أوشكت بياتريس أن تكمل يومها الاول الثقيل متعالية علي حزن أن تكون زوجة رجل مهاجر، حين طرق أرشاك بابها، في العاشرة مساء، وتلعثم في الاصرار علي جعل ابنتها ميري تتذوق قرصا من بيتزا ماركَريتا، مع تشكيلة مقبلات لشخصين. فعل ذلك ببرود جباة مديرية الماء، وانسحب دون أن يرد علي دهشتها، أو أن يتمني لها الخير في الصباح القادم. قبل أن يهاجر زوجها إلي السويد، لم يكن أرشاك آرتين سوي جار أرمني هزيل في الخامسة والأربعين، فاقد الأهمية، وغير قادر علي الفات العواطف. ويوم وصل زوجها إلي أستوكهولم، نال أرشاك مكانة أن يكون المسؤول الأول عن كافتريا استحدثت في الطابق السابع، من بناية الشيراتون في بغداد، حيث مكاتب وكالة أنباء يبدو علي إسرافها الطموح. لم يطلب منه أحدٌ فعل ذلك، لكنه اندفع لتحقيق التماسك الارمني العميق دون أي اشتباه بإعجابه الغامض بها، فكان يأتيها بالخبز الحار صباحاً، ويرشدها إلي ما يمكن أن يكون اختياراً صائبا لوجبة الغداء. تمنت بياتريس، بشفقة متأخرة، ألا يقع جارها الأعزب أرشاك آرتين، صريع اختلاقات مهلكة. لم يكن من المجدي العمل علي ارجاعه إلي وضعه كنزيل مشارك بالسكن في عمارة قصر البنفسج، فقد قال لها وهو يحمل بيديه سلال الطماطم، والبصل، والبطاطا: سيدة بياتريس.. لم يبق في بغداد من الأرمن سوي انا وانت وابنتك ميري. علينا ان نأكل جيدا كي لا ننقرض. كانت واثقة من أنه يكذب الا أن كلماته أرعبتها وجعلتها تتغلب علي حرج أن تتلقي اطعمة، وخدمات بلا حسابات تضبطها بنفسها. كانت تبقيه عند الباب، وهو مزين باغلفة ورقية حمر لخدمة الأكلات السريعة إلي أن تسيح رائحة المايونيز والكجب لتدخل قبله إلي الشقة، بينما وعيه لا يلتقط حيرة بياتريس مما يحدث. لم يردعه الصليب الذي يتأرجح علي سفحي ثدييها وهي تعتذر - بعدها بيومين - عن قبول عشائه. كانت قد عانت رعب أنها امرأة وحيدة، وأن سكان العمارة قد لا يعرفون أن بغداد بعد مذبحة كنيسة النجاة لم يبق فيها سوي ثلاثة من الارمن. استمر في وقوفه الإنساني كرجل يؤدي واجباً مصيرياً، وقال بلا أدني استعداد للهزيمة: معي موساكا يونانية، وسيزر سلاد دايت. حين اقتنعت بياتريس، تماما، بأنه رجلٌ يريد أن يبقي أدني من توقعاتها، كان أرشاك قد قضي علي كل ما يزعجها. أفني صباحات أسبوع حار في إبادة صراصير مطبخها، وجعل دخان القلي يغير مساره، ولا يتسلل إلي صالة الاستقبال، وأعاد إليها تفاؤلها بإمكانية جعل كل شيء في طاعة أصابعها. أدهشها كثيرا في انتقاءاته الطازجة، وحكمة مشترياته، وتفصيلاته الدقيقة بشأن الانفاق الانسب للنقود. تمكّن من أن يكون مثلها تماما في سلوكه مع معلمات ميري مواصلا إدهاشها بمبادراته التي تنظف قلبها من الهموم. كان لا يحكي عن شيء فعله، ولا يعلمها بما سيهبها إياه غدا. تجده في اليوم التالي قد حقق ما فكرت به في المساء. سريع مثل أحداث القدر، وخفيف مثل الملائكة. وجهه الطافح بصفرة عليلة لا تفارقه تعابير النادل الملتزم ببذخ الرقي، وكانت تستدرجه بشأن جذور هجرة عائلته لتطمئن إلي أن ما يفعله معها يعود إلي القلب الارمني الكبير الواحد، ولكنه يشتتها، وهو يرد دون أن ينظر في عينيها انه قدم من مطعم سيربريانيز الواقع في الشارع الخامس في مانهاتن غرب برودواي. ضبط ارشاك حسابات مصروفها البيتي الا إنها بقيت متوترة امام عدم استطاعتها منحه اي شيء. اظهر لها حرصه علي ان يعيد إليها نقودا غير مرممة باللواصق، وكان يسجل لها كل صغيرة وكبيرة في دفتر ملاحظات، ويستخرج مقارنات الاسعار نهائية كل اسبوع، وتراه يفحص حبات البامياء، والفاصولياء، ويجري اختبارات علي الباذنجان، ويعطيها تقديرات مضبوطة بشأن ظروف التخزين وتوقيتاته. لم يكن يتصرف بعينيه كما يفعل الرجال، وماعدا اصطدامات عفوية عابرة فان ارشاك لم تكن لديه اشعاعات مؤثرة، ولم يظهر عليه اي تبدل. كل ما في الامر أنه يزداد اصراراً، وهي تتفاعل في الخضوع بشأن الطعام، وبعض التعليقات غير المهمة. كان دائماً ما يواجهها بانطباعات قديمة، فيذكرها بانها قليلة الاختلاط، ومتمسكة بصديقة تعيش في السليمانية، وأن هذا يضعف القلب الارمني، ويؤدي الي التهاب الحنجرة. ولكي يتمكن من النظر الي وجهها اطول مدة ممكنة، يقول لها إن عيب الارمن في عيونهم لأن بصرهم يضعف سريعا، لذلك هم يحبون فن الفوتوغراف. مر شهر دون أن ينتابها الندم علي شيء ما، كما أنه لم يغير عاداته، فقد كان يظهر ميلا إلي التوسل بغياب تام للجرأة، او الشجاعة، وكل ما كان يفعله لابد من إذنها اولا. كان عليها في البداية أن تكون كتومة، ولكن ارشاك كان يحتاط اكثر منها لمسألة الا يظهر امام باب شقتها في التوقيت الخطأ. ميري التي تبلغ التاسعة من العمر احبته سريعا، وكانت تنتظر لمسته الخاطفة لزر الجرس. يكون وقتها قد بدا متعباً، وشعره القنفذي قد مشطه الغبار، ولون وجهه ازداد صفرة. يقول لهما باعياء: معي كباب تركي بالباذنجان. فعلت بياتريس ذلك بحذر شديد الا أنها لم تعثر له علي جذور متينة. لا تتوفر عنه معلومة ذات اهمية خارج قصر البنفسج، والذين في العمارة يقولون إنه ارمني اعزب، ويعمل نادلاً في كافيتريا. لا توجد لديه سوابق مع عاهرات البتاوين، وهناك من يعرف انه عمل لفترة وجيزة مساعد طباع في شركة (الآن) للطباعة والاعلان. بدا لها أنه لا يستوعب الوسائل المتبعة في تحصيل الاطمئنان، او الترويج للثقة، والسمعة الطيبة، وفي المقابل لم يكن ارشاك يمنحها الطاعة الخالصة. كان يبدو في أوج خضوعه شخصاً يمتلك موهبة تقييم الجمال. يستدرجها بانكساره، لكنه ما إن يقف ليغسل أطباقها، وأقداحها، وسكاكينها حتي تتجلي فيه روح العازف الماهر. كان ممسوسا بالرغوة، وحساساً مع الاسفنجة، وسوائل التنظيف. يستخدم أصابعه في محو الدهون، وإزالة الروائح، وتفريغ الفقاعات. ينتصب مثل فرشاة تنظيف بآلاف الشعيرات. كان مظهره يعبر عن قيادة تفرط بالثقة. لا يدع كلور الماء يتحكم به، ولا يترك للقطرات اية سلطة. لمساته تنشيفية، وأنفاسه تدلك الزجاج حتي يبرق باللمعة الماسية. كانت بياتريس تتخدر أمام انسكاب عواطفه مع المياه. تصيبها الدهشة، وهي واثقة تماما من أن لا زوجة يمكن لها اجادة شهوة التنظيف الجامحة التي في رؤوس اصابع ارشاك. ومع تهدل حركاته تخفت شيئا فشيئا موسيقي الانزلاقات فيعود ارشاك، ما ان يقفل الحنفية، إلي طبيعته كرجل تافه. يحرص في اوقات غير مناسبة علي تذكيرها بأن الاوضاع غير مطمئنة. لم تعثر علي تدينه وكأن المسيحية تقاطع خشبتين فقط. هي لا تعرف قصده حين يذكرها بأن المسيحيين انقرضوا. تلمس متحجرات جيرية في صوته وهو يقول: الأميركان خذلوا الرب، ولم يساعدونا علي التكاثر. استفزها هذا الكلام فردت عليه بأنها غير مقتنعة، وأنها تشك بأن هذه الكلمات له. حين قالت ذلك كان اليوم هو الجمعة وكان ارشاك ينوي تقطيع اللحم إلي مكعبات. انسحب إلي الخلف وتخلص من السكين بحركة عصبية ثم استدار كما يفعل الجنود وسار ليخرج من البيت وأصابعه متباعدة. بقيت بياتريس مسمرة في مكانها ومرعوبة. لم تسترجع وعيها إلا حين أمسكت ميري بيدها وسحبتها إلي الصالة كي تعالج لها خلل التلفزيون. عثرتْ بعد جهد علي علبة سجائر المارلبورو وراحت تدخن في المطبخ وهي جالسة علي مقعد بلاستيكي خردلي اللون. تبلت اللحم واعادته إلي الثلاجة ودخلت إلي غرفتها ووضعت حفاظة بين ساقيها مستبدلة لباسها الابيض بآخر احمر يلم كامل حوضها. ارسلت مسجاً إلي السويد، ولم تتلق الرد، وراحت تتابع مع ميري مشهدا كارتونيا لتوم وجيري. في الثامنة مساء عاد ارشاك بكيلو مشمش مع قطعة كيت كات لميري. شعر بخيبة وهو يستخرجُ اللحم من الثلاجة، وغيّر خطته. حاولت بياتريس أن تكون مساعدة نبيهة، لمت شعرها أمامه، وكانت ترتدي بلوزة كتان بيضاء بلا اكمام، فشاهد إبطيها الحليقين، وقدر بدقة صغر حجم ثدييها. قال لها بصوتٍ واثق: نحن لم نناضل كما يجب ضدّ الانقراض. ردت: هذا صحيح. أنا أحزن حين أتذكر الديناصورات وماجري لها من نكبات. سكت بعدها، فقالت: وأنا ايضا. التفت نحوها، وباعد أصابعه قائلا: لستُ خطراً.. اعني ان هذا لا يحدث دائما. تركته وذهبت لتجلس مع ميري. لم تستطع ان تفهم ما كان توم يحاوله مع جيري. تفقدت هاتفها، وارسلت مسجاً إلي السويد، ومرت ساعة دون أن تتلقي الرد. بدت ميري أكثر تجاوباً من أمها، لاتعاني من فواصل الاحباط، ومقتنعة تماما بكل إجراءات ارشاك بشأن المحافظة علي الصحة. هو لم يلقنها مخاوفه، ولكنها عرفت أن النظام الغذائي الغني بالمعادن سيمنع انقراض الارمن. لم تعترض بياتريس علي قيام ارشاك بتنظيم علاقة ميري مع طبيب الاسنان، وحرصه علي أن تتلقي دروسا في اللغة الانكليزية حتي إنها عادت الي هواية السير في الشقة عارية تماما وبيدها كأس جن بالليمون لان ميري تقضي فترة بعد الظهر في مسبح الشيراتون برفقة ارشاك. اخذت بياتريس تطلب منه عمل اكلات تحتاج الي وقتٍ وجهد، وتحسن مزاجها بشأن الحلويات، ولم تعد تغطي ملابسها الداخلية المنشورة علي الكرسي البلاستيكي بمنشفة الحمام، واخذت تتقبل منه ذلك البطء المريب وهويحضر ابتكاراته الغذائية مشخصة بدقة رائحته الحقيقية التي تشبه بيضة نية مخفوقة مع ملعقة من معجون الطماطة ورشة فلفل اسود. اكتشفت أنها تصدقه جداً حين يقول: علينا نحن الأرمن ألا نثق بالماء الذي تضخه الحكومة عبر الانابيب. تسأله عن الحل، فيجيبها: سنشتري اجهزة تصفية، فربما الحكومة لا تعرف أنه لم يبق من الارمن في العراق سوي ارشاك وبياتريس وميري. تطلب منه ان يخبر الحكومة بذلك، فيرد عليها: الإنفجاراتُ الكثيرة أعلي من صوت الأرمن. كانت بياتريس حين تسمع منه كلمات كهذه ترسل مسجاً الي السويد وتنتظر، بينما أرشاك أكثر ثقة وأشد تقيداً بالتفاصيل الصغيرة التي تفرضها أرواح الخضراوات الضعيفة. ينبهها إلي أهمية اللمعة في الاقداح، وإلي الحياة المثلي للسكاكين، وحين يمسك بالصابونة الحساسة تنبهر بياتريس بتلك الثقة التي ينظر فيها الي وجهه في المرآة التي فوق المغسلة، وتقول له إنّ شعره طال وإنّ عليه التفكير بأمواس جيليت، وإنها تستخدم نوع فينوس بريز لونها موف. يشطف الرغوة عن يديه ورأسه مرفوع ويبحث عن عينيها كي يوجه لها ابتسامة رجالية غامضة. كثيراً ما تخشي بياتريس الاّ تكون قد فهمته جيداً. هي لا تعرف لماذا ينتابُها هذا رغم أن ارشاك اكثر هدوءا من قبل ولا يظهر عليه الخجل او التوتر واصبح باستطاعتِه أن يهمس في اذنها كي لا تسمعه ميري وأن يصطدم أنفُه بشعرها. كان الهواءُ يتضاعف في صدرها مع الشهيق وتتفتح الفرحة في وجهها كلّما بادر الي إبقائها معززة مكرمة. تندفع ميري الي توحيدهما بأن تكون منسجمة تماماً مع المفاجأة التي ستقع. علمها علي خلطة فواكه تناسب مشروب الجن واخذ يحضر لها كأسها بكل اناقة وهي متعجبةٌ من تغير رائحته. لم يكن ينتهز نوبات حنانها حتي لا تندم بعدها علي تهور انوثتها. يعرفُ توقيتات زهوها ويمنحها الكلمات التي تسبح في الدم نحو أذن القلب. يستغلّ خدرَها الليلي في أنْ يستهلك وقتاً اضافياً في تنظيف المطبخ بينما بياتريس تنكمش علي أريكة الهول مشتتة العواطف وهي في أعلي درجات الامان. كان أرشاك ، وقتها، يتبدل تماما، ويتجمل حضوره وكأنه نزع عنه ذلك الارتباط الذي يحشره في إطار الخدمة. يحدثها عن نكبات الأرمن وأخطاء الامريكان والفساد الاداري العراقي وهو وثيق الصلة بحب مندثر. هي تحب أن تطوي ساقيها وتقرب ركبتيها من صدرها حين يجلس بجوارها ويقول: المطبخ مركز سعادة البيت. ترد عليه: يمكنك أن تجلب ملابسك.. سأغسلها مع ملابس ميري. كان ارشاك يلمس اصابع قدميها كلما جلس بجوارها. لم تكن ترغب في معرفة السبب لكنها سألته هذه المرة: هل تجدها قبيحة؟ قال وهو يمسك بالاصبع الكبير لقدمها اليمني: انها بديعة.. تذكرني بالحان آرام خاتشاتوريان ورقصة سيبر. * * فتحت ميري له الباب، في العاشرة مساء. رأته يرتدي تي شيرت احمر، وقد ازداد طولاً. بدا شاحب الوجه الي درجة أن الطفلة لم تبتسم. حاول أن يهمس لها بالسر السعيد ولكنه شعر بدوخة. شد جسده وقال بلا مرح: معي فتوتشيني بالدجاج. لم يستمر علي تماسكه، واضطر ان يستلقي علي الاريكة في الهول حيث قامت بياتريس بعمل كمادات له وهي منتبهة تماما لخفقات قلبها. وعد ميري ان يأخذها في الغد الي حديقة الزوراء وقال إنه لا يريد لفتوتشيني الدجاج ان يبرد لان ذلك يضر بالنكهة. رافقهما بابتسامة منكسرة بينما بياتريس وابنتها يتناولان الطعام علي منضدة واطئة. حكي بصوت مرتجف كيف أنه اختلف مع مديره في وكالة الانباء حين قال إن العراق ليس فيه الان اكثر من الف ارمني، فحكي ارشاك كيف أنه رد عليه بحزم قائلا إن الأرمن ثلاثة فقط. القي نظرة علي البنت وامها وقال بانهاك: سأنام ساعة يا بياتريس. مصت ثلاثة اصابع من يدها اليمني ثم سحبت ثوبها من تحتها كي تنهض. اعتدل أرشاك بتثاقل. وصلها مسج من السويد. لم تفتح الرسالة، وأغلقت موبايلها. سار ارشاك بتثاقل باتجاه غرفة نومها. وقفت بياتريس وانحنت هامسة لميري: لاتحدثي ضجة كي يستطيع بابا ان ينام. ثم لحقت به الي غرفة النوم. العراق