في الطريق إلي عزل محمد مرسي والانهاء المبكر والمحمود لفيلم هابط عنوانه الإسلاميون في السلطة، طرحت الأطراف المعادية للإسلام السياسي مفهوم الهوية المصرية كقيمة يجب الحفاظ عليها في مواجهة الاحتلال الإخواني؛ وبعيداً عن أي اعتراف ممكن بأن ما يسمح أصلاً بمثل ذلك الاحتلال هو عسكرة الوعي السياسي وأسلمة الوعي الاجتماعي علي صعيدين متوازيين ومتداخلين اعتمد كل منهما علي الآخر طوال ستين عاماً منذ الاستقلال، قدمت هذه الأطراف وطنية الجيش ووسطية الأزهر باعتبارهما ضمانتي الهوية. لم يكن مطروحاً في هذا السياق الالتفات إلي أن التطرف الإقصائي خارج في الحالتين من شوفينية معادية للغرب الاستعماري علي أساس المظلومية سواء اتخذت هذه الشوفينية تصريفاً قومياً عربياً أو أممياً إسلامياً أو قطرياً وطنياً؛ وباختلاف نسب عسكرتها وأسلمتها من تصريف إلي آخر، فكلها توجهات طائفية من حيث افتراضها لغلبة المذهب السني وإصرارها علي فرضه، وكلها حريصة علي تحجيم العلم والإبداع ودسترة الكبت الجنسي والتعنت الأخلاقي في مواجهة المفاهيم المعاصرة للحرية والتعددية إذ تنفي الهوية الاختيارية للمواطن الفرد والحقوق المدنية المترتبة عليها لصالح هوية جامعة وقسرية. ليس من قبيل العبث إذن أن تجد أطرافاً وطنية تؤكد هويتها الإسلامية وهي تتهم الإسلام السياسي بالخيانة، ولا أطرافاً إسلامية تؤكد هويتها الديمقراطية وهي تمارس التحريض الطائفي علي غير السنيين، ولا حتي أطرافاً حقوقية معولمة تدافع عن الإرهاب الثيوقراطي بوصفه ممارسة للحقوق السياسية فيما تقف بكماء ليس فقط أمام الانتهاك الممنهج لأبسط الحريات الاجتماعية وإنما أيضاً أمام تقويض الإرهاب الثيوقراطي ذاته للكيانات المؤسساتية السابقة علي أي حريات. غير أنه، وبإلغاء الطرف الحقوقي باعتباره عميلاً للإخوان وإعادة الطرف الإسلامي لدوره الاجتماعي دون السياسي كممارس للدعوة، صار من الصعب السؤال عن فاشية الجيش أو أصولية الأزهر كأعماق حقيقية لأسطح تبدو مطمئنة إذا ما قورنت بشطط وبلاهة الإسلاميين، أو تبالههم؛ الأمر الذي يعيدنا إلي ما قبل 52 يناير وقد تجلي علي نحو غير مسبوق دور التدين الهوياتي والمنظومة العالمية المتعاملة معه (والحاضرة في التأثير الشديد لدول الخليج علي الثقافة الدينية) في تكريس هذه الثنائيات، كما تجلي دور المجتمع المدني بما فيه الجهات الثورية في قصر الجدل علي خطابات خرقاء وممجوجة إما عن سماحة وعبقرية الإسلام في مقابل تزمت وغباء الإسلاميين أو عن الحوار والتوافق باحتواء هؤلاء كحل طويل المدي لما يقدم كذباً باعتباره أزمة مؤقتة بعد أن ثبت بعيداً عن أي تنظيرات مجردة أن الإسلام السياسي ما لم تتدخل سلطة عسكرية لكبحه غير قابل للاحتواء لا في الدولة القطرية ولا في العملية الديمقراطية. وبالمثل (وإن بدرجة أقل نتيجة لفشل الإسلاميين أنفسهم)، فإنه ما لم يتمكن الإسلام السياسي "ديمقراطياً" ومن ثم يُسمح له بتقويض مؤسساتية الدولة، يبقي سواد النوازع الإقصائية للجوهر العسكري للدولة نفسها بما فيه الأزهر ودعوته حائلاً دون تجاوز الأسلمة كبديل أوحد. لقد تناسي الطرف "المحايد" جراء رفضه للسطوة العسكرية أن الحكم الإسلامي ما كان ليقلل من تلك السطوة وإن التزم مرحلياً بالجوانب الإجرائية من الديمقراطية (وهو لم يلتزم به علي أي حال) وهكذا خطورة الحديث عن حقوق سياسية في غياب الحقوق الاجتماعية وأولها حرية العقيدة كما تناسي طرف آخر محايد أن وسطية الأزهر ووطنية الجيش كمكونات الهوية المصرية المفترضة هي نفسها ما جعل هذه الهوية عرضة لاحتلال إسلامي كاد يأتي علي الدولة بالرغم من كل الأغاني الوطنية. فإلي أن يدرك عدد كاف من المصريين أن الهوية مثلها مثل العقيدة الدينية مسألة فردية دائمة التغير فما إن تتحجر أو تفرض حتي تتحول إلي أزمة مستعصية وتصيب المجتمع بالشلل، ستظل مصر ما بعد الثورة ملتهية في مهاترات كلامية لا علاقة لها لا بالنهوض الاقتصادي ولا بالحقوق والحريات.