكني لم أرد ذكر ذلك حين تدخلت في قضيتها. أخبرتها: "انظري، هذا تصرف لطيف منك، لكني لا أستطيع قبوله. أنا في العمل ولا أستطيع أن أتكسب من وراء وظيفتي"، اقترحت: "أرجوك خذ الطعام معك المنزل، اعتبره هدية من أختك"، وهكذا فعلت، لقد كنت أعيش بمفردي في تلك الفترة. جاءت المرأة لاحقًا لتسحب شكواها ضد زوجها، وفسرت لي الأمر أنها أرادت أن تعاقبه الشرطة بشكل ما، لكن دون أن تؤذيه جسديًا، "هو بالنهاية زوجي ووالد أطفالي". سألتها: "هل تحبينه؟"، بدا أنها لم تفهم السؤال، فكررت إجابتها: "إنه والد أطفالي"، فسألتها: "هل يعتدي عليكِ زوجك بالضرب كثيرًا؟" قالت: "لا، لقد كان غاضبًا بشأن بعض الأمور". كانت القصة أن زوجها، الذي كان يعمل بائع فاكهة متجولًا، في أحد أيام الصيف الحارة بمحافظة القاهرة الخانقة فسدت منه بضاعته، فصب جام غضبه عليها. "هل سيساعد الوضع لو قمت بزيارته؟ لقد أحضرتِ لي بعض الطعام مما يعني أنكِ دعوتني لمنزلك". أجابت: "بالطبع، سيكون هذا رائعًا". أضفت: "سآتي فقط بإذن زوجك، لكن إحضارك لي الطعام يدل علي أننا صديقان"، لم أرد أن يشعر الرجل بالتهديد في وجودي. قمت بزيارتهما، لديهما ثلاثة أطفال، وكانوا في غاية الفقر. الرجل كان شخصًا محترمًا، أخبرته زوجته عن تدخلي في قضيتها بقسم البوليس واصطحابي لها بالمستشفي، لم تخجل من سرد تلك التفاصيل. كما أخبرته أنه هو من كان يجب أن يصطحبها للمستشفي. جعلتني هذه الحادثة أري كيف أن الفقر قد يؤثر علي الناس إلي حد أنه يضع حبهم واحترامهم لبعض رهن سطوة المال، بطرق لا يمكن أن يفهمها الأغنياء. لقد شهدت الكثير من الحوادث مثل هذه الحادثة، معظمهم يتفرع من بنية غير متزنة من علاقات القوي. سألني زوج المرأة: لماذا لست متزوجًا؟ لديك وظيف جيدة ومستديمة؟ أخبرته أنني أعول عائلتي، وقعت تلك الحادثة حين كنت أحيا بمفردي قبل أن تنضم لي العائلة في القاهرة من المحلة الكبري، وقبل أن أبدأ بالتدريس بجامعة القاهرة.. "لا أستطيع أن أتحمل تكاليف الزواج". حين استقرت عائلتي بالقاهرة، نشأت صداقة جميلة بين عائلتي وعائلته. مثلما كانت ثورة الضباط الأحرار نقطة تحول في تاريخ مصر، كذلك كانت نكسة 1967. في الحقيقة، تأثر العالم العربي كله نتيجة للهزيمة المنكرة للجيوش العربية من قبل اسرائيل، فيما عرف بحرب الأيام الستة. لقد تصورنا كمصريين أننا أنشأنا مجتمعًا قويًا له جيش قوي، وتصورنا أنه كان يسيرًا أن ندفع بإسرائيل للبحر المتوسط. في ذلك الوقت دعم العرب الجهاد ضد العدو الصهيوني الذي بدا التصرف الأمثل حينها. لقد ارتكزت الصهيونية علي مبدأ عودة الأرض الموعودة للشعب اليهودي. لقد واجه اليهود التشتت والإعدام منذ أن قضي الرومان علي الثورة اليهودية بأورشليم، وهو الحدث الذي أدي لهدم معبدهم في 70 بعد الميلاد. بعد ذلك بقرون عام 1897 في بازل بسويسرا، نظم ثيودور هيرتزل أول مؤتمر صهيوني، لكن كان وعد بلفور بالاستقلال في عام 1917 هو الذي أكسب للصهيونية وجودها الفعلي. وعد بلفور أنشأ الشرعية للشعب اليهودي أن يحصل علي وطن في فلسطين، منذ ذلك الحين والمستوطنات اليهودية تستشري في فلسطين، تثبت وجودها وتستولي علي الأرض الفلسطينية، تشرد العائلات وتعيث فسادًا وتتسبب في مصاعب اقتصادية. لم تكن هزيمة 67 بالمفاجأة الكاملة لي، بل ولمعظم المفكرين، لكن الشعور بالهزيمة كان صادمًا. لم أكن قد تزوجت في ذلك الوقت، لكن كان لدي العديد من الأصدقاء المتزوجين، واستمعت منهم للقصة تلو القصة عن عدم قدرتهم علي ممارسة علاقات جنسية مع زوجاتهم، كما لو كان تم إخصاؤهم، كان المجتمع يضج بتلك الشهادة، شعر الرجال بأن رجولتهم هددت. الهزيمة فهمت أيضًا في سياق ديني، كأن الله يعاقبنا نحن المسلمين لتخلينا عن الإسلام، في مكافأة لليهود علي ما يبدو، انتصرت اليهودية علي العلمانية. كيف يمكن أن يأتي المسلمون بحل لهذه المهانة؟ الحل يكمن في العودة للإسلام، وإقامة دولة اسلامية قوية تنافس الدولة اليهودية. كان أخي محمد أحد المشاركين في حرب الأيام الستة، التي اندلعت يوم الخامس من يونيو 1967. تسلمنا خطابًا منه في الرابع من يونيو، ومع نهاية الشهر بدأ الجنود في العودة من سيناء، حيث جرت المعركة. لم يكن هناك تنظيم، ولا قيادة، لا شيء سوي الفوضي في القطار ومحطات الأتوبيس المزدحمة بالجنود القادمين للوطن. بحثنا عن محمد، لكننا لم نجده، ووالدتي في عويل علي ولدها المفقود تلح: "أريد فقط أن أعرف مكان وجوده". هيأنا أنفسنا لتقبل موته، أردنا فقط العثور علي جثته. لهذا السبب ذهبت للقاهرة، متنقلًا من مكتب لآخر أبحث عن أي معلومة تدلني عن مكانه. لم أجد شيئًا، ثم ذهبت إلي كل مستشفي بالقاهرة، أتفقد لوائح الموتي والجرحي، التي كانت تجدد كل ساعة. جاء الناس من كل مكان بمصر لمستشفيات القاهرة يبحثون عن أبنائهم، إخوتهم وأولادهم. بعض منهم كانوا لا يجيدون القراءة، فظللت أقرأ لهم أسماء الموتي والجرحي من اللوائح بصوت عالٍ. لقد كانت تجربة رهيبة وأنت تشهد أفراد العائلات لدي معرفتهم أن آباءهم، إخوتهم وأولادهم جرحوا - أو الأسوأ - ماتوا، مضي شهر كامل وأنا أبحث عن أخي. أخيرًا وجدت اسم محمد أبو زيد بأحد المستشفيات، لم أشعر بشيء حينها سوي الراحة. وفقًا للائحة كان في غيبوبة، لا يهم، ما زال حيًا. أخذت ما تبقي من أموال معي، واشتريت له بعض الفاكهة والحلوي والمكسرات. وصلت إلي سريره بما اشتريت، لكنني تعجبت أنه لم يكن أخي محمد، كان رجلًا آخر له نفس الاسم. تركت كل ما معي عنده، ودون أموال معي أجبرت أن أسير ساعة ونصف الساعة كاملة لبيت أحد أصدقائي بقحافة، الذين انتقلوا للقاهرة، وانتظرت عشر ساعات حتي وصل صديقي من العمل، ويبدو أن ملامح وجههي كانت تشي بخطب عظيم، فسألني فور رؤيتي: "ماذا هنالك؟". بعد أن نلت قسطًا من الطعام والراحة عدت لمنزلي. لم تسفر جهودي عن شيء. بعد شهر تسلمت خطابًا عن مكان وحدته بالجيش. اصطحبت سيد - زوج أختي بدرية - أخذنا معنا طعامًا أعدته والدتي، وهرعنا للمعسكر. آلاف من الناس كانوا ينتظرون فوق الرمال بساحة المعسكر، جميعهم منتظرون لأبنائهم وآبائهم وإخوتهم ليتم إبلاغهم بأنهم في الخارج. اشرأبت أعناقنا أنا وسيد باحثين عن محمد في انتظار خروجه من البوابة، في النهاية اقترب منا شاب صغير، لم نعرفه.. "يا الهي، أهذا هو أنت، محمد؟"، وحتي يومنا هذا لم يتحدث محمد عن تجربته، وقد توقفت عن سؤاله عنها. آنذاك بعد حرب الأيام الستة، أشيع خبر ظهور العذراء مريم فوق قبة إحدي الكنائس. اجتمع العديد من الناس حول الكنيسة آملين في رؤيتها. لقد شعر الناس في ذلك الوقت بالحاجة للدعم من أمثلة مقدسة كالسيدة العذراء، وهي الرمز المقدس لكلا المسلمين والمسيحيين. في نفس الوقت بدأ الشيوخ يروون قصص زيارة النبي لهم في المنامات.. "بالطبع، لا بد أن تعاني هذه الهزيمة، لا بد أن تتعلم. لو عدت لتعاليم النبي محمد فستنهض وتنتصر علي أعدائك". في هذه الفترة كنت قد بدأت أفكر بشكل ناقد، تخرجت في المدرسة الفنية، بل وكنت أتعلم الكثير من تجاربي اليومية من وظيفتي، واستمررت في القراءة، كما هي عادتي منذ الطفولة. حين بدأت أقرأ بجدية، كان أكثر ما استهواني هو الأدب (الشعر والرواية). لقد كان الأدب نقطة الانطلاق للتعامل مع النصوص الأكاديمية. بهرتني الفلسفة خاصة فكرة الله، واستطعت الحصول علي كتب مترجمة عن الإنجليزية والفرنسية. خلال تلك الترجمات بدأت أقرأ عن الإسلام من مختلف وجهات النظر، علي الرغم من أنني كنت متماشيًا مع الآيديولوجية الاشتراكية (وكانت لمصر في هذا الوقت انتماءات اشتراكية محددة) إلا أن افتقاد المجتمع للحرية أزعجني. الجيش في محاولته لخلق هذا المجتمع العادل والمتساوي الذي كانوا يتحدثون عنه، تحكموا في المواطنين بدعوي تحريرهم، لقد راعني هذا كممارسة غريبة، مثيرة للسخرية، وقطعًا ظالمة. أنهت حرب الأيام الستة 1967 وحرب أكتوبر 1973 (والتي اشترك بها أخي محمد أيضًا) عصر القومية والاشتراكية في مصر. لم يعد الإسلام مفهومًا في ضوء العدالة الاجتماعية، بل في ضوء مفاهيم القوة. بدأ الناس يتحولون بالتدريج نحو فهم أصولي للإسلام، متصورين هكذا يجب أن تكون الدولة. توفي ناصر عام 1970 ليتقلد أنور السادات الحكم. حارب السادات يائسًا لإبقاء القومية والاشتراكية كجسر تواصل خاصة مع طلبة الجامعة، ووضع تعريفه الخاص للإسلام، تكلم عن مصر بوصفها دولة العلم والإيمان. كانت هذه أول مرة حاول أحد تغطية العديد من القواعد بهذا الشكل، مصر كدولة دين، إيمان، علم ودين، علم وإيمان. استعرض مفاهيمه بطريقة مسرحية ليقتنع الناس بأنه قلبًا وقالبًا مسلم مخلص، ارتدي كل جمعة الجلباب في طريقه للمسجد، تصطحبه كاميرات التلفزيون وهو يصلي، وتلتقط صورته لتذيعها علي مصر كلها. ظهرت علامة صلاة بارزة جدًا في جبهته، لتدل علي سجوده المستمر، وأصر علي الظهور بالسبحة علي الملأ، ثم لقب نفسه بالرئيس المؤمن، المصطلح الذي يوحي بأنه ملهم في سياق ديني، وكان هو أيضًا من بدأ بإذاعة الأذان خمس مرات يوميًا بالتلفزيون. علي الرغم من كل هذا، بدأ السادات بالسماح لبعض المعارضة، لكنه سريعًا ما ضاق صدره بها، مما حدا به لأن يصدر العديد من المراسيم القانونية في سبتمبر 1980 والتي نتج عنها إلقاء القبض علي أكثر من خمسة آلاف شخصية من مختلف التيارات السياسية، بمن فيهم الإسلاميون. تبع ذلك فصل كل أساتذة جامعة القاهرة الذين اعترضوا علي سياساته، علي الأقل كانوا ستة وخمسين أستاذًا، وكنت واحدًا منهم، اتهمنا السادات بإثارة الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين. في أكتوبر 1981 اغتالت منظمة الحركة الإسلامية الأصولية الجهاد السادات وكانت الصدمة. خلال السبعينيات لدي عملي كأستاذ مساعد بجامعة القاهرة، كنت أثير الموضوعات السياسية الجارية أمام الطلاب آملًا في فتح مساحة للنقاش، ربطت خطاب السادات السياسي بالخطاب الديني، موضحًا كيف يرتبط الاثنان ببعضهما البعض. علي السطح كانت خطابات السادات طابعها سياسي، إلا أنه بنظرة متعمقة تجدها دينية. عن طريق استحضار خطاباته لعدد من الرموز الاسلامية، حاول السادات أن يجعل أيديولوجيات معينة (مثال تحول الاقتصاد من اقتصاد القطاع العام لسياسات السوق الحر) مستساغة للشعب المصري. حتي مع تدهور الأحوال المعيشية، ظل السادات يؤكد للناس أنه باتباع بعض السياسات يحمي الإسلام الممتلكات الخاصة. ذهبت كل مظاهر الإصلاحات التي أتت بها ثورة الضباط الأحرار للفقراء مثل استصلاح الأراضي أدراج الرياح، وحدد قانون استصلاح الأراضي الصادر عام 1954 حدد مساحة ملكية الأرض لأي شخص ما لا يزيد علي 100 فدان، وكانت الدولة تستولي علي ما يزيد علي ذلك وتوزعها علي الفلاحين. لكن حكومة السادات أدارت وجهها لهذا القانون وقررت أن قانون استصلاح الأراضي هو ضد الشريعة. حين وصل السادات للحكم، حاول أن يسترضي جماعة الإخوان المسلمين بتغيير المادة الثانية من الدستور المصري من "الشريعة أحد مصادر التشريع" لتصبح "الشريعة هي المصدر الأساسي للتشريع"، وهو ما يشكل اختلافًا كبيرًا. لذا بدأت الحكومة تأخذ الأراضي من العائلات الذين عملوا من أجلها لأكثر من خمسة وعشرين عامًا وأعادوها لملاكها الأصليين، تحت اسم إعادة التوزيع. اعتبر قانون ضرائب المواريث أيضًا ضد الشريعة وفقًا لحكومة السادات، فلم تكن الضرائب تفرض علي الورثة، وكان هذا كما رأت ضد إرادة الله، باختصار اعتبرت جميع القوانين التي أراد بها تحقيق عدالة اقتصادية ضد الشريعة. تحدث السادات أيضًا للناس بسلطة الإمام، مقتبسًا آيات طوالًا من القرآن قبل توجيه الحديث للمصريين، كان يقول: "حين وليت أمركم" ثم يستكمل قراءة خطبته المعدة سلفًا، ناصر كان يوجه حديثه للمصريين ب"إخوتي وأخواتي" أو "سيداتي سادتي" أو أحيانًا "أعزائي المواطنين"، لقد كان في أسلوبه هذا غطرسة لم أستسيغها يومًا. وعلي الرغم من الطابع الديني الذي حاول إظهاره للعيان، ظلت ثروة مصر في أيدي قلة غنية، وظل المصريون فقراء. كان من الصعب التصديق بأن الرئيس الذي خلقت سياساته هذا التفاوت الاقتصادي يهتم حقًا بما اعتبره قلب الإسلام، العدالة الاجتماعية.