بعد ثلاث مجموعات قصصية يعود محمود عبد الوهاب ب"العيش في مكان آخر" لتصبح المحصلة خمسة كتب في حوالي ثماني سنوات، انجاز كبير لشخص لم يكن يخطط حتي بعد إصدار روايته الأولي لأن يكون كاتبا. قابلت محمود عبد الوهاب بعد صدور روايته الأولي "سيرتها الأولي" وأجرينا حوارا ربما كان التعامل الاول له مع الصحافة، لم يكن يعنيه كثيرا توصيف ما يفعله، يكتب فقط لأنه يحب ذلك، لم يكن ينتظر شيئا، والان وبعد كل هذه السنوات لايزال محمود عبد الوهاب كما هو، مخلص للكتابة فقط. من "سيرتها الأولي" وحتي "العيش في مكان آخر" حدثت تغيرات كبري في الوطن ما الذي تغير في محمود عبد الوهاب علي مستوي الكتابة وعلي المستوي الانساني؟ علي مستوي الكتابة أصبح القلم أكثر نضجا وثباتا وتحرر من مخاوفه الأولي فيما يتعلق بالمحرمات والمناطق الشائكة المتعلقة بصفة خاصة بالأديان والأسئلة الوجودية، وأصبح الفصل واضحا بين الحياة الشخصية والنص الأدبي خاصة في الرواية. ونفس ما حدث علي مستوي الكتابة حدث علي المستوي الإنساني، مزيد من النضج والثبات والتواضع في مواجهة الحقيقة. راجعت حوارنا الأول ربما كانت السمة الغالبة عليك وقتها هي الإخلاص للواقع، وتأكيدك علي أن كثيرا من أحداث روايتك حقيقية..هل تغير موقفك، أم ما زلت متمسكا به في هذه الرواية؟ للمرة الأولي استطعت الإفلات حقا من قبضة الواقع المحكمة مبتعدا عنه، ممسكا بخيوطه في الوقت نفسه لأشدها إلي حيث أريد لخطوطي الدرامية أن تنتهي، فعلي الرغم من أن هذا هو العمل الخامس لي فإنها الرواية الثانية من بعد ثلاث مجموعات قصصية تسبقها رواية "سيرتها الأولي". الواقع كان أساس العمل الأول لكنه كان مغلفا بالحذر وبالمداراه، أما بعد ثماني سنوات فلقد تغير الحال نهائيا. حيث بدأت أيضا من الواقع ولكنه احتل مساحة أصغر كثيرا من ذي قبل تحركت معي الشخصيات إلي الأمام فتركت لها العنان مطلقا إلي حيث تريد لمصائرها أن تكون. ليس هناك حذر في "العيش في مكان آخر" مثلما كان في "سيرتها الأولي"، هناك واقع بدأت منه لكن مساحته من العمل كمساحة البذرة توضع في الأرض، أما ما نما فوقها فهو الرواية التي لم أعرفها بالكامل إلا وقت تمامها. ثلاث مجموعات قصصية بين روايتين لن أسألك أين تجد نفسك لكن كيف تحدد طبيعة العمل القادم إن كان مجموعة أم رواية؟ أنا لا أحدد بالطبع ولكن العمل الذي في فترة المخاض هو الذي يفرض نفسه ويظهر إلي الوجود، فقد أكون منغمسا في كتابات صغيرة كمجموعة قصصية وتاركا رواية لا تريد أن تنتهي، ثم فجأة يتبدل المزاج فأترك المجموعة وأعود إلي الرواية وأكتب جزءا كبيرا منها في وقت وجيز لتنتهي وتخرج إلي النور وهو ما حدث مع "العيش في مكان آخر". هناك نصوص غير مكتملة للرواية والقصة القصيرة ولا أدري ماذا سأكمل منهما، الغموض سيد الموقف هنا. واضح أن لك قصة مع العناوين ففي المجموعة الأخيرة "أحلام الفترة الانتقالية" واضح تماما تشابهها مع أحلام محفوظ ليس في العنوان فقط ولكن في الفكرة نفسها، في الرواية الأخيرة يتكرر الأمر مع رواية "كونديرا" الشهيرة ماقصتك مع العناوين؟ بالنسبة لكتاب نجيب محفوظ "أحلام فترة النقاهة" فقد فتنت به ولم أزل، كان صديقي لعدة سنوات أقرأ منه قليلا قبل النوم حتي قرأته عشرات المرات، في بعض المرات كنت أقرأ حلما واحدا ولا أستطيع أن أكمل فأغلق الكتاب وأنام متفكرا في معاني الحلم الوحيد الذي قرأته، ثم تعرضت شخصيا وقت الثورة إلي عدة أنواع من الضغوط تلازمت، فكانت النتيجة أحلاما غزيرة لم أر مثلها من قبل، فكنت أدون الحلم في الصباح متأثرا للغاية بنجيب محفوظ، ولكن محتفظا مع ذلك بأقصي درجات خصوصية أفكاري وقضايا حياتي التي عكستها الأحلام، وعندما انتهي الكتاب فكرت في وضع أحد أحب أحلام نجيب محفوظ إلي في المقدمة مع الإهداء، ولكني عدلت عن هذه الفكرة واكتفيت بإهداء بسيط ولكنه كاف لمن يقرأ أن يعرف مقدار امتناني لنجيب محفوظ، لأن من قرأ كتابيه "أحلام فترة النقاهة" و"أصداء السيرة الذاتية" جيدا يعرف القيمة النادرة لهذين الكتابين في الأدب العربي، بصرف النظر عن المسمي الأدبي لهما. أما عن كونديرا فالحقيقة أني لم أقرأ هذه الرواية وبالتالي لا أستطيع القول بوجود تأثر ما، وإن كان هذا لا ينفي إفتناني به في أعمال أخري وإعجابي بما تحويه من مساحة فلسفية تغلف العمل مثل روايته "كائن لا تحتمل خفته". ليس في الرواية تعمق في الشخصيات. الحكي يكتفي بالقشرة أو الحياد رغم أن الرواية مليئة بالشخصيات، بدت وكأنها كلها عابرة حتي البطل نفسه لم تتحدث عن أي أوصاف له، و اسمه لم يرد في النص سوي مرة واحدة في المنتصف تقريبا. ماتعليقك؟ أكتفي هنا بجزء من مقال لأستاذي الكاتب الكبير محمود الورداني عن هذه الرواية عندما قال: "ومما يعزز اختيار الكاتب لأن يرتكز عمله علي الاستبعاد لغته الناصعة، شبه التقريرية، الساعية لتوصيل رسالة، ليست تلك اللغة العاطفية الحافلة بالمجاز مثلا، بل هي لغة "مشطوفة" تمنحه القدرة علي أن يبدو محايدا وليس متورطا، وتنأي به عمدا عن العاطفية، في عمل يبدو في الظاهر مجرد قصة حب وغرام مشبوب. وهكذا..فاللغة المحايدة الساعية لتوصيل رسالة ليست سوي حيلة فنية، والاستبعاد المتعمد للمجاز والتوشيه، ليس أيضا إلا وسيلة كي تكون المواجهة بين الكاتب وعمله عارية إلا من تفاصيل العمل الروائي ذاته ودقائقه، وهو وسيلة أيضا تحرر الكاتب من الانزلاق والتورط العاطفي المجاني. هل تعتقد أن هذا في مصلحة العمل الفني عموما؟ أنا لا أحب أن أقحم رأيي الشخصي ككاتب داخل النص الروائي، ولا أحب أيضا أن يقحم الراوي انفعالاته إلا بحساب حذر للغاية، تكفيني الرؤية التي ينظر بها إلي الحدث، وانفعالاته تبينها تصرفاته لا أقواله. السؤال نفسه ينطبق علي الأماكن فرغم أن الاحداث موزعة بين القاهرةومكةوجنوب أفريقيا فليس هناك تركيز علي مكان بعينه بخلاف بعض الاستثناءات البسيطة في جنوب افريقيا لكن الغالب علي الرواية هي نظرة السائح رغم أن كل مكان فيها يصلح في نظري لأن يكون رواية منفصله؟ كل شئ جائز بالطبع ويمكن عمله، ولكن إذا فصلت دراما جنوب أفريقيا عن دراما مكة فستكون لديك في هذه الحالة روايتان مختلفتان تماما وستختلف الحبكة بشكل نهائي في كل منهما، فكيف ستبرر وجود بطل الرواية في جنوب أفريقيا ما لم يكن أقام في مكة ودفعته الظروف والخبرات إلي هناك؟ وهنا قد أري استحالة الفصل فهناك روايات لكبار الكتاب المصريين عن السعودية علي سبيل المثال، فهل يشبه ما كتبوه الذي كتبته؟ الرواية بأماكنها وشخوصها ومشاكلها حالة فريدة لا يمكن تقسيمها. حددت الزمن بانه في النصف الاول من التسعينيات هل يعني هذا أن الرواية كانت فكرة مؤجله ام انها مجرد حيلة فنيه؟ شهدت مرحلة التسعينيات بداية مشروع السعودة وهو تدريب العمالة السعودية علي أعمال لم تؤدها من قبل، ثم إحلالها محل العمالة الأجنبية ومنها المصرية بالطبع، وهذا أحد أسباب المتاعب التي واجهها الراوي أثناء عمله في مكة. أما الرواية فبدأتها في 2008 كتبت حوالي 20 صفحة ثم توقفت، وعدت اليها بعد عام آخر وتوقفت مرة ثانية وأصدرت المجموعة، إلي أن عدت مجددا العام الماضي لكني اعدت ما كتبته وغيرته تماما. تقول في الرواية "الثورة دائما هي ثورة الفقراء، وما بين نجاحها في تغيير الحكم وتحقيق مطالبها طريق طويل، اسمه الفوضي، وليس هناك حل آخر" هل هذه رؤية شخصية؟ بالتأكيد هي رؤية شخصية. فلا يقوم بالثورة إلا من يسعي إلي التغيير، ولا يسعي إلي التغيير وتحدي القانون إلا الساخط علي الوضع القائم والذي لم يعد يحتمل المزيد منه، وعندما يتغير الوضع ولو شكليا تخرج الطبقات المهمشة والمظلومة بكل تأكيد باحثة عن حريتها، ويكون معظم الشعور العام متعاطفا معها، ولكن هذه الطبقات نفسها غير مؤهلة للتعامل مع المكتسبات الحضارية التي أنتجها النظام الحاكم السابق، وبالتالي تبدأ في التخريب أو التشويه في أحسن الأحوال. هذا هو طريق الفوضي الذي لم تستطع حكومات مصر ما بعد الثورة علي سبيل المثال تجنبه إلا بالكاد الآن وهي تستعيد أنفاسها وتمارس جزءا من السلطوية. هل يمكن أن تكتب رواية عن الثورة؟ لو كنت أستطيع أن أختار رواياتي. أخيرا حاول بطل الرواية العيش في أماكن اخري ماذا عن المؤلف؟ زمان أيام الشباب الاول، كان هناك طموح مادي كبير وسنوات كثيرة لم تعشها...مع الزمن تحقق ما يلزمك من الامان المادي ويتحول طموحك الي تحقيق معاني...احاسيس. .ابداعات...مع الزمن تصير اكثر شاعرية وقلبك اكثر رهافة من ان يتحمل البعد عن الوطن او العيش في اي مكان اخر.