رؤية العالم عبر عدسته الخاصة 1 ماذا أريد ؟ أولاً ، ألا أكون مهزوماً . بعدها ، إذا كان ممكناً ، أن أنتصر . والانتصار ، أياً كانت الطرق التي تسوقني فيها اللوحتان ، هو محاولة اكتشاف حقيقة إس دون أن أثير ريبته ، فحضوره وصوره شهود علي عجزي عن الرضا المحقق بإرضائي . لا أعرف ما هي الخطوات التي سأمشيها، لا أعرف ما هو نوع الحقيقة الذي أبحث عنه : أعرف فقط أن عدم معرفتها أمر لا يُحتمل بالنسبة لي . اقتربتُ علي عامي الخمسين ، وصلت إلي العمر الذي تكف فيه التجاعيد عن تأكيد التعبير حتي يكون التعبير لعمرٍ آخر هو الشيخوخة التي تقترب ، وفجأة ، مرة أخري أقولها ، أصبحتُ لا أحتمل الخسارة ، عدم المعرفة، الاستمرار في أداء إيماءات في الظلام، أن أكون روبوت يحلم كل ليلة بتفريغ الشريط المثقب لبرنامجه : دودة شريطية طويلة هي الحياة الوحيدة الموجودة بين دوائر وترانزستورات . إن سألوني هل كنتُ سأتخذ نفس القرار إن لم يظهر إس ، لا أعرف بماذا أجيب . أعتقد أنه نعم ، أنني سأتخذ نفس القرار، لكن لا أستطيع أن أقسم علي ذلك . ومع ذلك ، بدأتُ الآن في الكتابة، وأشعر أنني لم أفعل شيئاً آخر مطلقاً أو كأنني ، في نهاية الأمر ، وُلدت من أجل هذا . أجد نفسي وأنا أكتب كما لو أجدها أبداً وأنا أرسم ، وأكتشف سحر هذا العمل: في الرسم هناك دائماً لحظة لا تحتمل فيها اللوحة ضربة فرشاة أخري (سيئة أو جيدة ، وإلا ستتلطخ ) ، بينما يمكن لهذه السطور أن تطول بشكل لا نهائي، صافاً مقاطع من الفكرة قبل أن تبدأ ، وسيكون هذا الاصطفاف شغلاً متقناً، عملاً نهائياً، لأنه معروف . إنها فكرة التطويل اللانهائي ، علي وجه الخصوص ، هي ما تسحرني. سأستطيع الكتابة دوماً ، حتي آخر حياتي ، بينما اللوحات ، المنغلقة علي نفسها ، تصد ، عازلةً نفسها في جلدها، متسلطة، وهي أيضا جريئة. 2 أسأل نفسي لماذا كتبتُ أن إس جميل. ما من واحدة من اللوحتين تُظهره هكذا، فالأولي قد تظهره قوياً، أو تعطي عنه علي الأقل صورة حقيقية، يمكن من خلالها معرفته، مع كل عناصر التملق لصورةٍ سوف يُدفع فيها جيداً. إس ليس جميلاً في الواقع . لكنه يمتلك الهالة التي تمنيتُ دائماً امتلاكها، وجه ذو ملامح مميزة في حجم دقيق ونسبة تلائم ذلك الأسلوب الراسخ حيث الرجال المائعين جسدياً مثلي يشعرون حتماً بالحسد . يتحرك براحة، يجلس علي الكرسي دون النظر إليه، ويجلس بشكل جيد، دون تلك الجلسة الثانية والثالثة التي تعلن عن الانزعاج أو الخجل. يُقال إنه وُلد بكل المعارك رابحة أو يتمتع ، ليحارب من مكانه ، بمحاربين غير مرئيين يموتون بحذر، دون ضوضاء، دون بلاغة، ممهدين له الطريق كأنهم ريش مكنسة. لا أعتقد أن إس ثري، مليونير بالمعني الذي تقتضيه هذه الكلمة اليوم، لكنه يمتلك مالاً كافياً. ذلك الشيء يُلاحظ في طريقة إشعاله للسيجارة، في طريقة النظر: فالثري لا يري أبداً، لا يركز في شيء أبداً، ينظر فقط، ويشعل السجائر بهيئة من ينتظر أن تأتيه مشتعلة: الثري يشعل السيجارة مهاناً ، أقصد أن الثري يشعل السيجارة مهاناً لأنه ليس هناك أحد يشعلها له. أعتقد أن إس سيري طبيعياً أن أسرع لأشعلها أنا له أو أن أقوم علي الأقل بهذه الإيماءة، لكنني لا أدخن وكانت لي دائماً عينان حادتان جداً لكي تهدم وتذيب رغبة إس الطموحة ، وهي الإمساك بالولاعة وإطلاق اللهب وسحبه، أول وآخر حركة للحلية الحلزونية التي من الممكن أن تكون ، حسب الحالات، رسماً للتملق، للخضوع، للتواطوء، لدعوة ماكرة أو فظة للسرير. ربما يروق لإس أن أعرف مقدار ما يمتلكه من مال ، وسلطة أخمنها. رغم كل شيء، يمارس الفنانون بشكل تقليدي بعض الامتيازات التي حتي عندما لا يستخدمونها أو يستخدمونها بالعكس يحافظون علي استمرار الهالة الرومانسية لعجرفة تتأكد للعميل في حالته الثانوية (المؤقتة) وفي رفعته . في هذه العلاقة ، هناك شيء مسرحي، كل واحد يؤدي دوره. في أعماقه ، قد يحتقرني إس إذا أشعلت له السيجارة، المؤكد أنه كان سيحتقرني إن فعلتها. ليست هناك مفاجأة لأي طرف، فكل شيء سار بالطريقة المناسبة. إس متوسط القامة، صارم ، له هيئة كاملة (وفقاً لما أظنني أراه) بالنسبة للأربعين عاماً التي تبدو عليه. له شعر أبيض جداً يساعد في بروز وجهه، ويصلح ليكون موديل إعلانات ممتاز عن منتجات منقاة وريفية في آنٍ واحد، مثل البايب، البنادق، وبذل التويد (كلمة إنجليزية تشير لنسيج من الصوف، سميك كفاية ولين جداً، يُصنَع في اسكتلندا)، سيارات صغيرة فاخرة، أجازات في أماكن جليدية أو في كمارج (بجنوب فرنسا). يمتلك ، باختصار ، تقاطيع وجه يتمناها الرجال، لأن السينما الأمريكية تروج لها ولأن هناك نوعاً معيناً من النساء ذوات الشعر الطويل تلتف حولها، لكن ربما تستحق البقاء (تقاطيع الوجه، وليس النساء) لوقتٍ أكثر مما يستغرقه الفلاش الفوتوغرافي: لأن الحياة تتكوّن أكثر من التفاهة، من الشحوب، من لحية سيئة الحلق أو سيئة النمو، من نفس غير نضرة ، من رائحة جسد ليس دائماً مغتسلاً. ربما شكل وجه إس، عينه، فمه، ذقنه، أنفه، شعره وجذوره، حاجباه، درجة لون جلده، تجاعيده، تعبيراته، ربما كل هذا استلزم أن أتفاعل معه باسكتش وحيد وغامض استطعت أن أنقله إلي القماش ، لكنه في اللوحة الثانية لم يكتسب وضوحاً. القضية لا تكمن في عدم التشابه ، ولا في أن الأولي ليست الصورة الدقيقة المرجوة والمقبولة، وليست حتي أن الثانية لا تستطيع عبور تحليل نفسي من خلال الرسم، ففي كلتا الحالتين أنا وحدي أعرف أن كلتا القماشتين لا زالتا بيضاوتين، عذراواتين إذا راق الأسلوب، ممزقتين ، عند قول الحقيقة. ومع ذلك عاودتُ سؤالي عن سبب أن يستحوذ عليّ إس ، هذا الرجل الكريه الذي وصفته، فتراودني فكرة متسلطة لفهمه، لاكتشافه، بينما أُناس آخرون أكثر جاذبية ، بين نساء ورجال رسمتهم ، مروا أمام عيني ويدي علي طول هذه السنين من الرسم المتوسط : لا أجد تفسيرات أكثر من تغير السن الذي وصلتُ إليه، من الذل الذي اكتشفته فجأة لبقائي في هذا الجانب من الحاجة، ومن الذل الآخر الأشد اضطراماً بأنهم ينظرون لي من أعلي ، ومن عدم قدرتي علي الرد علي السخرية بالاحتقار أو السخرية اللاذعة. حاولتُ تدمير هذا الرجل عندما كنت أرسمه، واكتشفت أنني لم أعرف التدمير. الكتابة ليست محاولة تدمير أخري وإنما بالتحديد محاولة لإعادة بناء كل شيء في الداخل، بقياس ووزن كل التروس، والعجلات المسننة، بتضاد المحاور بشكل ملليمتري ، واختبار التذبذب الصامت للزنابك والاهتزاز الايقاعي للجزيئات في داخل الفولاذ . وبعيداًً عن هذا ، أنا لا أستطيع الكف عن كره إس بسبب تلك النظرة الباردة التي جالت في مرسمي في المرة الأولي التي دخل فيها هنا، بسبب تلك الهمهمة الدالة علي الاحتقار، بسبب الطريقة المزدرية لمد يده لي. أعرف جيداً جداً من أنا، فنان في تصنيف منحدر يعرف مهنته لكنه يفتقر للعبقرية، بل وحتي للموهبة، ليس لديه سوي مهارة متعلَّمة ويطوف دوماً في نفس الطرق، أو يقف بجانب نفس الأبواب مثل بغلة تشد عربة في شبكة توزيع معتادة، لكن ، قبل ذلك، عندما كنت أقترب من النافذة، كان يحلو لي رؤية السماء والنهر ، مثلما يحلو ذلك لجوتو، أو رمبرانت، أو سيزان. لم يكن للاختلافات مدلول كبير بالنسبة لي: عندما كانت تمر سحابة ببطء، لم أجد أي اختلاف، وعندما كنت أمد بعد ذلك الفرشاة نحو اللوحة غير المنتهية، كان من الممكن أن يحدث كل شيء، بما في ذلك اكتشاف وحي جديد يخصني. كانت الطمأنينة مضمونة لي، أما ما يأتي بعد ذلك فيمكن أن يكون إضافة للطمأنينة أو، من يدري، قلقلة لعمل كبير . لكنها ليست هذا النوع من الحقد الوديع لكنه محدد، ليست هذا التنقيب في داخل التمثال، ليست هذه السِنّة الحادة والعنيدة مثل أسنان الكلب الذي يعض حزامه بينما ينظر حوله متلهفاً مخافة أن يعود من قيّده. لا فائدة من التحدث عن تفاصيل أكثر في وجه إس. فهناك تقبع الصورتان اللتان تقولان ما يكفي عن الحكي. وبعبارة أكثر دقة: اللتان تقولان ما لا يكفيني، لكنهما تُرضيان من يهتم فقط بملامح الوجه. الآن سوف أقوم بعمل آخر: اكتشاف كل شيء في حياة إس وروايته كتابةً، التمييز بين الحقيقة الداخلية والقشرة اللامعة، بين الجوهر والخندق، بين الظفر المقصوص والجزء المتساقط من نفس الظفر، بين حدقة لأزرق باهت وافراز جاف تفضحه المرآة الصباحية في طرف العين. فصل، تقسيم، تشابه، إدراك. فهم. بالضبط ما لم أبلغه أبداً عندما كنتُ أرسم. فصول من رواية تصدر بالعنوان ذاته في سلسلة الجوائز