متابعة مكثفة للبرنامج العلاجي الصيفي لتنمية المهارات الأساسية للطلاب بأسيوط    القاهرة الإخبارية: ارتفاع حصيلة شهداء كنيسة العائلة المقدسة بغزة إلى 3    وسط إقبال كثيف من الخريجين.. 35 ألف فرصة عمل في الملتقى ال13 لتوظيف الشباب    بدائل الثانوية.. كيفية التقدم لمعاهد التمريض بالأزهر - نظام 5 سنوات    شيخ الأزهر يوافق على تحويل "فارس المتون" و"المترجم الناشئ" إلى مسابقات عالمية بهدف توسيع نطاق المشاركة    7 أقسام علمية متخصصة.. «الأكاديمية العربية» تطلق كلية العلاج الطبيعي بفرع العلمين الجديدة    الذهب في مصر يواصل الانخفاض بحلول التعاملات المسائية اليوم    وزير البترول يبحث مع شركة صينية مشروعاً لتصنيع الألواح الشمسية بقناة السويس    ارتفاع نسبة الحاصلين على جنسيات أجنبية ب62% مقابل انخفاض المهاجرين 1% خلال 5 سنوات (تقرير)    محافظ سوهاج يتفقد مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين والوضع العام بقرية "المدمر"    عمرو أديب يعلن غيابه عن شاشة MBC - السبب وموعد العودة    نتنياهو: أمرت الجيش باستهداف قوافل الموت التابعة للنظام السوري    أحمد عبد الوهاب يكتب: قراءة في أسباب تدهور «اقتصاد الضفة»    انهيار أرضي في كوريا الجنوبية ومصرع 4 أشخاص وإجلاء ألف آخرين    بلجيكا تمنع شحنة عسكرية لإسرائيل وتفرض قيودًا صارمة على تصدير المنتجات الدفاعية    أول تعليق من محمد الصباحي بعد اعتزاله التحكيم    "معلومة مؤكدة".. أول رد رسمي من الأهلي حول الاجتماع مع وكيل مصطفى محمد    تقرير: نجم الأهلي يرفع راية العصيان بالقلعة الحمراء    مانشستر يرفض الاستسلام في صفقة مبويمو    الخطيب يفتتح حمام سباحة «التربية والتعليم الأولمبي»    رغم العاصفة الترابية.. 2000 سائح زاروا معبد أبو سمبل بأسوان    إغلاق ميناء العريش البحري بسبب الظروف الجوية    «التعليم» تعلن الخريطة الزمنية للعام الدراسي الجديد 2025-2026    ضبط 3 أشخاص لاتهامهم بغسل أموال ب90 مليون جنيه من تجارة المخدرات    "فيها جن"... والد أطفال أسيوط يكشف سرًا غامضًا عن موقع غرق بناته الثلاث بالنيل -فيديو    ضبط 3 متهمين غسلوا 90 مليون جنيه من تجارة المخدرات    لأول مرة.. محمود الخطيب يشارك في مسلسل "كتالوج"    غالبًا ما تدمر سعادتها.. 3 أبراج تعاني من صراعات داخلية    أحمد السقا ينعى والدة هند صبري.. ويسرا تعتذر    الشيخ خالد الجندي: من قدّم عقله على القرآن الكريم او السنة هلك    نائب وزير الصحة تبحث مع رئيس جامعة المنيا خفض معدلات الولادة القيصرية ووفيات حديثي الولادة    دبلوماسي إثيوبي يفضح أكاذيب آبي أحمد، ومقطع زائف عن سد النهضة يكشف الحقائق (فيديو)    إعداد القادة: تطبيق استراتيجيات البروتوكول الدولي والمراسم والاتيكيت في السلك الجامعي    كشف ملابسات فيديو جلوس أطفال على السيارة خلال سيرها بالتجمع - شاهد    الأزهر يدين العدوان الإسرائيلي على سوريا.. ويحذر من ويلات الفرقة    واتكينز يرحّب باهتمام مانشستر يونايتد رغم تمسك أستون فيلا    بين التحديات الإنتاجية والقدرة على الإبداع.. المهرجان القومي للمسرح يناقش أساليب الإخراج وآليات الإنتاج غير الحكومي بمشاركة أساتذة مسرح ونقاد وفنانين    سحب قرعة دوري الكرة النسائية للموسم الجديد ..تعرف علي مباريات الأسبوع الأول    "IPCC" الدولي يطلب دعم مصر فى التقرير القادم لتقييم الأهداف في مواجهة التحديات البيئية    في 6 خطوات.. قدم تظلمك على فاتورة الكهرباء إلكترونيًا    وزارة الدفاع الروسية تعلن سيطرة قواتها على قرى في ثلاث مناطق أوكرانية    الأونروا: 6 آلاف شاحنة مساعدات تنتظر على حدود غزة.. والآلية الحالية لا تعمل مطلقا    للعام الثالث.. تربية حلوان تحصد المركز الأول في المشروع القومي لمحو الأمية    بمنحة دولية.. منتخب الكانوى والكياك يشارك فى بطولة العالم للناشئين بالبرتغال    ترامب: كوكاكولا وافقت على استخدام سكر القصب في منتجاتها    احتفالاً بالعيد القومي لمحافظة الإسكندرية.. فتح المواقع الأثرية كافة مجانا للجمهور    فيلم الشاطر لأمير كرارة يحصد 2.7 مليون جنيه في أول أيامه بدور السينما    كابتن محمود الخطيب يحقق أمنية الراحل نبيل الحلفاوى ويشارك في مسلسل كتالوج    ارتفاع حصيلة ضحايا حريق مول «هايبر ماركت» في العراق ل63 حالة وفاة و40 إصابة (فيديو)    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 17-7-2025 في محافظة قنا    إغلاق حركة الملاحة الجوية والنهرية بأسوان بسبب سوء أحوال الطقس    وفاة والدة النجمة هند صبري    نائب وزير الصحة يعقد الاجتماع الثالث للمجلس الأعلى لشباب مقدمى خدمات الرعاية الصحية    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: بروتوكول تعاون مع الصحة لتفعيل مبادرة "الألف يوم الذهبية" للحد من الولادات القيصرية    تنفيذاً لقرار مجلس الوزراء.. تحرير (139) مخالفة للمحلات التى لم تلتزم بقرار الغلق خلال 24 ساعة    ما الفرق بين المتوكل والمتواكل؟.. محمود الهواري يجيب    كيف نواجه الضغوطات الحياتية؟.. أمين الفتوى يجيب    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عن رقصة مولانا
جنة المأوي
نشر في أخبار الأدب يوم 12 - 10 - 2013


يبدأ بعد ذلك الطقس الأساسي وهو
مكون من أربع حركات موسيقية مختلفة
تسمي "سلام". في بداية ونهاية كل "سلام" يقوم المولويون بالاقرار بوجود الله
و وحدانيته وجلاله وقدرته.
و لا يجب أن ننسي أهمية رمز الدائرة (وهو أحد تجليات الدوران) لدي فلاسفة التصوف مثل محيي الدين بن عربي و كتابه "إنشاء الدوائر" علي سبيل المثال.
تعد الابداعات الفنية للتصوف من أبرز تجليات الفن بالقرآن. يستمد التصوف جذوره، سواء علي المستوي الفلسفي او المستوي الشعري، من سيرة النبي محمد صلي الله عليه و سلم و من القرآن الكريم. التصوف إذن هو رؤية للاسلام تقوم علي الحب و التسامح و التواضع و عبادة الله و تنمية الذات من خلال الانضباط الذاتي و المسئولية. لذلك فإن منهاج حياة المتصوف هو حب و خدمة الاخرين و التخلي عن الذات الزائفة و كل الاوهام الزائلة حتي يصل الي النضج و الكمال و يتمكن اخيرا من الوصول الي الله، الحق و الواقع "المتعين". هو باختصار دين الحب الذي نجده عند كافة المتصوفة من ابراهيم بن ادهم الي رابعة العدوية وعمر بن الفارض، و علي وجه الخصوص الامام الاكبر محيي الدين بن عربي و مولانا جلال الدين الرومي.
ومن أهم طرق الحب للوصول إلي مرحلة الكمال طريقة مولانا جلال الدين الرومي الذي ما أحوجنا اليوم للكثير من تعاليمه و أهمها: إذا كانت علاقتنا بالله هي علاقة حب فيجب علينا أن نحب كافة مخلوقاته علي أختلاف أنواعها و أجناسها ودياناتها. و من سمات هذا الحب خدمة هذه المخلوقات كما فعل مولانا الذي كان يقوم بنفسه علي خدمة المسافرين وعابري السبيل حتي أنه كان يقوم بنفسه بغسل أقدامهم. لذلك لم يكن من المستغرب انه عندما توفي صار في جنازته المسلمون و المسيحيون و اليهود و العرب و الروم ألخ...
لكن ما يهمنا في هذا البحث هو الإبداع الفني المرتبط بالقرآن. و من أهم الإبداعات الفنية لطريقة مولانا جلال الدين الرومي هو ما يسمي بطقس رقصة المتصوفة الدوارة و هو أهم ما يميز الطريقة المولوية و التي امتدت علي مدي سبعة قرون. يعتمد هذا الطقس علي تعاليم مولانا جلال الدين الرومي بالإضافة لتأثره بالعادات و الثقافة التركية.
يرتكز المعني العميق لهذا الطقس علي حقيقة علمية مؤكدة و هي أن الوجود بأكمله يقوم علي الدوران، سواء في الكون الكبير (العالم) أو الكون الصغير (الإنسان). ففي الكون الكبير نري دوران الأرض حول الشمس و دوران النجوم في المجرات و الالكترونات في الذرة بالإضافة إلي دوران فصول السنة إلخ... أما في الكون الصغير فنجد الدورة الدموية في الجسم و دورة مراحل الحياة من ضعف الطفولة إلي وهن الشيخوخة ("الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم من بعد قوة ضعفا و شيبة"( سورة الروم، آية 54)، بالإضافة إلي الخلق من تراب و العودة إلي التراب عند الممات. إذن فالطبيعة و الإنسان يتشاركان في الدوران بصورة طبيعية و تلقائية ("و إن من شئ إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم" سورة الإسراء، آية 44) و إذا كانت الكائنات الأخري تقوم بالدوران دون أن تعي ذلك، فإن الإنسان يتميز بالعقل و الإدراك. لذلك يقوم المتصوف بالدوران عن وعي و بكامل إرادته ليتناغم مع كل شئ في الطبيعة، من أصغر الخلايا إلي النجوم في السماء ليؤكد عظمة الخالق و يحمده و يسبحه، مجسدا بذلك الأية الأولي من سورة التغابن: "يسبح لله ما في السموات و ما في الأرض، له الملك و له الحمد و هو علي كل شئ قدير". إذا كان تسبيح المخلوقات للخالق قد ورد في عدة سور في القرأن مثل سورة الإسراء (آية 44) و سورة النور (آية 41) و سورة الحديد (آية 1) و سورة الحشر (آية 1 و 24) و سورة الصف (آية 1) و سورة الجمعة (آية 1)، إلا انه يقتصر فقط علي ذكر فعل التسبيح. أما الآية الأولي من سورة التغابن فهي تكشف عن ماهية و وظيفة التسبيح: لله الملك و بالتالي القدرة، و علي المخلوقات الحمد.
و لا يجب أن ننسي أهمية رمز الدائرة (وهو أحد تجليات الدوران) لدي فلاسفة التصوف مثل محيي الدين بن عربي و كتابه "إنشاء الدوائر" علي سبيل المثال.
و من أهم ما يميز هذا التعبير الفني للطريقة المولوية، و الذي لا نجده في غيرها من الطرق، هي وحدة العناصر الثلاثة المكونة للطبيعة الإنسانية و هي العقل، أي المعرفة و الفكر، و القلب، أي التعبير عن الأحاسيس بالإضافة إلي الشعر و الموسيقي، و الجسد، أي تنشيط الحياة و الدوران.
و من المعروف علميا أن تكرار الدوران و سرعته يؤدي إلي التصاعد للأعلي كما نري في ظاهرة الإعصار علي سبيل المثال حيث تدور الرياح فتتصاعد بشكل دائري. لذلك فإن دوران متصوف طقس الطريقة المولوية يوصله إلي السمو و الإرتقاء.
يمكنا القول أن هذا الطقس يمثل رحلة الإنسان الروحية للصعود من خلال الفكر و الحب إلي الكمال، أي ما يعرف بالمعراج الصوفي المستلهم من معراج النبي صلي الله عليه و سلم. فبالدوران حول الحقيقة ينمو الإنسان من خلال الحب و يتخطي ذاته فيلتقي بالحقيقة و يصل إلي الكمال. ثم يعود من معراجه الصوفي بعد أن نضج و اكتمل، ليحب ويخدم الخلق بأكمله و كافة مخلوقات الله علي اختلاف معتقداتها و جنسها و نوعها. الحب إذن هو المفهوم الأساسي و الطريق الأوحد. فقد خلق الإنسان بحب و لكي يحب. و كما قال مولانا جلال الدين الرومي :"كل أنواع الحب ما هي إلا جسور للوصول إلي الحب الإلهي. لكن الذين لم يتذوقوه بعد لا يعرفون".
ننتقل الآن إلي رداء متصوفة الطريقة المولوية الذين يؤدون هذا الطقس و ما يرمز إليه. يظهر المولوي و هو يرتدي قميصا أبيض فوقه عباءة سوداء و غطاء رأس مصنوع من وبر الجمل. يرمز القميص الأبيض إلي قبر الذات و غطاء الرأس إلي شاهد هذا القبر. و عندما يقوم بخلع العباءة السوداء يولد من جديد علي مستوي الروح لتلقي الحقيقة.
قبل أن نبدأ في استعراض مراحل هذا الطقس يجب توضيح و التأكيد علي أن متصوفي الطريقة المولوية الذين يؤدون رقصتهم لا يقدمون عرضا للجمهور بل يعيشون فعلا تجربة المعراج الصوفي. لذا وجب علي الذين يشاهدونهم إلتزام الصمت التام احتراما للتجربة الروحية المعاشة، و عدم التصفيق أو حتي إبداء الإعجاب إلا عندما يغادر المولويون الساحة.
في البداية يظهر المولويون و قد عقد كل منهم ذراعيه مجسدا رقم 1، مشيرا بذلك إلي وحدانية الله. يجب الإشارة هنا إلي أهمية رقم 1 و مرادفه حرف الألف كرمز من رموز التصوف لأنهما خط مستقيم يشير إلي وحدانية الله. عندما يبدأ المولوي في الدوران يتجه ذراعه الأيمن نحو السماء لتلقي النفحات الإلهية. أما ذراعه اليسري، و الذي يركز نظره عليه، فيتجه نحو الأرض ليشرك الذين يشاهدونه في المنح الإلهية التي تلقاها. اتجاه الدوران من اليمين إلي اليسار حول القلب يعني أن المولوي يحتضن الإنسانية كلها بحب.
يتكون طقس المولوية من عدة مراحل تحمل كل واحدة منها معني مختلفا عن الأخري. المرحلة الأولي تسمي "نعت الشريف" وهي مديح رسول الإسلام وكافة الرسل الذين سبقوه والذين يمثلون الحب. هذا المديح هو حمد لله الذي خلقهم و ارسلهم، كرحمة منه، إلي الإنسانية. مما يجسد مفهوم "الرحمة المهداة" النابع من الأية الكريمة: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"(سورة الأنبياء، أية 107). يقوم مفهوم "الرحمة المهداة" عند المتصوفة علي علاقة الحب بين الله وعباده: لأن الله يحب عباده فقد أرسل لهم، رحمة منه، هدية حب: النبي محمد عليه الصلاة والسلام و كافة الأنبياء الذين سبقوه. يلي هذا المديح قرع طبول يسمي "قدوم" وهو يرمز للأمر الإلهي "كن" الذي خلق به الله الكون بأكمله. وهو أيضا تجسيد للآية الكريمة: "إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون"(سورة مريم آية 35، سورة يس آية 82، سورة غافر آية 68).
يلي "نعت الشريف" مرحلة تسمي "تقسيم" وهي عزف منفرد علي الناي يشير إلي مفهوم "النفس الإلهي الخلاق" أي النفخ في الروح، تجسيدا للأية الكريمة: " فنفخنا فيه من روحنا" (سورة الحجر آية 29، سورة الأنبياء أية 91، سورة ص آية72، سورة التحريم آية12) والمرتبطة بخلق أدم و خلق عيسي: "إن مثل عيسي عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون (سورة آل عمران، آية 59). و إذا كان الأمر الإلهي "كن" يخلق المادة، فإن النفس الإلهي الخلاق يهب الحياة المادة ولكل شئ نطلق عليه كلمة "حي".
ثم يلي ذلك مرحلة "سلطان وليد" أو "دور وليد" وهي حركة دائرية عكس عقارب الساعة يؤديها المولويون مجسدين بذلك المراحل الثلاث للمعرفة: "علم اليقين" أي المعرفة المكتسبة عن طريق الغير وعبر الدراسة، و"عين اليقين" أي المعرفة المكتسبة عن طريق الرؤية والملاحظة، و"حق اليقين" أي المعرفة المكتسبة عبر التجربة الشخصية المباشرة أوما يسمي بالعرفان.
يبدأ بعد ذلك الطقس الأساسي وهو مكون من أربع حركات موسيقية مختلفة تسمي "سلام". في بداية ونهاية كل "سلام" يقوم المولويون بالاقرار بوجود الله و وحدانيته وجلاله وقدرته.
وإذا تعمقنا في معني هذه الحركات الأربع نجد أنها مبنية علي الآيات الثماني عشرة الأولي من سورة النجم، و خاصة من الآية 6 حتي الآية 18 علي وجه الخصوص. تتسم هذه الأيات بالغموض و بقدر كبير من الروحانية. و مع التعمق في القراءة نجد أنها تتحدث عن معراج النبي صلي الله عليه و سلم. وبما أن المعراج الصوفي مستلهم من معراج النبي الكريم نجد أن هذه الحركات
الأربع تمثل خطوات هذا المعراج الصوفي وتجسد تلك الآيات الأولي من سورة النجم. يمثل "السلام" الأول مولد الإنسان للحقيقة من خلال الإحساس و العقل، كما يمثل تسليم الإنسان بأنه مخلوق من مخلوقات الله وعبد من عباده. ثم تبدأ رحلة الصعود والإرتقاء نحو المرحلة الأولي للتجربة الروحية وهي مرحلة الرؤية عن طريق القلب: "ما كذب الفؤاد ما رأي" (سورة النجم، آية11). و من خلال الرحانية الخالصة و تكرار الدوران، يصل إلي مرحلة الرؤية العينية أو المعاينة وفقا للتعبير الصوفي، كما نري في "السلام" الثاني حيث يري روعة الخلق و عظمة وقدرة الخالق: "ما زاغ البصر وما طغي، لقد رأي من آيات ربه الكبري" (سورة النجم، آية 17 و 18)
بفضل الانصهار في الحب و التضحية بكل ما سواه، نصل في "السلام" الثالث إلي التسليم والتوحد و إنعدام الذات في المحبوب حيث يحتضنه الحب الإلهي. أي ما يعرف في التصوف بالفناء في الله: "عند سدرة المنتهي، عندها جنة المأوي" (سورة النجم، آية 14 و 15). يجب الإشارة هنا إلي أن "المأوي" و مرادفاته كالملاذ والحمي هي من أهم مفردات التصوف، حيث الذوبان في أحضان الحبيب و الفناء فيه.
من جهة أخري، "جنة المأوي" التي نجدها في سورة النجم تختلف تماما عن جنات عدن ووصف الجنة التي اعدت للمؤمنين في مختلف سور وآيات القرآن الكريم. فتعبير "جنة المأوي" لم يذكر إلا مرة واحدة فقط، أي في سورة النجم. ونجد تعبيرا قريبا منه، مرة واحدة ايضا، في سورة السجدة وهو "جنات المأوي"(آية 19). هي إذن شئ مميز ومختلف تماما عن الجنة التي يتكرر وصفها في القرآن الكريم. هي منزلة خاصة، هي الملجأ والملاذ للذين يتوقون لأحضان الحبيب و الفناء فيه. يشير القرآن الكريم علي مدي آياته وسوره إلي الذين آمنوا والذين كفروا، إلي أصحاب اليمين و أصحاب الشمال، الذين سيدخلون الجنة والذين مصيرهم إلي النار. أي مجموعتين، إلا في سورة الواقعة حيث نجد، بالإضافة إلي أصحاب الميمنة و أصحاب المشأمة، مجموعة ثالثة: "و كنتم أزواجا ثلاثة، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، وأصحاب المشئمة ما أصحاب المشأمة، والسابقون السابقون، أولئك المقربون"(سورة الواقعة، آية 7 و 8 و 9 و 10 و 11). من هم هؤلاء "المقربون"؟ تصفهم الآية بأنهم: "ثلة من الأولين، و قليل من الآخرين"(سورة الواقعة، آية 13 و 14) وهو وصف عام و غير محدد. لكن من أقرب من الذي يتوق للذوبان في أحضان الحبيب و الفناء فيه؟ من جهة أخري، إذا كانت سورة الرحمن تتحدث عن جنتين: "و لمن خاف مقام ربه جنتان"(آية 46) و "و من دونهما جنتان"(آية 62) إلا أننا لا نجد إلا وصفا عاما لا يميز بين الجنتين. كما أن سورة الرحمن بأكملها مبنية علي صيغة المثني. أما في سورة الواقعة فنجد تأكيدا علي وجود جنتين ووصف لكل منهما: جنة المقربين و جنة أصحاب اليمين. إذا قارنا بينهما نجد أن جنة أصحاب اليمين تتسم بالمتع الحسية كالمأكل و المشرب و الحور العين. أما جنة المقربين فنجد من جهة أن المتع أكثر تعددا وثراءا من جنة أصحاب اليمين فهم: "لا يصدعون عنها ولا ينزفون"(آية 19). و لكن الأهم أننا، من جهة أخري، نجدها أكثر روحانية وذلك من خلال آيات لا نجدها في وصف الجنة الأولي، علي سبيل المثال: "لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، إلا قيلا سلاما سلاما"(آية 26). أما جزاء يوم الحساب فنجده في نهاية سورة الواقعة حيث يتميز المقربون عن أصحاب اليمين: "فأما إن كان من المقربين، فروح و ريحان و جنة نعيم"(آية 88 و 89). يمكن أن نعتبر أن هذا الوصف ينطبق علي جنة المأوي التي ذكرت في سورة النجم حيث أن الفناء في الله هو "سلام وروح وريحان".
نعود مرة أخري لطقس المولوية و إلي "السلام" الرابع حيث إنكار الذات و نبذ الأنانية و التضحية من أجل باقي البشر علي الأرض. تماما كما فعل النبي صلي الله عليه و سلم عندما وصل من خلال معراجه الروحي إلي "العرش" لكنه عاد مرة أخري إلي الأرض ليتم مهمته كعبد الله و رسوله إلي الإنسانية. كذلك يفعل المولوي بعد أن وصل إلي مبتغاه في الفناء في الحبيب من خلال معراجه الصوفي، عليه أن يعود مرة أخري لمهمته علي الأرض: عبوديته لله و خدمة كتبه و رسله و كافة خلقه.
يلي ذلك تلاوة سورة مريم حيث معجزة ميلاد المسيح و رسالته من خلال مفهومين نجدهما في طقس المولوية و هما الأمر الإلهي "كن": "إذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون" (سورة مريم، آية 35) و النفخ في الروح الذي لا نجده بصورة مباشرة كما في سورة الأنبياء: "و التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا"(آية 91) لكننا نجده بالمعني المجازي في سورة مريم: "فأرسلنا إليها روحنا"(آية 17). نتوقف هنا عند اختيار سورة مريم. تحتل هذه السورة مكانة خاصة في التقاليد و الثقافة التركية. فهي تقع في منتصف المصحف تقريبا (تبدأ في صفحة 305 من إجمالي 604 صفحة في المصحف) و غالبا ما تحظي صفحاتها بزخرفة خاصة تختلف عن باقي السور في المصاحف التركية. لكن الأهم هو أن سورة مريم تحتوي علي مجمل المفاهيم التي يجسدها طقس الطريقة المولوية. يمكنا القول أن المفهوم الجوهري في سورة مريم هو مفهوم الرحمة، بمشتقاته و مرادفاته. إذ ورد اسم الله "الرحمن" 16 مرة في السورة و لفظ "رحمة" خمس مرات و كلمة "حنانا" مرة واحدة. كما أن السورة تبدأ بهذا المفهوم: "ذكر رحمة ربك"(آية 2). يرتبط مفهوم الرحمة في السورة ببعث الأنبياء و هو تجسيد لمفهوم "الرحمة المهداة" الذي يبدأ به طقس المولوية. فنجد علي سبيل أن السورة تصف معجزة مولد المسيح بأنها: "رحمة منا"(آية 21) و مولد يحيي: "حنانا من لدنا"(آية 13)، و اسحاق و يعقوب: "و وهبنا لهم من رحمتنا"(آية 50) و موسي: "و وهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا"(آية 53). يقترن مفهوم "الرحمة المهداة" بالعبودية لله و ذلك منذ بداية السورة: "ذكر رحمة ربك عبده زكريا"(آية 2) فالرسل و الأنبياءهم أولا عباد الله ثم رسله، كما في حال عيسي علي سبيل المثال: "قال إني عبد الله أتاني الكتاب و جعلني نبيا"(آية 30). يمتد مفهوم العبودية لله ليشمل خلق العالم و الإنسان: "إن كل من في السموات و الأرض إلا أتي الرحمن عبدا"(آية 93). إقرار المخلوقات بقدرة الخالق و عبوديتها له يتجلي من خلال الحمد و التسبيح، أي المفهوم الذي نجده في طقس المولوية و الذي يتجسد من خلال الآية الأولي من سورة التغابن السابق ذكرها: "يسبح لله ما في السموات و ما في الأرض له الملك و له الحمد و هو علي كل شئ قدير". في نهاية الطقس يقوم المولويون مرة أخري يعقد ذراعيهم بخشوع مجسدين بذلك وحدانية الله. ثم ينسحبون بهدوء إلي خلوتهم للتأمل و ذكر الله، بعد أن قاموا يتجسيد إحدي أجمل ابداعات الفن بالقرآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.