في عام 1923 ولدت نادين جورديمر بجنوب أفريقيا، وفي عام 1991 نالت أرفع جائزة أدبية وهي جائزة نوبل، وظهيرة الأحد الماضي ودعت جورديمر العالم لتستريح أخيراً استراحة المحارب النهائية. وما بين الميلاد والموت قدمت روايات ومجموعات قصصية انتصرت فيها للإنسان وللأمل وناهضت التمييز العنصري وسياسته المطبقة في جنوب أفريقيا، واحتلت تيمة العزلة والنفي مساحة كبيرة في أدبها، فكانت أعمالاً تدور رحاها ما بين عزلة الفرد وظلم المجتمع وانتقاد سياسة بلد اختار لنفسه توزيع الألم علي مواطنيه. بدأت جورديمر الكتابة في سن مبكرة، حيث كتبت قصتها الأولي في التاسعة، ونشرت في الخامسة عشرة، وظهرت مجموعتها الأولي "صوت الحية الخافت" عام 1952، وفي العام التالي نشرت رواية "الأيام الكاذبة" لتضع بهما في بداية مشوارها الاحترافي بصمة خاصة بها، حيث يختلط الخاص بالعام، الشخصي بقضايا المجتمع، لتبرز العنصرية المقيتة كسلاح موجه إلي صدور الأبطال. تأتي بعد ذلك رواية "عالم الأغراب" حيث البطل غريب إنجليزي في جوهنسبرج يصادق أفريقياً تعالج جورديمر من خلاله موضوعها الأثير: الاغتراب. لم تتراجع نادين جورديمر، لا في أدبها ولا في حياتها، عن مناهضة العنصرية ولا انتقاد السلطة، يتضح ذلك في رواية "مناسبةً للحب" و"العالم البرجوازي الزائل". ولأن السلطات الظالمة لا تحتمل أمثالها كثيراً، صادرت روايتها "ابنة بيرجر" الصادرة عام 79 عقب انتفاضة سويتو. لتستمر بعدها الكاتبة المحاربة في الكتابة رغم أنف اليد الحديدية، وتصدر "الناشطة البيئية" و"عش حياتك" و"لا وقت مثل الحاضر"، ولتحتل مكانة أدبية رفيعة فتفوز بالبوكر البريطانية وتتوج بجائزة نوبل في الآداب. لفترة طويلة ارتبطت أعمالك بالسياق السياسي الحرج والعرقي والاجتماعي الجنوب إفريقي، ولا سيما في فترة التمييز العنصري. لماذا في روايتك "ابنة برجر" اتجهتِ بشكل شديد الخصوصية نحو الإشكالية البيئية؟ - موضوعي الحقيقي ليس الطبيعة، بل معرفة من يكون إنساناً في الجنس البشري. إنه وجودنا الذي يثير اهتمامي والتهديد المتمثل له نتيجة تلويثنا للبيئة في جميع أنحاء العالم وما وراء التغييرات السياسية، لأن العدو الذي نحاربه أصبح عدواً عاماً؛ الأمر لا يعني مواجهة بين مختلف الدول وبين السلطات الأيديولوچية. فثورة النظام البيئي ستخرج علينا جميعا لأننا نمثل جزءا منه. جفاف مستجمعات المياه يمثل تهديدا لمصادرنا المائية، حيث إن العالم سيأتي علي استنفادها تدريجيا. وبناء محطات نووية لتلبية الطلب الكبير علي الكهرباء واستنفاد الطاقة المتقادمة فكرة رائجة في معظم مناطق العالم، بينما تظل الطاقة النووية خطيرة للغاية. بكل تأكيد هناك أيضا وجه سياسي لكل هذا: فعلي سبيل المثال في هذه الرواية يعارض بول الخبير البيئي الشاب مشروع التنمية الاقتصادية الذي يتوقع أن يجفف الحوض الهيدروجرافي لمنطقة الحزام الساحلي في جنوب إفريقيا "بوندولاند"، حتي يتم خلق فرص للعمل فيها وتلبية الطلب من الكهرباء ببناء محطة طاقة نووية. لكنني لا أقول للناس ما يجب أن يفعلوه. فأنا أكتب رواية. أنا لست كراسة دعائية. هذه المسألة التي أصبحت عالمية- والخاصة بالتنمية والتصنيع، واللذين وصل ثمنهما تدمير الأرض التي ندوس عليها والهواء الذي نتنفسه، لا يمكن حلها في رواية. نحن الروائيين- كما يقول ميلان كونديرا- لا نقدم إجابات ولكن نطرح أسئلة. كل رواية، طالما كانت جيدة، تمنح كلاً منا الوعي بمكانه في هذا العالم وماذا يعني أن يكون علي قيد الحياة في وقت معين وأحيانا في مكان معين. هل هذا مؤشر علي مدي التعقيد، حيث اخترتِ موقفاً شديد المفارقة، فالناشط ضد الطاقة النووية يصبح مؤقتا ناشطا للإشعاع الذري من أجل مصلحته؟ نعم، إنها مفارقة حقيقية. فالحيوات والعلاقات الإنسانية لا يمكن توقعها وعلي نحو غريب. لقد كنت شديدة الاهتمام بالإشكالية البيئية عندما سمعت حكاية شاب أصيب بنوع خاص من السرطان في الغدة الدرقية وتم علاجه بالإشعاع، ما منعه أن يتواصل مع أي ما كان، وتم عزله في حجرة انفرادية في المستشفي وكذلك عند أبويه حتي لا يعرض أسرته الصغيرة للخطر. يمكن أن نقول إن أي إنسان مهدد مثلنا جميعا بالطاقة النووية، وقد يصبح وهو موزعها وممثلها هو نفسه خطراً علي أقربائه. كنت مبهورة من احتمالية أن يصبح شخص ما الفاعل لذلك، حتي لو كان قد ناضل ضده طوال حياته. بالإضافة لمسألة التقسيم العرقي القديمة التي ظهرت في الرواية، فالخادمة السوداء التي تعمل عند أبويّ بول كانت قد فُصلت، إلا أنها تختار البقاء بجانبه تماما مثل الزميل الأسود لهذا الخبير البيئي الشاب، والذي يزوره دون أدني خوف. كما يقترح عليه أن يواجهوا ببساطة هذا الخطر كواحد من أخطار أخري-مضافا لكل الأخطار التي قد عانوا منها كثيرا في حياتهم- بما فيها خطر الفصل العنصري. ما الذي يؤسس الشجاعة؟ ربما المعاناة. لأن بول أيضا كان مجبراً علي الدخول في امتحان حياته، أن يجد نفسه في مواجهة نفسه. الحياة التي تتحاشي الامتحان لا تستحق العيش. "إنها فكرة رائعة، ناسية أنني المؤلفة" في نهاية المطاف، هذا التصور عن" النظام الإيكولوچي" الذي أوردته في روايتك، يبدو أنه بقدر ما يتحدث عن التطور غير المفسر لهذه الحيوات الانسانية. - نعم، لأنك تلعب دورك في النظام الإيكولوچي دون أن تعرف ذلك، دون أن تفكر فيه حتي. ونحن هنا جالسون لمناقشة جزء لا يتجزأ عن كل هذا دون معرفة، ودون وعي واضح بالمكان الذي نشغله. فالكاتب نفسه لديه هوية مزدوجة. يشارك في النظام الإيكولوچي لكنه يكتشفه أيضا ويتخيله مرة أخري. يختار مجموعة من الأشخاص، يبتكر ذلك ثم يوضح كيف ينظمه. الكاتب يَعبُر إذن من العالم الكبير إلي العالم الصغير، من العالم للفرد؟ - يمكن للصحفي أن يعالج موضوعا بشكل عام ، بينما الروائي يتناوله من الداخل، من الوعي الفردي للكائن. كذلك بالنسبة للجنس وقصص الحب: تستطيع أن تكتب تقريرا ل ألفريد كنزي، لكن لن يكون ذلك رواية. نادين جورديمر، الكاتبة الجنوب أفريقية والحاصلة علي نوبل في الآداب عام 1991، ذات الأصل اليهودي، البيضاء، المناضلة ضد التمييز العنصري، دائما ما كانت ضحية لسوء الفهم: تلك التي لا تراها إلا متحدثة رسمية وضميرا يلتزم بالطريقة نفسها في الكتابة وفي النضال. لكن الحقيقة أن جورديمر معقدة ومتنوعة في أعمالها، رغم أن جوهرها يميل للتأثير، لكنه تأثير لم ينحصر في نضالها الدائم، الذي انتهي جزئياً بتصفية العنصرية المؤسسية. لذلك تؤمن بإعادة الإعمار وبتربية جديدة تزيل قواعد الهوان وتسترد اللغات الأفريقية التي دمرت. ومع أنها في كتاباتها تركز علي التنقيب في بناء العلاقات الإنسانية وعن الأسرة، تمارس كتابة الرواية بنفس مهارة القصة القصيرة . في مجموعتها القصصية التي ترجمت إلي الفرنسية "احتضان جندي" والتي نشرت مع كريستيان بورجوا، تحكي القصة التي تحمل عنوان الكتاب عن الأمل المولود من استقلال دولة أفريقية مجهولة الهوية، وهم التعايش بين البيض والسود، وخيبة أمل البيض؛ والإقصاء. وعلي عكس ما يبدو، الأمر لا يعني جنوب أفريقيا، ولكن ما قد يشبهها علي نحو غريب. كان لدينا من قبل فرصة اللقاء في لحظة كان فيها التمييز العنصري في طريقه للانسحاق، الآن، بما أنه انتهي، كيف ترين المستقبل في بلدكم؟ - لقد دمر التمييز العنصري ثقافة السواد الأعظم من الشعب واللغات الأفريقية، لذلك لابد أن يجدد الشباب بكل الوسائل قدرة الناس حتي يتمكنوا من العثور علي تعبيرهم الخاص، وأشياء أخري كثيرة. حان الوقت الآن لنعد شيئا إيجابيا. لكن هذه ظاهرة لا تخص جنوب أفريقيا وحدها، فذلك يشبه تقريبا ما حدث في الدول الشرقية بانتهاء السيطرة السوفيتية. فجأة، وعلي سبيل المثال، يجد الكتاب أنفسهم وقد فقدوا وجهتهم تمام،ا حيث إنه بإمكانهم الحياة في مجتمع من نوع آخر. إنهم أحرار. وهذه الحرية المكتسبة حديثا يجب أن يطبقوها علي كتاباتهم، علي شخصياتهم، علي أنفسهم. وهذا ليس بالأمر الهين لأنه يعني تغييراً جذرياً عكس المواقف السابقة. مازلت عضوة في حزب المؤتمر الوطني الجنوب أفريقي، فهل من الممكن بصفتك أن تكوني ناقدة إزاء مؤسستك؟ - دون أدني شك. في البرلمان وفي داخل المؤتمر الوطني نفسه استطاع الناس التعبير عن آرائهم المعارضة. وفي إطار برنامج إعادة الإعمار والتنمية تستطيع أن تعبر وبشكل كامل عن انتقاداتك. من الطبيعي كوني عضوة في حزب المؤتمر الوطني تأييد مبادئه، لكني أستطيع أن أعرب عن آرائي المعارضة في الداخل. موقفي ككاتبة، علي أي حال، مستقل كليا. وأصدقائي في حزب المؤتمر يعرفون ذلك ويقبلونه. في روايتي "تاريخ ابني" هناك صراع بين بعض شخصياتي والمنظمة(حزب المؤتمر الوطني، وبشكل واضح) لم يهاجمني أحد لذلك. وهذا، في رأيي، الاعتراف الضمني بحرية الكاتب. لم ولن أكتب أبدا كتابا دعائيا. في المجموعة الأخيرة التي ترجمت للفرنسية "احتضان جندي" القصة الرئيسية تدور حول بلد بلا اسم، لكنك لا تبدين شديدة التفاؤل بصدد المستقبل. -ماذا جعلك تعتقد هذا؟ في هذه القصة ألمّح للوضع في موزمبيق. لكنها قصة كانت قد كتبت منذ خمسة عشر عاما. أنا متفائلة جدا بخصوص مستقبل بلادي. كان الوضع في جنوب أفريقيا شديد الخطورة. كنا نعتقد أن ذلك سيتدني ليصل إلي حرب أهلية. بفضل الله، لم تتطور الأحداث لذلك. نجحنا للوصول بالفعل لشيء ما فريد في أفريقيا لأننا استطعنا إنجاز مفاوضات دون تدخل أجنبي ودون أي حاجة للتروي. أنجزنا ذلك بأنفسنا في جنوب افريقيا، البيض والسود- الأعداء في الأصل- معا. داخل المجتمع الأبيض، أنتِ أيضا عضو في الأقلية اليهودية، ذلك يعني أن لك ضمنيا تميزا؟ - أنا يهودية المولد، لكني لست علي اتصال خاص بالأقلية اليهودية. فأمي يهودية إنجليزية وأبي من أصل ليتواني. لكني لم أتلق تربية دينية بهذا المعني ولم أنتمِ لمنظمات صهيونية. هويتي جنوب أفريقية. علي المستوي الأدبي، تتعرضين، في وقت واحد، لمشكلة سياسية بحتة ولمشكلة العلاقات الإنسانية، ولا سيما داخل الأسرة. من جهة أخري، أتستخدمين دون تمييز واضح، في القصة والرواية، نفس قواعد الكتابة؟ -بالنسبة لي القصة أكثر تعقيداً من الرواية. القصة تطرح نفسها لي في كليتها. الرواية مختلفة. فقط أعرف عنها نقطة انطلاقها ونقطة وصولها. بين الاثنين لا أعرف ما يمكن أن يدور. لكن أليست نفس المواضيع التي تطرحينها في النوع الأول والثاني؟ - من وجهة نظري، لو كتبت كتابا واحدا أو عشرين، في الواقع أنت تكتب دائما كتابا واحدا. الكتابة حوار بين حياتك الخاصة وحياة مجتمعك وحياة العالم الذي تعيش فيه وحياة عصرك. هي أيضا حوار بينك وبين نفسك؟ - الحياة أكثر تعقيدا، ولكن أكثر بالنسبة للفنانين، لأن الفنانين يبحثون دوماعن تفسيرهم الخاص. أري في أعمالي حوارا مستمرا بين المراحل المختلفة من حياتي. إنها قصة لا تنتهي أبدا. عندما أكتب شيئا ما، سواء رواية أو قصة، لا أبدأ السرد مطلقا بميلاد شخصياتي. كذلك لا أنتهي بموتهم. أتناول الحياة هناك حيث تثير اهتمامي وفي اللحظة التي تثير اهتمامي. ليس أبدا الحياة في شموليتها. لن يستطيع أي كتاب أن يحوي الحياة في شموليتها. ولكن، بالطبع، أدركت جورديمر أن هذا الاحتراق يمثل واجهة زائفة طبيعية لإخفاء مدي عمق الغضب والعنف المستتران تحت السطح باسم التمييز العنصري. منذ عام 1954، عندما قامت جورديمر بنشر ذلك المقال، وحتي عام 1994، عندما أصبح نيلسون مانديلا أول رئيس لدولة جنوب أفريقيا المتعددة الأعراق، كان التمييز العنصري هو الحقيقة الساحقة في الحياة الجنوبية بأفريقيا، وكانت معارضة ذلك هو الفكرة الرئيسية لكتاب جورديمر "الكتابة والحياة". وعندما استلمت جائزة نوبل في الآداب عام 1991، بعد عام من إطلاق سراح مانديلا، كان ذلك تكريما مستحق الدفع بوضوح للناشط كما للكاتبة كذلك. في المقالات والمحاضرات المجمعة في Telling Times يحضر صوت جورديمر بقوة. فهي لم تكتب عن حياتها الشخصية سوي مرات قليلة، وكذلك عن طفولتها ومراهقتها. بعيدا عن صفحة إهداء الكتاب، فإن اسم رينهولد كاسرير، الذي كان زوجها لأكثر من 50 عام حتي وفاته عام 2001، لا يظهر حتي نهاية الكتاب تقريبا، وتظهر معه حاشية استثنائية طريفة. تقول فيها إن أجمل لحظة في حياتها لم تكن لحظة فوزها بجائزة نوبل، ولكن كانت في حفلة في خمسينيات القرن الماضي، بعد زواجها من كاسرير مباشرة. تقول جورديمر: "وجدت نفسي واقفة بجانب امرأة لا أعرفها، وكل منا يمسك كأسه بود حقيقي. ثم ظهر هو في المدخل. فالتفتت لي المرأة وهتفت في حماس "من هذا الرجل الملائكي؟" فقلت: "زوجي". غير أن الواجب، وليست السعادة، هو الملهم الأساسي في هذا الكتاب. في الحقيقة، هناك صعوبة بين دمج الواجب مع السعادة أو بمعني أدق دمج مقتضيات السياسة مع الإلهام غير المسؤول، وذلك واحد من الموضوعات المتعددة التي تتكرر طوال كتابها "وقت الحكايات" أو Telling Times. كتبت جورديمر عام 1983: "ثمة شيئان حاسمان في حياتي، الأول أن العنصرية من الشيطان، خطيئة الإنسان في العهد القديم ولا تسوية في إلزام أنفسنا بمحاربتها. والآخر أن الكاتب هو الكائن الذي ينصهر إدراكه بين عالمين... تلك الازدواجية في الانغلاق والانفتاح علي العالم الخارجي، ولابد ألا يُسأل عن وقف هذا الانصهار". حاولت جورديمر أن تمرر طريقاً بين تلك الأفكار. وأدركت أن الدعاية السياسية لن تكون فناً، كما وصفت أوليف سشرينر، صاحبة رواية "قصة مزرعة أفريقية"، التي نشرت عام 1883، وكانت أول رواية كلاسيكية في جنوب أفريقيا، "بأنها سمحت لمخيلتها المبدعة أن تذوب في رمال كتابة وتوزيع المنشورات التقدمية". أما الفعل الذي كان أكثر شجاعة، إنها في عام 1973 كتبت مقالاً في The New Black Poets ولم تسمح لتعاطفها السياسي المُلح مع هؤلاء الشعراء أن يخفي حقيقة أن معظمهم "ليسوا شعراء علي الإطلاق، بل مجرد أشخاص لهم محاولات موهوبة في استخدام صيغ مترابطة متعارف عليها مع الشعر للتعبير عن مشاعرهم بطريقة تجعلهم يأملون أن يعيرهم أحد الانتباه". كما أشارت جورديمر إلي أن العديد من الكُتاب السود اتجهوا إلي الشعر لأن "أي شيء مثير للجدل عامة، بدأه شخص أسود في كتابة نثرية متوسطة بشكل عام، يجعل الكاتب محل شبهات. وخاضعا للرقابة". كما أن الرقابة علي المطبوعات هو هدف آخر متكرر لغضبها الإصلاحي. وعقد بعد عقد، نري تحليلها لقوانين جنوب أفريقيا للمراقبة علي المطبوعات، مما يظهر أن قلقهم الزائف علي الآداب العامة لم يكن سوي حجة لقمع المعارضة. وقد منعت العديد من كتبها الخاصة من التداول في وطنها، حتي لو نالت كل الاستحسان في انجلترا والولايات المتحدة. ولكن عندما خرجت روايتها "إبنة برجر" من قائمة المصادرة والمنع عام 1980، احتجت جورديمر علي محاولة إسكاتها بتلك المعاملة الخاصة وأعلنت "لا لمنع أي من أعمال الكُتاب السود. فأنا أؤمن دائما أننا لا يمكن أن نتخلص من مراقبة المطبوعات حتي نتخلص من التمييز العنصري". وأصرت علي موقفها. لقد كان هذا واحدا من العديد من المواقف المتفاوتة الذي جعل من الصعب علي مفكرة بيضاء مثل جورديمر أن تدخل في شراكة كاملة ومتساوية مع كُتاب ونشطاء سود. كابنة لمهاجر يهودي، فإنها لا تنتمي إلي بلد أفريقي أو كنيسة رسمية بريطانية، ولكن لون بشرتها كان كافيا أن يحميها من المنحدر الأسوأ لذلك النظام التي كانت تحاربه. فالبيض "يحصلون علي الجزء الأفضل من كل شيء"، كما اعترفت هي نفسها بذلك، "ومن الصعب علينا ألا نشعر سرا بطريقة ما إننا نعيش حياة أفضل". وقد كان ما تطلق عليه جورديمر "الكذبة العظيمة لجنوب أفريقيا" بتفوق الجنس الأبيض البداية فحسب. فكتبت بحس مرهف عن العوائق النفسية والسياسية التي جعلت من الصعب علي البيض من حسني النية "أن يساهموا في التحرير القانوني والاقتصادي والروحي للسود". ويمكنك أن تصغي لحس الإهانة الشخصية عندما رصدت جورديمر في عام 1977، احتقار السود المتنامي تجاه الجنس الأبيض: "الشيء الذي فشل فيه الجنس الأبيض: هو إخفاق في صفوف هؤلاء الذين لديهم السلطة لا يمكن غفرانه من قبل أولئك الذين لا سلطة لهم". حتي سقوط العنصرية لم ينه بشكل كامل الحواجز العرقية. وفي المقال الأخير بالمجموعة نجد جورديمر ترثي "شباب القراء السود... الذين يقيدون أنفسهم بالقراءة للكُتاب الأفارقة والأمريكيين الأفارقة فحسب" وتحذر "أن التباهي بالأدب الأفريقي لابد ألا يخلق أدب أقليات". اندمج القاريء مع شعور جورديمر بالنشاط حينما أُطلق سراح مانديلا من السجن، وأخيرا انتصرت القضية التي كافحت من أجلها. وبالمناسبة، كانت تلك السنوات أيضا أوج نجاح كتابها "وقت الحكايات. ولكن المقالات الأخيرة تُظهر تراجع الطاقة الأدبية وربما المواقف الأخلاقية كذلك. فالقناعات اليسارية التي ساهمت في توهج احتجاجات جورديمر لعقود بدأت في الضعف: من المزعج أن تجد العدو الأبدي لقوانين الرقابة علي المطبوعات تكتب بهذا التسامح عن فيدل كاسترو رئيس كوبا، حيث، وفقا لتقرير حديث من لجنة حماية الصحفيين، أن كوبا هي ثاني دولة علي مستوي العالم في اعتقال المراسلين الصحفيين بعد الصين. ولكن علي الرغم من ذلك فإن كتابات جورديمر تكشف عن قوة "المعركة" بالمعني العميق والإنساني والتي تعرَفه هي بانه: "بحث الكاتب عن المعني الخاص الذي تعهد به في زمانه ومكانه".