الأنبا ماركوس يدشن كنيسة ويطيب رفات الشهيد أبسخيرون بدمياط    محافظ أسيوط يوجه بسرعة إصلاح كسر خط مياه حى شرق والدفع ب 9سيارات    وزير الإسكان: زراعة أكثر من مليون متر مربع مسطحات خضراء بدمياط الجديدة    خطوات شحن كارت الكهرباء بالموبايل خلال إجازة عيد الأضحى    جيش الاحتلال يزعم: اعتداءات حزب الله المتزايدة تدفعنا نحو التصعيد    كييف: روسيا تصعّد هجماتها العسكرية خلال قمة السلام الأوكرانية في سويسرا    ثنائي بيراميدز يحجز مكانه في قائمة المنتخب الأولمبي بأولمبياد باريس    العفو عن 4199 من نُزلاء «الإصلاح والتأهيل»    حفلة منتصف الليل| إقبال كثيف للشباب على سينمات وسط البلد.. صور    بعد طرح أحدث أغانيه.. محمد رمضان يوجه رساله لجمهوره| فيديو    عبير صبري: لم أخذ حقي في الوسط الفني وأخذته عند الجمهور    شروط تناول اللحوم في العيد حفاظا على الصحة    عادة خاطئة يجب تجنبها عند حفظ لحمة الأضحية.. «احرص على التوقيت»    مراكز الشباب تحتضن عروضا فنية مبهجة احتفالا بعيد الأضحى في القليوبية    صائد النازيين كلارسفيلد يثير ضجة بتعليقاته عن حزب التجمع الوطني بقيادة لوبان    الرئيس الأمريكى: حل الدوليتين السبيل الوحيد لتحقيق سلام دائم للفلسطينيين    متى آخر يوم للذبح في عيد الأضحى؟    وفاة حاج رابع من بورسعيد أثناء رمي الجمرات بمكة المكرمة    أجواء رائعة على الممشى السياحى بكورنيش بنى سويف فى أول أيام العيد.. فيديو    أكلات العيد.. طريقة عمل المكرونة بالريحان والكبدة بالردة (بالخطوات)    إريكسن أفضل لاعب في مباراة سلوفينيا ضد الدنمارك ب"يورو 2024"    الحج السعودية: وصول ما يقارب 800 ألف حاج وحاجة إلى مشعر منى قبل الفجر    بوفون: إسبانيا منتخب صلب.. وسيصل القمة بعد عامين    موعد مباراة البرتغال والتشيك في يورو 2024.. والقنوات الناقلة والمعلق    «البالونات الملونة» فى احتفالات القليوبية.. وصوانى الفتة على مائدة الفيومية    "Inside Out 2" يزيح "Bad Boys 4" من صدارة شباك التذاكر الأمريكي    تنسيق الجامعات 2024.. شروط القبول ببرنامج جورجيا بتجارة القاهرة    ماذا يحدث في أيام التشريق ثاني أيام العيد وما هو التكبير المقيّد؟    الغندور ينتقد صناع "أولاد رزق" بسبب "القاضية ممكن"    الدراما النسائية تسيطر على موسم الصيف    ريهام سعيد تبكي على الهواء (تعرف على السبب)    محد لطفي: "ولاد رزق 3" سينما جديدة.. وبتطمئن بالعمل مع طارق العريان| خاص    مرور مكثف على مكاتب الصحة ومراكز عقر الحيوان بالإسماعيلية    وزير الداخلية الباكستاني يؤكد ضمان أمن المواطنين الصينيين في بلاده    التصعيد مستمر بين إسرائيل وحزب الله    فلسطينيون يحتفلون بعيد الأضحى في شمال سيناء    قصور الثقافة بالإسكندرية تحتفل بعيد الأضحى مع أطفال بشاير الخير    موراي يمثل بريطانيا في أولمبياد باريس.. ورادوكانو ترفض    وفاة ثانى سيدة من كفر الشيخ أثناء أداء مناسك الحج    ما الفرق بين طواف الوداع والإفاضة وهل يجوز الدمج بينهما أو التأخير؟    قرار عاجل في الأهلي يحسم صفقة زين الدين بلعيد.. «التوقيع بعد العيد»    تقارير: اهتمام أهلاوي بمدافع الرجاء    هالة السعيد: 3,6 مليار جنيه لتنفيذ 361 مشروعًا تنمويًا بالغربية    ضبط 70 مخالفة تموينية متنوعة فى حملات على المخابز والأسواق بالدقهلية    حصاد أنشطة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في أسبوع    روسيا: مقتل محتجزي الرهائن في أحد السجون بمقاطعة روستوف    «سقط من مركب صيد».. انتشال جثة مهندس غرق في النيل بكفر الزيات    منافذ التموين تواصل صرف سلع المقررات في أول أيام عيد الأضحى    عيد الأضحى 2024.. "شعيب" يتفقد شاطئ مطروح العام ويهنئ رواده    ما أفضل وقت لذبح الأضحية؟.. معلومات مهمة من دار الإفتاء    قائمة شاشات التليفزيون المحرومة من نتفليكس اعتبارا من 24 يوليو    المالية: 17 مليار دولار إجمالي قيمة البضائع المفرج عنها منذ شهر أبريل الماضى وحتى الآن    محافظ الفيوم يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد ناصر الكبير    حاج مبتور القدمين من قطاع غزة يوجه الشكر للملك سلمان: لولا جهوده لما أتيت إلى مكة    محافظ السويس يؤدي صلاة عيد الأضحى بمسجد بدر    محافظ كفرالشيخ يزور الأطفال في مركز الأورام الجديد    بالسيلفي.. المواطنون يحتفلون بعيد الأضحى عقب الانتهاء من الصلاة    ارتفاع نسبة الرطوبة في الجو.. الأرصاد تكشف تفاصيل طقس عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تغريدة
نشر في أخبار الأدب يوم 24 - 05 - 2014

ليست هي الدمعة التي تترقرق وإنما اليدان - فالدمع الذي يستحيل أن ينزل علي ظهره، يستحيل أن ينزل علي خده- تصبحان بحجم مهفّة، كفّان دقّهما الحداد بِغلّ، مطروقتان كحدوة الجواد، مشروختان من عند الأطراف كورق موز، تحتدان من عند الزوايا كما لو سبق أن صُنع منهما قاربٌ ساحبٌ في نهر آخيل الطويل، الذي يستطيل، ولا يكف يستطيل، يداه الآن جناحان دقيقان يقاس سمكهما بالإنش، فاملأ فمك ورأسك بالهواء، كما ملأتهما من قبل بالهراء وانفخ عليهما، بكل قوتك، علي كلتا يديك، ملء شدقيك، املأ، ملء شدقيك انفخ، علّك يا ولدي تطيب، علّك يا ولدي تطير. ثم أين تظن نفسك؟ لا تفردهما في الشمس، فالشمس في هذه النواحي من الأرض تظل تقدح حتي تصدع رأسك. ألا تري المكان يعجّ بالمعتوهين والحمقي من حولك؟ هو الشعور بتلك القوة المسلطة عليك كأنك شغلها الشاغل (هل ستقول لي؟) كأنها تركت عملها والدنيا وتفضّت لك، أنا أكثر منك يا علاّم دراية، أنا أكثر منك امتهانًا، وأنت لست مصنوعًا من حديد. هذه الممارسة التي لا يسترق غيرك منها سوي السمع، سوي الضجيج، سوي صوتك وأنت من تحتها كالجرو تئن، يتحوّلون حين تحين عذاباتك إلي شياطين، وأنت اهنأ بالألم وحدك، طرقةً طرقة، اطفحه بالسم الهاري، وسحقًا للعظم الذي يرمّ كل مرة من جديد، فيستحل الله فيك المزيد من الطرق. ولست مصنوعًا يا علاّم من حديد بأمارة الصدأ الذي لم يأكلك بعد.
أذكر عندما كنا صغارًا، كانت تخطر ببالنا أشياء عجيبة، كانت بِدَعًا! كنا نجتهد مثلاً في البحث عن خنفساء، من ذلك النوع الكبير بطيء الحركة، ندق رؤوسنا في الأرض ونترصد واحدة مشت علي التراب أو التصقت بساق نبتة أو ورقة أو عشبة، أو تربعت وسط زهرة. كنّا نأتي بالعدسة المكبّرة، ونوجهها في زاوية تسمح بتركيز أكبر قدرٍ من أشعة الشمس، نقرّبها منها - مع الحفاظ علي البعد الأمثل- ونصوّبها نحوها.
كنا نلتف حولها، تعتلي وجوهنا الطفولية ابتسامة خبيثة، ابتسامة من يحدّد المصير ويدري كيف يعمل هذا الكون وفق موازين القوي، درايةً فطرية لم يعلّمنا إياها أحد. كنا نشهد وبغبطة كيفية احتراقها بطريقة مميزة. نقتلها بإبداعٍ، باستمتاع، بمزاج، بانتقائية. تموت ميتةً فنية تتعدي تقليدية التصاقها بقاع صندل أو قدمٍ حافية من الأقدام التي كانت تغبّر المكان في ذلك الحين.
في البداية سيخرج منها بخار كالصهد، ثم دخان خفيف خفيف وبالكاد رائحة احتراق وحدها خياشيمي تلتقطها، ثم تراها تُثقب، ثم تري الثقب في بطنها يتوسع، ورأسها لا يزال يتحرك، وقوائمها تتجفل. يبدأ الثقب في الاتّضاح أكثر، يصبح دائريًا ويتوغل، حتي يخمد الكائن الحي فلا يعود حيًا، حتي يهمد.

قلت لك اذهب يا علاّم وتوضأ، صلّ لك ركعتين، استهدِ بالرحمن لتُسقط حين تسجد عن كتفيك الذنوب التي تؤوب. قلت لي المياه قاطعة، أتيمم أحسن. وإذا بك، بدل أن تمسح علي وجهك تعفره بالتراب، وأنا صرخت حتي انشقّت حنجرتي- والمدي علي بختي الذي فيك مال.
يا علاّم الجذع يصير فرعًا، لا الفرع يصير جذعًا فلماذا تغلظ علي نفسك؟ قلتَ: هكذا مهما نخر فيّ السوس لن أتآكل. قلتَ أيضًا: هكذا ضلوعي عندما تحُتّها المناشر لن تقطع.
ولم تفهم عليك! لا أحتاج ذكاءً لاستنتاج ذلك! فكلامك شديد التجريدية ووحدها ملامح وجهك شديدة التحديد ، عيناك الحادتان، عظمتي فكك العريض.
وأنا أفهم، ولكن بماذا ذلك يفيد؟

ناوليني يا تحيّة المبخرة، ناوليني حفنةً أخري من العنبر، فلأخيكِ لا يُشقّ إلاّ حشا حوت، ولتتقيأ ما بجوفك من سواد، كتلةٌ من سواد لو أجتثها بيدي كما يُجتث الورم. إنه الهلع من المختلف في هذه النواحي المتشابهة من الأرض!
رقيتك واسترقيتك، من كلّ عينٍ يا علاّم، تصيبك ولا تصلي علي حضرة النبي، من كل فمٍ يلوك فيك كاللبان، من كلّ شر يا علاّم، كلّ شبرٍ منك يا علاّم، صدرك العريض عريضٌ ليتسع للهمّ.
»عن أنس بن مالك أن رسول الله صلي الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه، فصرعه، فشق عن قلبه، فاستخرج القلب، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه - أي جمعه وضم بعضه إلي بعض - ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلي أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: وقد كنت أري أثر ذلك المخيط في صدره«.
علاّم، يؤمن بأنّ المدن الضيقة لا تصنع إلا أفقًا ضيقًا ورزًا باللبن، هو الباحث عن الزحام في الناس والبراح في نفسه، في رأسه التي تستحق الكسر، في خاطره الذي لم يجبر بعد. هكذا اعتقد المعادلة الصحيحة والاعتقاد إيمان، إيمانٌ تمشي وراءه كالثور الذي يحرث الأرض، تمشي في السرب ولا تحيد عنه. ولكن علام يسعي للتحرّر، لأن يكون له جناحان. ولن يكون الثور بجناحين إلا لو كان أولاً أسطورة.

هو السراب، هو الوهم الذي يتخلّق عنه همٌ كبير. كان يتساءل: هل علي الوهم أيضًا أن يكون مشتركًا؟ أليس كل واحد منا علي الأقل حرٌ في وهمه! ياما قالت له أمه أغضب عليك لو فارقت هذي الدار، ساقت عليه طوب الأرض، عملت له عملاً كي تربطه جنبها، حبّ علي يدها، لوت له يده. سألته والفاتحة المقروءة مع ابنة عمك؟ قال لن تكون في الروح والولد، كفاها الأشياء تشوّهًا!
دعت: العين التي دخلت فيك عمرها ما تطلع، أحلامك وساوس، إخوتك لحم، زرعك دود.
قال بقدر الجرح نزرع القطن.

»ما أنت أول فارس.. ما أنت آخر فارس..
قد ضيّعته الكتب، ألقت فوق عينيه الغشاوة،
فإذا بك تخلط أي شيء..
بأي شيء!«
يضربه عمه بقبضته فهو الكبير، عمه الذي يقف علي شنبه نسر وقضيبه تويتي، يقول إن المرحوم لم يخلّف من صلبه الولد، ولدٌ صَلبٌ لا يصنع العرائس لا يلعب بالطين. وتسقط العِمّة، تتدحرج، وتنحلّ حلقاتها مثل ورق التواليت، حلقةً حلقةً تنحل، ينخلع من مكانه الضرس المتين، يتزعزع زكلّ راسخ (كل المسلّمات كل الثوابت كل شواهد القبور التي تتطاول متطلعةً لاسمه). يقول إن العَلام يا علاّم أفسدك، تحوّش أمه الكتب في حرجها الفضفاض، في النهر الصافي الذي اسودّ من لون المداد، تتناول صفيحة الجاز، وبعود كبريت واحد، يقيد المغول في الورق نارًا وفي أصحابها تقتاد، سعيرًا في الجلاليد، في العناوين المذهّبة، في ملاحظاته (في الحواشي)، في ال ، في علامات التعجب (حين لم يكن يفهم أو يقتنع أو يعترض)، أو يشدّ علي قلمه بعصبيةً من فكرةٍ يستسخفها (بمعني: فلتذهب بفكرتك هذه إلي الجحيم)، في قلبه، في عينيه، تتطاول الألسنة، في أذنيه، في مشاعب قدميه. يُجمعون علي أن الجن ركبه يوم ركب عقله وركب الدراجة ذات الثلاث عجلات.

كان في الثامنة من عمره، حين عثروا عليه بعد أيام من اختفائه. كان قد قطع الطريق الزراعي كله، وعندما سألوه إلي أين؟ قال إنه ذاهب ليري أين تنتهي الدنيا. كان يريد أن يخرج من ها هنا، باستماتة، ولو مشيًا ولو حبوًا، إلي أن يصل إلي حافة الأرض. كان يتخيل الأرض غرفة، وأن السماء ليست إلا جدرانًا وسقفًا. وعندما كبر قليلاً تطلّع إلي تحسسها، ليتأكد من حقيقتها، ليقتنع أنها علي الأقل ليست مصنوعة من ورق حائط! قال إنه ذاهب ليري أين تنتهي الدنيا، قال يريد أن يقف هناك علي الطرف، طرفها، ويلامس الله، يده علي الأقل.
»إن الحياة بدون خيال مجرد ظاهرة بيولوجية«
بول ريكور
»وإن النمو لمجرد النمو هو نفس مبدأ الخلية السرطانية«
إدوارد آبي

وقيل من يومها إن علام مضروب في مخه، وأن ذلك كان بسبب ولادته المتعسرة، فقد علق في فتحة المهبل ثم سقط علي الأرض بدفعة واحدة؛ زرع بصل. يومها بالذات، يوم هرب بالدراجة ذات الثلاث عجلات، قرأوا فوق رأسه الكثير من القرآن، وإذا به يقول في تلك الأثناء (ليزيد الأمر غرابة علي غرابة) إن هولاكو خان بني من الكتب اسطبلات للخيول وطاولات للمعالف، وجسورًا من الماء والطين والكتب المبلولة عوضًا عن الآجر.
دبورٌ وزنّ علي خراب عشه، ما كان عليه أن يكشف ما يعرف حتي يسند طوله ويقف علي رجليه صلبًا فحلاً، فمن يصعد الجبل يا ولد بقدمين مكسورتين ولو امتلك عصًا يتكئ عليها؟
ولكن، هل يتوب النورس من ثقل جناحيه المكسورين؟س
كلا!

وما نفع الدنيا الواسعة، و حذاؤك ضيق؟!
جون ويليامز
وما نفعها أيضًا وعقلك ضيق؟

انفضي يديكِ منه، ارفعي يديك عنه، كم مرة عليّ أن أدبّ في قلبك هذا الهاجس؟ لماذا لا تستجيبين للفطرة، وأم موسي من قبلك دبّت ولدها في نهر؟ هي إشارات تفوّتونها كالحمقي! طاب لكِ خداع نفسك. اتركيه، لا يُستبقي هؤلاء بالدعاء، ولا بادعائك المرض، ولا حتي الشلل: رغمًا عنكِ مثل القرع سيمدّ لبرّه، غصبًا عنكِ وعني وعن ربلتي ساقيه المتشنجتين.

علام يتمتع بقدرةٍ ما علي التمدد والتوسع. مثله مثل الكون، يتمدد ويتوسع لأن لديه خاصية ما، جاهزية ما، قابلية ما لذلك. هذه هي البرمجية التي يعمل وفقًا لها
غير هذا ينهار في عدم تأديته لوظائفيّته، ولا مجال للمساومة ولا وجود لحلول وسط عند من لا يعرف الوسطية.
عم علام (أصغرهم، والذي سمّي علام علي اسمه) مات تاركًا وراءه غرفة، جدرانًا وسقفًا وورق حائط وكتبًا تصطف وتترامي في كل مكان. كان غريبًا أن تجد في هذه النواحي غرفة مزيّنة بورق الحائط، نواحٍ تفتقر إلي الذائقة الفنية، نواحٍ تفتقرس عمومًا إلي عناصر الحضارة والجمال. كان علي الورق نقش لسنابل قمح تمتد علي طول الحائط، خضراء علي خلفية رمادية، خضراء علي خلفية رمادية.
مع أن عمه سكن في المدينة إلا أنه خصص لنفسه غرفةً في بيت العائلة، يزورها في الأعياد والعطل وحين تتعب نفسيته. ومنذ توفي نقل إخوته أغراضه من المدينة إلي هنا، ومن يومها والغبار يعتليها. أما علام فقد اكتشف الغرفة حين كان يلعب الغميضة، ومن يومها لم يعد يلعب مع الصغار، من يومها مسح الغبار، من يومها فجأةً كبر.
كانت الغرفة بالنسبة لعلام بمثابة الخلوة التي لم ينزل فيها وحيٌ مجنّح، وإنما هو الذي صعد عندما نفج من ظهره جناحان، بدآ بالتعاظم، حتي فاقا -مع الوقت- وزنه، كانا حِملاً ثقيلاً حين لم يعرف هو ماذا يصنع بهما، وحين اقتصر فضاؤه علي الغرفة المربعة!
وليست الأجنحة للجرجرة علي الأرض. كان لا بد لعلام أن يكتشف أن الأجنحة للتحليق للطيران.

تُظهر الدراسات أن الأشخاص الذين يعيشون في بيئة غنية فكريًا في طفولتهم يتمتعون بقشرة دماغيه أرق، وبالتالي يتمتعون بمعدلات ذكاء مرتفعة. ولم يكن شيء في علام رقيقًا مثل قشرة دماغه، كانت الأرقّ الأدقّ الأحقّ بكل هذا النبوغ.

صار علام يغفو هناك، وهو يتصفح الكتب وينبش فيها بكثير من الشغف الذي يحثه علي الاستعجال، وشيء من الرهبة التي تدعوه للتباطؤ. وعندما كان غيابه يطول، كان أخوته يبحثون عنه في كل البلد، ويظلون ينادون حتي تلتهب لوزهم. وياما عاقبته أمه علي هذا الاختفاء، وحلفت الأيمان أن لو عاد عليها ستُقطّعه، ولكن بلا طائل، لقد ظل يروح إلي هناك، مولعًا صار بهناك، وهي لم تقم بتقطيعه ولا يحزنون، وإنما غُلبت علي أمرها واستسلمت بعد أن اطمأنت -علي الأقل- أين هو.
كالنجم كان بلا طائل، وككسرة الخبز في الكثير من الأحيان، كان

سقط علام في جحر أرنب مؤرّقٍ بالزمن، في عالم العجائب الذي لا نلقاه أو نصطدم به في العادة هنا، حيث لا غابة ولا غرابة ولا ورود، سقط، وسط الرتابة والكآبة والمحدودية، في مربع تنغلق أضلاعه علي ضلوعك تطبق عليها، حيث يتداخل بعضك في بعضك، تُضغط كقرص مُدمج، كُلّك ليس كلاً علي الإطلاق، ومن لا يعرف الاندلاق لا يستطيع يا فتي الفكاك، حيث تسقط من حوض عظمي إلي حوض زجاجي، حوض أسماك، والبحر يمتد هائلاً هناك وأنت الهائم الذي لا يدري، حيث لا وجود للقطط المخططة البرتقالية، حيث تُسلخ الأرانب وتُطبخ، حيث تنصهر الساعات، حيث أرضنا غاضبة، سماؤنا غاضبة، أمهاتنا غاضبات، وكله علي أتمّ الاستعداد ليلعنك، وكل مخلوق مخلوق ليدعسك، وأنت مبسوط لتكون موطئ قدم، وأنت مبسوط بذلك!
»جائبس« في العالم الثالث من نوعٍ آخر، أكثر إبداعًا ومأساوية. ولكن حصل نوعٌ من الانزياح عن منظومة الحياة هنا، حين انزاح علام فسقط هو الآخر في جحر أرنب أبيض كثّ الفراء مؤرّقٍ بالزمن، كثّ الفراء.

حتي أنه كسر يده مرة لما تسلّق المكتبة وسقط، كي يصل إلي الصف البعيد، آخر صف، آخر رف، آخر الرف. عالم المعارف بالنسبة لبلدة مجهولة، مغمورة، بالوحل، يعمّها الجهل، في الثمانينيات البائسة طبعًا يُعتبر عالم عجائب.

حصل أيضًا أن تزامن ولعه في القراءة مع موت والده السيد عبد الجبار أحمد الطيب. إنها المواقيت فقط، تقاطع الأشياء، وسقوط كوكب في ظل كوكب، في مدار كوكب. حينها فقط انتقلت قراءته من طور الفضول العادي واللهفة السطحية إلي طور أكثر عمقًا، لأن ما حصل رنّ في أعماقه رنًا.

مع الوقت صار يتأني ويتفاعل ويتوحّد مع النص بشكلٍ مبالغٍ به، وتوقف عن تبنّي الفكرة الواحدة من المصدر الواحد، صار يأخذ فقط فكرة عن الفكرة، ثم يرميها كبذرة بين فلقتي دماغه ويدعها تنبت وحدها وتنمو تطول وتتطاول. صار يقرأ بشراسة منذ تلك الحادثة الفائقة، وبممارسة حقيقية، كما لو أنه يكتب. كان يقرأ وهو يهز رجله اليسري هزًا عنيفًا من شدة التوتر والانخراط في فعل القراءة، حتي أنه صار يشعر بأن النوم ليس إلا مضيعة للوقت، وأن أنفاسه تتقطع من اللهاث، وأنه يركض كالكلب ولسانه في الخارج »متر« يركض، وهناك ما يلاحقه! كانت القراءة عند ذلك الولد أشبه بال... رهز! تداخلٌ، علاقة متبادلة.
ولم يقرأ علام لأنه يجد في القراءة متعته، وإنما لأنه وجد فيها اثنين:
الله ونفسه
كان يتربع علي الأرض، يضع المسجل في حضنه، وإلي جانبه كرتونة قديمة للأحذية فيها رزمة من الأشرطة المسجلة التي يتنقل بينها، سواءً للموسيقي أو لغيرها، ويسمع ويخشع ويرهف السمع والحس. وفي مرحلة متقدمة تعلم كيف يوقف الشريط بين الحين والحين، ليتأمل لماذا استخدم صلاح عبد الصبور مثلاً هذه المفردة وليس أخري، لماذا هي دون غيرها! وبدأ يلحظ كيف أن اختيار الكلمة في النص وموضعها يتعدي الأسباب اللغوية بكثير.

أيها الطفل الذي لم أباركه في الغار، ولا في بطن أمه، ولا في الواد المقدس طوي، إني بك لفخورٌ

» شيرون يعلم أخيل العزف علي القيثارة«
(فريسكو من الأسلوب الإمبراطوري الروماني الرابع)

توفي عمه عام 77، العام الحزين الذي ولد فيه هو، ولذلك سمي علي اسمه؛ علاّم. كان عمه في زمانه »المتعلّم« الوحيد في العائلة، وحتي في القرية كلها. كان أفنديًا منظرًا ومحضرًا تحفي في سبيله الصبايا. وقد أظهر هذا العم دون إخوته تفوقًا مبكرًا في دراسته -كما يبدو وكما يحكون- لدرجةٍ مكّنته من نيل منحة لدراسة الطب، هناك في بلاد الآيس والآيس كافيه، دون عثرات كثيرة تعكر الصفو وتقلب المعدة وتنغص عليه عيشة أهله كالتي كان له أن يلقاها هنا. فالعالِم يختلف -علي ما أظن- عن الفنان، كما الطريق الممهّد يختلف عن الطريق الوعر، العالِم منتعل، والفنان حافٍ تنبت من تحت قدميه الحجارة، وتمطر عليه الدنيا حصًي.
وهكذا أصبح علام العم الطبيب الوحيد في هذه البقعة الملعونة المليئة بالمرضي الذين يتساقطون، أشباح البشر، أشباه البشر، مسوخ متجولة مفغورة الأفواه، رسم منها كثيرًا إدفارت مونك علي أساس أنها محض تصوّر إبداعي.. هناك في النرويج، محض واقع منحط كانت هنا، وكان عمه يمثّل معنًي جميلاً وسط القبح، كان أشبه (علي سبيل المجاز) بالحب في زمن الكوليرا، بالحب في زمن الكوليرا.
منذ البداية، كان من المتوقّع والمفهوم ضمنًا أن علام الكبير سيصبح الشاب المتعلم دونًا عن إخوته وعن باقي أترابه (المتربون). فالنبوغ عادةً ما يظهر باكرًا، منذ كان يستحم ويفرق شعره علي جنب ويفضّل الانشغال بالمطالعة، لذلك كانوا ينادون الحاج أحمد الطيب (وهو جد علام) بأبو الدكتور، قبل أن يدخل ابنه كلية الطب حتي.
وقد أصبح علام الكبير طبيبًا جراحًا في مستشفي الرعاع، مع أن الحاج كان مصرًا علي أن يرجع إلي البلد ويعمل في عيادة خاصة (كان قد ادخر مالاً من أجل تهيئتها له، كي يباهي به أمام الناس). إلا أنه وبسبب تخصص الدكتور في الجراحة بالتحديد، لم يكن ينفع أن يعود حيث آلام الناس صغيرة، وموتهم بطيء، وهم مرميون علي ضفاف النهر كسلاحف لحمية بلا قواقع. ولهذا كرّس علام حياته للعمليات الجراحية في مستشفي حكومي، حيث الجرح بحجم شرخ يمتد علي عرض السماء، سماء برتقالية كالجحيم.

المشكلة أنه منذ العام 56 وصاعدًا استجدّت في الأمور أمور - حين أصبحت كل الأمور أصلاً أكثر إرباكًا وتعقيدًا. حينها بدأ علام الكبير بشغل الجراحة الذي علي حق - وهو بعد يقول يا هادي- جراحةً بالجملة هذه المرة! إنها الحرب، والمصابون والجرحي بالمئات، وأكوام متكدسة من البشر تنقل إلي المستشفي بالحافلات، كالغسيل في السلة! والطريق من غرفة الإنعاش حتي غرفة العمليات جرت فيها دماء الشباب بعد أن جرت في عروقهم هدّارةً فوّارة، ها هي مائعة تسيل! مساحيق الغسيل نفدت، ولم تتغير ملاءات الأسرّة. والنحيب الذي أضحي خلفية موسيقية تضاهيك يا موتزارت، والدموع علي خدود الرجال المتورّدة المتورمة، واحتياطي حقن البنج الذي أوشك أن يفرغ.
وهكذا وجد علام الكبير نفسه مضطرًا أن يستخدم المخدّر بجرعة أقل ويخيط السيقان المبتورة -غرزة غرزة- وأصحابها يقظون، جاحظو الأعين والأفواه، يجعرون. والنساء من الأمهات والزوجات كلهن آذان، تصبح أذن الواحدة منهن كأذن فيل. يتمتمن في الممر المحاذي للغرف كالغرابين السود. وكأنّ الله يسمع الصراخ حتي يسمع الهمس. يوصيهن الأطباء: لا ترفعن أصواتكن في حضرة العالقين بين الحياة والموت، كعادتكن في الحياة، كعادتكن في الموت. يداه يزداد ارتجافهما! وإسفنجة النقالة تمتص الدم، يتعصّر منها ويزبد مثل الرغوة من الليفة.
إصابات بطلقات نارية في العين والبطن (كاد يستفرغ مرة ما أكله في بطن أحدهم وهو أمامه مشقوق!) والمخ، وقطع في الأصابع، وتهتك في العظام، وإصابات بالشلل، والموت الذي يطبق أمامه بوقاحة وإصرار.
كم جنديًا لفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه، كم شابًا ارتفعت حدقات عينيه إلي الأعلي (إلي الأعلي)، وهو بعد لم يبدأ، أو لتوّه انتهي!
مقاطع من رواية بالعنوان ذاته تصدر
قريبا عن دار ميريت.،


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.