التحول الديمقراطي في العالم العربي بالنسبة للغرب لا يعني سوي الديكتاتورية الطائفية بيان "نخبوي" آخر منتشر علي "فيسبوك" قال لك إن في المجتمع المصري الآن انقساماً بين فصيلين لا حَكَم بينهما إلا »الثورة«. ومن غير ما يتعرض لحقيقة أن ثورته هذه لم تحترم المواطنة لحظة واحدة منذ قيامها وأنها اعتمدت في قلة احترامها علي تفوق أخلاقي مفترض ودفق عاطفي جياش لا فائدة سياسية ولا مصداقية لهما بعد كل ما جري، اعتبر البيان مؤيدي الرئيس أحد فصيلي الانقسام فلم يفرّق بين ناس مسالمة تريد أن تسترد هامش استقرار وحرية أو عقلانية كان موجوداً بالفعل رغم ديناصورية النظام الساقط ومشروع التوريث وبين مهاويس معتوهين بأي مقياس، مستعدين لحمل السلاح دفاعاً عن الشريعة الإسلامية كما الشرعية الديمقراطية ولا يُخفون رغبتهم في شطب هذا الهامش كلياً بين يوم وليلة. عندك إذن دليل إضافي علي أن الطريق إلي أفغانستان فعلاً مفروش بالنوايا »الثورية«. وفي هذا السياق يصمم البيان شأنه شأن غالبية المعسكر الثوري علي تزييف ما جاء به 03 يونيو 3102 من ارتداد صريح عن حراك غير مسئول غلّب الإخوان المسلمين وملحقاتهم فيراه استمراراً ل 52 يناير 1102، وبنفس الوقاحة التي كادت تأتي علي الدولة وما فيها قال لك "الآن وليس غداً"... يعني: المنظرون أنفسهم الذين اتهموك مرة ب "الإسلاموفوبيا" ومرة بأنك "فلول" ومرة ثالثة بشيء آخر نسيته لأنك تقول إن نظام مبارك يظل دائماً أفضل بما لا يقاس من عته الأصولية والإرهاب المترتب عليه والمتمثل في الفصيل الوطني المفترض لا يؤرق ضمائرهم في كل ما جري إلا الشيء الوحيد الحقيقي في 03 يونيو وحملة "تمرد" وما ترتب عليهما من تدخل المؤسسة العسكرية، وهو الرفض الشعبي الكاسح ليس للإسلام السياسي وحده وإنما ل "شمامي الكلة" الذين جاءوا به عبر مسلسل ساقط من المغالطات والتناقضات كذلك، وإصرار عموم الناس الواعي جداً علي احتكار الدولة للعنف ووحدة الجيش وبقاء المؤسسات. فعندما يندد الموقعون علي البيان بتغليب فصيل من الفصيلين علي الآخر عبر تدخل الجهة السيادية الوحيدة الباقية عملياً، محذرين من الانقلابية وداعين إلي استكمال الثورة وهكذا، أنت طبعاً تفرح بسب الدين الذي يتعرّضون له رداً علي تنديدهم ودعوتهم، لكن ما يلفت نظرك هو كون ما حدث منذ قررت الثورة أن "تعصر علي نفسها ليمونة" محبذة نار مرسي علي عار شفيق وما إليه لم يؤثر علي انحيازات هذه "الجزم" القديمة التي يلبسها الإسلاميون ليدوسوا بها علي قيمك من أول لحظة، سواء كانت دوافعهم يسارية أو حقوقية أو مازوخية أو أي بلاء أزرق ممعن في بجاحته. وعليه، يخطر لك خاطران تاريخيان أجدر بال "سيرورة" ربما مما تقوله جزم الثورة عن نفسها فالجزم إجمالاً غير قادرة علي الحديث، أو غير قادرة علي إفراز ما يمكن أن يتجاوز خيالها المبتذل والمقصور علي بضعة كليشيهات عكس بعضها علي مستوي الترجمة الواقعية ل "المبادئ" أهم ما فيهما أن الحديث عن الحقوق المدنية والنفوذ »الديمقراطي« للإسلاميين إنما هو جزء من التضليل الممنهج الذي يخلط بين أهدافهم وأهداف التحول الديمقراطي. يتلخص الخاطر الأول في أن الطائفة الإسلامية (في مقابل عموم المسلمين بالولادة) تخلت طوعياً عن حقوق المواطنة. فهي لم تدخر جهداً في إقصاء وتصفية سواها من طوائف المجتمع المسماة جمعاً ب "الفلول"، سواء من خلال القنوات المؤسساتية بما فيها صندوق اقتراع أجوف كطبلة والقفز علي المسلمات القانونية والتنفيذية وتعميق الفساد الإداري والمالي والكذب القراح علي طريقة الشموليات الآفلة أو مباشرة عبر قتل وتعذيب الناس في الشوارع. إن الطائفة الإسلامية بتعريفها لا هي فصيل (بمعني أنها تقصي من سواها) ولا وطني (بمعني أن انتماءها للملة وليس للأرض وأعراف سكانها)، لكنها بهذه الممارسات وبإنكار كل مقومات المدنية ما عدا ما يسهّل عليها الوصول إلي الحكم إنما تخلت فعلاً عن مساحة وجودها المتنامية منذ السبعينات، سعياً إلي مجتمع لا يضم سواها... وهو أمر متوقع ومفهوم في ضوء طبيعة التوجه الإسلامي نفسه. ومن المفارقات المربكة في هذا السياق أنه في أعقاب أحداث ماسبيرو، وتبعاً للتصور الموروث عن اضطلاع الغرب ب "حماية حقوق الأقليات"، كان المتوقع من الغرب أن يهب لنصرة الأقباط فلم يفعل شيئاً وإنما علي العكس جدد مبايعته للمجلس العسكري كوسيط التحول الديمقراطي المخلص مع أن المجلس العسكري وقتها كان يمارس حكماً عسكرياً مباشراً وغاشماً بالفعل، بينما كان رد الفعل علي أحداث الحرس الجمهوري - وخلاف التصور التقليدي عن عداء الغرب للإسلام السياسي أو قلقه منه - فرصة سانحة للكلام عن انتهاكات حقوق المدنيين واغتيال الديمقراطية بالانقلاب العسكري وما إليه، مع أن المجلس العسكري الآن يتحرك بغطاء شعبي حقيقي ومن خلال المحكمة الدستورية. وإذا كان من معني لهذا التناقض مع الوضع في الاعتبار الدور الذي لعبه الغرب في سوريا ونوع الديمقراطية التي أسسها قبل ذلك في العراق فمعناه أن التحول الديمقراطي في العالم العربي بالنسبة للغرب لا يعني سوي الديكتاتورية الطائفية، وأن انحياز الغرب النهائي ليس للديمقراطية كما تمارس في بلاده علي أساس علماني واضح وبغطاء عسكري واضح أيضاً مع منع صريح للولاءات الدينية من التأثير علي أي معادلة سياسية إنما انحياز الغرب هو لشكل من أشكال الثيوقراطية في العالم العربي. ولا شك أنه ليس من الحكمة التسرع في تصور أن هذا يحدث بشكل واع أو منظم ولا أنه جزء من مؤامرة علي غرار »الشرق الأوسط الجديد« وما إليه، المثير في المسألة هو أن الإسلام السياسي أصبح هو الترجمة المطروحة بجدية لمبادئ المنظومة العالمية للحقوق والحريات حين تطبق عندنا. وكيف يصبح الإسلام السياسي في نظر النظام العالمي هو الترجمة السياسية الوحيدة الممكنة في الدول العربية للمبادئ الديمقراطية النيوليبرالية التي يتبناها ذلك النظام مع أن الإسلام السياسي يناقضها في كل شيء. أما الخاطر الثاني والأهم فهو أن الكارثة الحقيقية الحاصلة في مصر الآن هي الإنكار التام لكون الإسلام السياسي فعلاً تعبيراً مشروعاً عن العقيدة الإسلامية، فعندما يسمح مجتمع ما بما فيه دولته للدين أو التدين بالحضور الكثيف والإقصائي في المجال العام، يكون "الإخوان" هم النتيجة الطبيعية الموضوعية. فالكلام كما لو أن الإسلامي هو كائن فضائي غريب سقط من السماء، والإشادة الخرقاء باعتدال و"وسطية" الأزهر مع الهرولة إلي "علمائه" كالأوصياء الأحق بوصفهم دعاة حرية بينما هم في الحقيقة أسوأ ما أنتجه هذا المجتمع علي الإطلاق، وتصوير المسألة كما لو كانت صراعاً بين الإسلام الحقيقي والإسلام المزيف هذا كله من قبيل علاج الأعراض التي يسببها فيروس ما عن طريق تغذية ذلك الفيروس وتهيئة الجسد المريض للمزيد من استفحاله. فما يعمله كاتبو البيان بالثورة يعمله المجتمع الواسع بالإسلام. الواقع أن محمد حسان هو التطور الطبيعي لشيخ الأزهر وخيرت الشاطر هو الصورة المعاصرة لجمال الدين الأفغاني، والواقع أن العمي عن ذلك أخطر حتي من ممالأة الإسلام السياسي علي المدي الطويل. فالمشكلة إن لم تكن في الدين كدين فهي في حضور وفرض وتملق الدين كعنصر قسري من عناصر المجال العام، وإنكار حرية العقيدة والحق في الإعلان عن الاختلاف، وتكرار أكاذيب الوحدة الوطنية وسماحة الإسلام وطيبة الشعب "المتدين بطبعه". وهناك سببان علي الأقل لرفض الكلام عن أرباب الإسلام السياسي و"شباب الإخوان" بالتحديد باعتبارهم أبناء ضالين أو مضللين يجب إعادتهم لحظيرة الهوية الجامعة الإسلامية أيضاً من خلال جهود تصالحية تستثني القيادات رؤوس الأفاعي ولا تستثني أبناءنا" الذين يستغلهم هؤلاء القيادات، أو من خلال وفاق وطني ليس فيه "إقصاء لأي طرف" إلا طبعاً الطرف العلماني الذي لا صوت له لأنه إلي الآن هو نفسه خائف من الاعتراف بعلمانيته وبالتالي مضطر للمزايدة علي الإسلاميين في عقيدتهم ولمواءمة تصوراته علي حدود تفكيرهم، وحين يضطلع بالدفاع عن حقوق الإنسان ضد إجراءات قمعية لا يجد من يدافع عنه سوي الإسلاميين أنفسهم. السبب الأول هو أن الإسلامي مثله مثل أي مواطن لا يحتاج إلي وصاية. فإذا اعتبر المجتمع الإسلاميين مجرمين وتصوري شخصياً أنهم مجرمون فعلاً، ليس فقط حين يرفعون السلاح حينئذ يكون واجب الدولة أن تتدخل لعزلهم عن المجتمع وليس لدمجهم فيه. أما إعفاؤهم من مسئولية ما اختاروه بكامل إرادتهم فهو لا يهين إنسانيتهم بمنطق شوفيني استعماري فحسب وإنما أيضاً يعرضك لإجرامهم مرة ثانية وثالثة بلا أفق لحل، ولا حاجة للإشارة إلي أن من هم ليسوا قيادات الآن يمكن أن يصبحوا قيادات في المستقبل. السبب الثاني هو أن الهوية الجامعة التابعة للنوايا الحسنة حين تساوي بين ولاءات وتوجهات الإسلاميين وغيرهم فتعتبر أن الجميع »شباب متحمس« أحق بالحياة من أفراد الأمن الذين يشتبك معهم إنما تبدّياً السبوبة الحقوقية علي مفاهيم أكثر جذرية مثل ضرورة احتكار الدولة للعنف والوضع السيادي للجيش في أي دولة مهما كانت »مدنية« وتفعل بالمنطق ذاته الذي يبدي به الإخوان "شرعي" الإجراء علي المبادئ الديمقراطية فيتجاهلون الحقوق والحريات (بما فيها حرية العقيدة) وينسون ضرورة التداول الحقيقي والمستدام للسلطة. فكرة الاحتواء الوطني غير الإقصائي هي ما يجعل من الإسلاميين أداة قمع غير معلنة في يد أي سلطة فاسدة داخل حالة الوفاق الإسلامي »الوسطي« الدائمة فيصبح هناك فيه »مراجعات فكرية« مؤقتة مع إدانة لتصرفات بعينها وليس لحالة عقائدية أدت وستؤدي إلي التصرفات لكن لها تأثيرات دائمة أخطر كثيراً أولها أنها تجعل المجتمع جاهزاً لسيطرة الإسلاميين كأوصياء بغض النظر عن محتوي سياساتهم. وأظن أن اختزال مشكلة الإسلام السياسي في أن قياداته أشرار انحرفوا عن الطريق »الدعوي« البريء هو ما يسمح بالخلط بين غايات متناقضة مع المنظومة الإسلامية مثل العدالة والحرية والديمقراطية بمعانيها المعاصرة وبين وسائل مثل النضال والمعارضة والصندوق يمكن أن تستخدم كلها لتسييد الإسلام السياسي علي حساب كل غاية محتملة. هذا كل ما في الأمر: من يحمل السلاح ويرهب المواطنين يجب أن يطلع دين أمه بحسم تام، ومن لا يريد ذقوناً وأجولة سوداء في الحياة يجب أن يكف عن الشرمطة »الوسطية« مرة وإلي الأبد. أما من يصر علي انحيازاته »الثورية« التي نقضها الواقع من غير ما يتعرض للأسئلة الجوهرية المطروحة هنا، فهذا لا ضرورة للتعاطي معه من أساسه.