فقدت مصر أحد كنوزها وفقدت الحركة الفنية أحد أعمدتها، نقيبها السابق ورائد من رواد فن الكاريكاتير بعد جيل صاروخان ورخا، وفقدته الصحافة المصرية والعربية. لقد أصبح مصطفي حسين ثم معه فيما بعد لفترة خصبة الكاتب أحمد رجب أيقونة يفتح المصريون صفحات الجريدة بحثاً عن عمله أو عملهما.. ويقرأ منها تطور الأحوال والمتغيرات في السياسة المصرية بلغة المصري الفصيح اللماح الذي يطوع فنه لأفكاره بصورة جذابة متقنة معبرة ودامغة، ومستساغة لجميع القراء أياً كانت ثقافتهم الفنية. إذ كانت مهارته المدهشة جواز المرور إلي جميع الطوائف والطبقات، وحينما يصادف أن تتناول معه العشاء في أحد المطاعم تلتف جميع الرءوس بالنجم ويتبادل معهم الابتسامات البروتوكولية، ويعلق بعضهم علي كاريكاتير اليوم. كان مصطفي حسين واثقاً متمرداً مشاغباً منذ شبابه المبكر لأنه كان يعمل في مطبوعات دارالهلال منذ عام 1952 ثم انتشرت أعماله في أخبار اليوم وآخر ساعة خصوصا آنذاك، فاكتسب خبرة وثقة كبيرتين في ذاته، وأثناء تتلمذه في كلية الفنون الجميلة التي التحق بها عام 1953 لم يتوافق مع تعاليم أساتذته خاصة الشكلي والإداري منها، فتم رفته من الكلية قبل أن يتخرج فيها 1959، وقد كتب عن ذلك الفنان الراحل حسين بيكار قائلاً: "إنه يعتذر لمصطفي حسين عن زملائه من أساتذة الكلية الذين طردوه من الكلية وأن بعضهم لا يصلح أن يمسك له (باليتة الألوان)".. كان بيكار رومانسيا وعاطفياً، وقد كتب ذلك وكأنه يغسل عن ضميره وزملائه موقفهم من مصطفي حسين. وقد عاني من قبل رائد النحت في الفن المصري الحديث محمود مختار الذي لم يتوافق بناء علي طموحه وموهبته الشاردة، وثقته في النفس مع تعليمات أساتذته وبرامج تغلب عليها الشكليات الانضباطية علي تشجيع السجية ودعم الموهبة والمغامرة التجريبية.. الأمور التي لم يكن لها اعتبار في برنامج الكلية وعقيدة عدد من معلميها آنذاك. امتلك مصطفي حسين مهارات رسم النسب والتشريح والتظليل والتلوين، والمنظور والتجسيم والتصور المكاني بمهارة كلاسيكية مكيفة، وطوعها لموضوعه الكاريكاتيري باستخدام التحريف والمبالغات والتركيز علي مواقع بعينها، وقد وظف هذه الملكات بتألق كبير في رسوم الكاريكاتير الخطية والملونة، وفي الرسوم التوضيحية لكتب الأطفال في مصر وأرجاء مختلفة في العالم العربي، وفي تصميم الملصقات للمهرجانات السينمائية والمسرحية والسياحية، وتصميم شعارات المؤسسات والمؤتمرات والمناسبات الرياضية الكبري، وتصميم نجمة سيناء عام 1990. كان يفعل ذلك بسلاسة وسجية غير مسبوقة، وهو يصفر أو يدندن ليدفئ اندماجه ويتوافق مع سرعة الأداء وتدفقه. قام حسين منذ شبابه المبكر بالمشاركة في تصميم غلاف مجلة الاثنين ومنذ عام 1956 كان يعمل كرسام كاريكاتير بجريدة المساء حتي عام 63، وقد كانت الجريدة في ذلك الوقت ملتقي الفنانين والأدباء والنقاد تمر بمرحلة ثقافية تنويرية، وملتقي صالون ثقافي متجدد بصورة يومية مع حسن عثمان وعبدالفتاح الجمل وعبدالمنعم القصاص وصبحي الشاروني وكمال الجويلي ومحمد عثمان وآخرين كثيرين وأكثر منهم من المترددين علي الجريدة لمناوشة الحوارات والتجليات. ثم انتقل مصطفي حسين للعمل بجريدة أخباراليوم ومجلة آخر ساعة، ومنذ عام 1974 عمل بصحيفة الأخبار اليومية، حيث ظل يرسم في الصفحة الأخيرة فيها بصفة يومية جعلت من هذه الصفحة أيقونة للقراء، بينما يرسم أسبوعياً لجريدة المصري اليوم. في عام 1989 قرر الصديق المهندس يحيي زيدان تأسيس مجلة الكاريكاتير واتخذ لها مقراً في شارع عبدالحميد لطفي بالعجوزة، وكنت مستشاراً متطوعاً للمجلة، حينئذ التقيت بصورة يومية مع مصطفي حسين الذي تولي رئاسة تحرير المجلة، وكنا نتبادل المناداة ب"يا درش".. كانت المجلة مقراً لالتقاء أساطين الكاريكاتير الأحياء إلي جانب مصطفي حسين.. العظيم أحمد طوغان والرائع حسن جاسم الذي كان يشعر بمرارة كبيرة وأحياناً يعبر عنها بصوت جهور يسخر فيه من التركيز علي نجومية مصطفي حسين الذي كان يلتفت إلينا برأسه ويغمز بكل ملامح وجهه، ثم يعتدل في عمله. والتف حولهم مواهب شابة فظهرت الأعداد الأولي بمستوي استثنائي من الإبداع والعمق، وشارك في الكتابة فيها أعلام مثل أنيس منصور. في لقاء له مع الأمير فيصل بن سعود وزير الشباب والرياضة السعودي في مكتبه بالرياض، عرض عليه الأعداد الخمسة الأولي لمجلة (كاريكاتير)، تحمس الأمير بشدة وسأله كم عددا تطبعون من هذه المجلة، قال ثلاثة آلاف لكل عدد. قال الأمير حسناً سنأخذ نحن عشرة آلاف من كل عدد قادم، والأعداد السابقة اطبعوها لنا.. انفرجت أسارير مصطفي حسين مستحسناً ما قاله الأمير المستنير متعجباً قائلاً: عشرة آلاف سموك؟ قال: أجل.. أنا أريد الناس عندنا يضحكوا.. أريد زرع ثقافة الضحك في مجتمعنا السعودي. كان الأمير فيصل رحمه الله مستنيراً وطنياً ومليئاً بالحيوية والتفاؤل وكان في مثل طول مصطفي حسين. وعند عودته إلي القاهرة حكي لنا هذه الواقعة الجميلة، ففاجأه صاحب المجلة المهندس يحيي زيدان بخطاب من مكتب الأمير سلطان وهو ملحق بالضوابط والمحظورات التي ينبغي الالتزام بها في رسوم وكتابات المجلة حتي يتسني تنفيذ هذا الاتفاق، ولأنه كان سلسا وخاليا من العقد "وبرجماتياً" بكل ما تعني الكلمة من معني، فقد وجد الحل السحري الذي أرق أدمغتنا في هذه الجلسة، لقد رُسمت المجلة بنفس تقاليد الأعداد الأولي بدون أدني اعتبار لتلك القيود والضوابط للطبعة المصرية والدولية. ثم يضيفون علي نسخة من الرسوم كل ما كان مطلوباً للجهة السعودية، فتطول الفساتين وتتغطي الأذرع والرؤوس وغير ذلك، ويتم مراجعة النصوص وفقاً لتلك الشروط، ومن ثم يتم طباعة العشرة آلاف نسخة موافقة للشروط. هذا مجرد مثال لحله المشكلات، بالصمت تارة، وبالتسويف والتأجيل تارة، وبالوعد الواثق تارة، إلي أن يمتص توتر اللحظة ومن ثم تأتي الحلول الوسط أو ما شابه. وأثناء عملي مستشاراً للفنون بمكتبة الإسكندرية، استضافت المكتبة في الفترة من 25 سبتمبر إلي 25 أكتوبر 2005 في قاعة الاطلاع الرئيسية معرضاً كبيراً لأعمال مصطفي حسين مع رسام الكاريكاتير الفرنسي (بلانتيه) plantu وهو أشهر رسام كاريكاتير في فرنسا، يقدم كاريكاتير يوميا في الصفحة الأولي بجريدة "اللوموند"، وكان المعرض بعنوان (ارسم العصر.. ارسم السلام) وكان المعرض يعني تقديم وجهتي نظر من ثقافتين مختلفتين حول ذات الموضوع. وبمناسبة هذا المعرض تعاون حسين مع نحات متمكن في ترجمة شخوصه التي اكتسبت شعبية كبيرة في مصر: كمبورة، الفلاح الفصيح من كفر الهنادوة يتحدث باسم الفلاحين إلي رئيس الوزراء معبراً في بلاهة معجونة بالبلاغة والنقد اللاذع، وشخصية الكحيت وشخصية عزيز بك الأليت، ومطرب الأخبار، وعباس العِرسَة، وعلي الكوماندة.. صغاها في منحوتات متقنة ومعبرة بارتفاع 35سم بلون رمادي فاتح كان لها تأثير كبير علي المعرض إلي جانب رسومه الكاريكاتيرية الملونة والخطية. لخص مصطفي حسين في هذه الشخصيات ديوان الحياة للمصريين قرارهم وقهرهم وذكاءهم وسخرياتهم وهمومهم المكنونة.. فدخل قلوب ملايين المصريين، وصارت تلك الشخصيات مجال الخطاب الساخر علي المقاهي وفي فصول الدراسة والمصانع والغيطان في الريف.. إذ لخص كل تلك الهموم والسخرية في حفنة من الشخصيات كل منها كالسهم النافذ. كانت كاريكاتيراته تؤرق كبار المسئولين وتهز مقاعدهم ومناصبهم وتلطف مرارة البسطاء والغاضبين المهمشين والمقهورين. وقد أصبحت بعض هذه الشخصيات التي استخلصها مصطفي حسين من رؤيته اللماحة العميقة من قاع المجتمع المصري أساساً لمسلسلات تليفزيونية كوميدية مثل مسلسل "ناس وناس" ومسلسل "قط وفار".. كما كان من أوائل من أعد كارتونا ثلاثي الأبعاد متحركا برسومه المتجددة شديدة الألفة واليسر. إنه حقاً فنان السهل الممتنع.. السهل في سرعة الخاطر التي تتزامن مع سرعة الأداء المدهشة، والممتنع لأعماله المبهرة المكيفة في تأثيرها الفوري علي القارئ. اكتسب مصطفي حسين من هذه اللمحات الكاريكاتيرية اليومية وشخوصه اللاذعة مكانة كبيرة في الأوساط الرسمية، فكان يتصل تليفونياً بأرفع المناصب في الدولة. كان خدوماً مجاملاً، فوظف معرفته ومكانته في حل مشكلات زملائه وأصدقائه ونقابة الفنانين التشكيليين. وكان ودوداً بشوشاً- وطبعاً ابن نكنة- يضحك بصوت جهوري، ثم يكتم الصوت فتهتز ملامح وجهه ويثني طوله الفارع إلي أن ينتهي من انفعاله. كان وجهه كتاباً مفتوحاً لوضوح انفعالاته البروتوكولية أحياناً والمنسابة بود وصدق أحياناً، كان وجهه يتجعد دون أن يصدر صوتاً يذكر لكن وجهه كان كفيلاً بنقل كل المشاعر الودية، ومحاولات الصلح بين المتخاصمين، وامتصاص انفعالات الغاضبين. ولكنه نفسه كان مطارداً من بعض الأنظمة في البلدان العربية، ومستهدفاً بحق من هذا البعض، وكان قد رسم سلسلة من الرسوم الهزلية يهزأ فيها من الرئيس الليبي السابق معمر القذافي في عهد الرئيس السادات. وهناك قصة كاريكاتيرية حقاً حول هذا الموضوع سمعتها من أستاذنا الجميل الراحل الدكتور مصطفي حسين أستاذ طباعة المنسوجات بكلية الفنون التطبيقية بجامعة حلوان، إذ كان في زيارة أكاديمية للتبادل مع إحدي الجامعات الليبية، وعند وصوله إلي المطار الليبي تم اعتقاله بصورة قاسية، ونقله إلي جهة أمنية أعلي.. تمام يا افندم قبضنا علي الرسام مصطفي حسين.. وأصدر هذا المسئول الأمني ضحكة جهورية صداحة، إذ وجد أستاذنا المقبوض عليه قصير القامة نسبياً، بينما مصطفي حسين المقصود، صاحبنا (درش) كان عملاقاً في قامته.. رحم الله المصطفيين العزيزين.