قال الفتي للشيخ المثقف: ولدتُ مطلعَ 1993.وأنا أودّع الطفولة،بدأتْ ضوضاءُ العالم تغمرني.لم تعُدْ الأقطار العربية جزرا متباعدة،يقوم تعارفها علي السماع وما ينقله الرحالة والحجيج،بل غدت قنوات التلفزيون ومؤتمرات القمة ومقرراتها الجوفاء تقدم صورة لما عليه الواقع في الأقطار الشقيقة من بلاغة محنطة،ونفاق مدروس ، وتساند في قمع المواطنين،وتقاعس عن تحرير ما تبقي من فلسطين،وتحارُبٍ بيْن الإخوة الأعداء... والعالم الكبير يجري وراء تجديد حضارة تُعولِم الاقتصاد والمعلوماتية والقيم .وفي الآن نفسه،يبيح لأكبر دولة وأقواها أن تنتهك حقوق الإنسان فتفتح سجونا سرية لتعذيب مَنْ تفترض أنهم وراء شبكة إرهاب عالمية انطلقت من تحطيم المركزيْن التجارييْن في نيويورك...منذ نهاية مرحلة دراستي الثانوية وأنا أقلِّب النظر بين الداخل والخارج وأتساءل : هل هو سوء الطالع الذي جعلني أولد في فترة انحدار وتدهور من تاريخ العالم؟ قال الشيخ : أستسمحك في أن أقصُرَ حواري معك علي الفضاء العربي الذي تجمعنا لغته وتاريخه وتطلعاته المُجهضة. وما أود أن ألفت نظرك إليه،هو أن انحدارنا بدأ قبل أن تولد بأكثر من عشرين سنة،أعني سنة الهزيمة في 1967 أمام جيش إسرائيل. وهي لحظة مفصلية في التاريخ الذي ننتمي إليه،لأنها كشفت عن أن الدودة المُعششة في الفاكهة هي جدّ قديمة،وأن استظلالنا واحتماءنا بخرافة المستبد العادل ودول الممانعة والقومية العربية ما هيَ إلا تمويه وتشييدات واقفة علي أرجُلٍ من طين! لكن عليّ ان أقول لك بأن مجتمعاتنا صنعت لحظات حُبلي بالأمل والتغيير المُجدد،خاصة في فترات الكفاح الوطني ضد الاستعمار. قال الفتي(مُقاطعا) : قرأتُ عن تلك اللحظات،لكن يبدو لي أنها لم تكن جذرية بالقدر الكافي لتطرح الأسئلة الأساس،وتجثث الدودة من أصلها. فضلا عن ذلك،أنا أري أنه لا يمكن أن نتحدث عن الحاضر انطلاقا من الماضي،بل انطلاقا من المستقبل : هل حاضرنا ينطوي علي عناصر كفيلة بتغييره نحو الأفضل مستقبلا ؟ أم أن هذا الذي نعيشه علي مرمي الفضاء العربي ،لا يُنبئ بسوي الإمعان في الانحدار واستحكام التسلط ؟ قال الشيخ: أراك تتناسي نقطة ضوءٍ مهمة في حاضرنا.أقصد هبّات الشباب وانتفاضاتهم من أجل الكرامة والعدالة والديمقراطية. كانوا الشرارة،لكن نداءاتهم وجدت آذانا صاغية لدي الأغلبية المقهورة؛وجاءت لغة احتجاجهم فاضحة وكاشفة،أشّرت علي مكامن الداء ورسمت معالمَ لمُجاوزة الانتكاس والتعثر. أنت عشت ذلك أيضا،وأنا أتفهّم أن تسعي إلي تأمُّلٍ يستقصي ما وراء الراهن،لأن الانتفاض لم يتبلور بعد في مناخ ربيعيّ واعد. وهو أمر متوقّع في نظري علي ضوء ما سجله تاريخُ الشعوب. طبيعي أن يترصّد الماسكون بالسلطة وذوو المصالح،والمؤسسات النافذة(الأمن،المخابرات،الشركات الدائرة في فلك العولمة،التنظيمات الأصولية...) لحركات الشباب ليحدّوا من ثوريثها ويشوهوا مطالبها. غير أنني أبيح لنفسي بحكم شيخوختي ، أن أسجل أن الشباب لم يُعِدّ العُدة لمواجهة هذا الإخطبوط الماصّ لخيرات الأرض والمتحكّم في العباد... قال الفتي:أنت إذن تلوم الشباب علي ما تراه تقصيرا؟لكن لو لم تنتفض جماهير الشباب لتأبَّد الاستغلال وخضعنا لتوريث الأتوقراطية واستبداد جمهوريات وَ ملَكِيات المُوز؟ قال الشيخ:لا، أنا لا ألومكم. أنا أتحدث من مسافة.أعايِن.أصارح لكي تظلوا في الميادين وتُزاوجوا بين الفعل الاحتجاجي،المُنتقد،وَالتفكير الملموس في تحويل المجتمع نحو الصراع الديمقراطي مستقبلا. وفي جميع الحالات،أنا مطمئن إلي أن ثورة الشباب لن تتوقف لأن شروطها متوافرة من زمان؛ولا يمكن لمجتمعاتنا أن تستمر سجينة بنيةٍ ثنائية خانقة : أقلية سلطوية مستفيدة،ناهبة،وَ إيديولوجيا ماضوية تريد أن تُعوّض مستقبلنا الدنيوي بوعود نجني ثمارها في السماء! وبالمناسبة،أقول احذروا مَنْ يُطل من شاشة التلفزيون ليقدم الوعود والبرامج المُثلي،وعندما يُسألُ عن الضمانة في تحقيق وعوده،يرفع عينيْه وسبابته نحو الأعلي قائلا : أنا أعتمد علي ربنا ! قال الفتي: هل أفهم أنك،أيها الشيخ المثقف،تستوحي في نقدك،خطابَ الحداثة ومقولات العقلانية والعلم والتكنولوجيا؟ قال الشيخ :ليس تماما،لأن الحداثة التي تحمستُ لها مطلعَ شبابي لم تكن متكاملة.كانت خطابا فوقيا ، تنويريا،لم تُشدد علي الأسس المادية الملموسة،ولم تتواشج مع الفئات المجتمعية المُهيأة لتجسيد الحداثة سياسيا. ومع مرور الزمن،أجد أن تلك الحداثة التي قامت علي أسس ملموسة في الغرب،لم تعد بدورها قادرة علي الصمود لأنها فاضَلتْ بين المعارف والخبرات،وآثرت العلم والتكنولوجيا ،ولم تحفل بالمعيش والتعبير الفني والحدسي المُلتقط لما لا يدركه العقل... قال الفتي:لا أريد أن نبتعد عن الحاضر الذي يشغلنا؛والحداثة منظوراً إليها من هذه الزاوية الشمولية هي أبعد من بلاد الواق واق؟ قال الشيخ : أنا دائما في صلب الموضوع علي رغم ما يبدو من تحليق بين تواريخ وإشكاليات متباعدة.ماذا يقول حاضرنا بعد ديسمبر 2010؟ انتفاضات وشعارات وتجمعات احتجاجية ضدّ أنظمة نشأت بعد الاستقلالات لكنها جنحت إلي تأبيد سلطتها عن طريق فرض الاستبداد،وأخلّت بالتعاقد القاضي ببناء دولة وطنية ديمقراطية. كان من الطبيعي أن تأتي هبات الشباب لتعلن رفضها لهذا الليل الطويل الكاتم للأنفاس والعائق للتقدم.في الآن نفسه،يكون من الطبيعي أن تدافع الأنظمة القديمة عن امتيازاتها وسلطتها؛وهذا ما نعيشه منذ أكثر من 3 ثلاث سنوات. والعنف المصاحب للتغيير والمدفوع أجره أحيانا،هو ما تتذرّع به قوّي المؤسسات المنهارة لتشتري تأييدَ الأغلبية الصامتة التي تفضّل استعادة "الأمن و السلم". علي هذا النحو،تحرفُ الأنظمة المُتهاوية معركة الديمقراطية عن مجراها،وذلك من خلال بثّ وعي ٍشَعبوي مغلوط ،يُقايض حلم التحول الديمقراطي عند الشباب ،باستعادة السلم والتعايش في ظلّ "الاستبداد الأمني"عند الأغلبية الصامتة. قال الفتي : لكن هذا العنف المصاحب لهبّات الشباب والمناضلين الأحرار في مجتمعاتنا،لا أحد يتقبّله في وصفه شرطا مُلازما للتغيير والانتقال إلي الديمقراطية؟ قال الشيخ : هو عنف لا مناص منه. عنفُ المخاض قبل الولادة.وهو نتيجة حتمية للردّ علي العنف الفظيع الذي تجرّعْناه في عهود الدكتاتورية والحكم المطلق،وما تزال أنظمة تفرض الأمن الاجتماعي بالنار والحديد،وتمارس العنف في جميع مجالات الحياة علي أساسٍ من الفرز والمراقبة ومصادرة الرأي والأرزاق... ذلك هو العنف المرفوض الذي فُرض علينا عقودا طويلة وكان أحد أهم الأسباب وراء تفريخ حركات التطرف الديني أو التشيُّع للقائد البطل...هو عنف مُقابل عنف من أجل تنبيه المواطنين من غفوتهم وتخليصهم من التخدير الشعبوي ومن أوهام الجنّات الموعودة. لم تعد حكاية استعادة الأمن وتحسين شروط العيش تقنع أحدا،لأنها تعني في الواقع الإبقاء علي الفوارق الاجتماعية المخيفة،والاستمرار في النّهب والعنف "المشروع " المعتمِد علي انتخابات مزيفة... قال الفتي : وأنا أستمع إليك،أجدني مقتنعا بما تقول؛لكنني في هَدْأةِ الليل وأنا أستعيد الأخبار والمعارك والانفجارات وجثث الأطفال المغتالة بالغاز الكيماوي،واعتقالات الشباب المناصر للربيع...،أتساءل بصوت عالٍ : هل كانت انتفاضات المتطلعين إلي العدالة والكرامة جهدا ضائعا؟هل "جينات"مجتمعاتنا ،كما يقول البعض،مُعقّمة ضد الحوار والديمقراطية والحداثة؟ قال الشيخ المثقف : لا تفتح بابا للتشاؤم وأنت واحد من المعوّل عليهم في تغيير المستقبل الذي يشغل بالك . إن السديم الذي يلفُّنا اليوم ما هو سوي لحظة من جدلية عميقة بدأت لتستمر. لن تعود الأمور إلي ما كانت عليه؛ولن تستطيع الأنظمة المنهزمة أو المُتهاوية أن تستأنف نسْجَ الأكاذيب وإيديولوجيات التبرير. أقليّات الامتيازات والسلطة والاحتكار أضحتْ محاصرة بأغلبية تعيش دون مستوي الفقر،ومُحاصرة بشباب يعي اتجاه دينامية العالم ورهانات التغيير،ووسائط الاتصال...،لذلك أري أنك مطالب بأن تسهم مع جيلك في تصحيح الوعي المغلوط وتحويل الميدان إلي "أكورا" للحوار الحر،لكي تغدو الانتفاضات القائمة والآتية ربيعا يرتدي غلائل التحرر والصراع الديمقراطي الشفاف. ما عاد مقبولا الآن من الشباب أن يحجب سؤالا أو يتردد في طرح إشكالية مهما بلغت درجة صعوبتها أو حساسيتها. كل الأسئلة والاعتراضات والآراء يجب أن تُطرح الآن،الآن وليس غدا.