إذا أردتم أن تتخيلوا حال بلدتنا الصغيرة بعد جريمة القتل الأولي فيمكنكم أن تتخيلوا سيدةً مُسنة تستعيدُ فجأةً مذاق رعشة اللذة وكأنها رجعت مراهقة بجدائل فاحمة غليظة، يمكن للعشاق أن يتعلقوا فيها ويتأرجحون. هكذا استقبلت بلدتنا المنسية أول أنباء القتل، برعشة خوفٍ لذيذ راح ينتقل من فمٍ إلي فم ومن دارٍ إلي دار. وإذا كان تشبيهنا السابق يروق لأحدكم يستطيع أن يعاينه بنفسه، ونحن ندعوه ألا يتردد في رسم باب علي هذا الجدار الآن، ثم يفتحه ويدخل، وسيجد بالداخل المرأة إياها مع مرآة في يدها؛ مرآة صغيرة مكسّرة الحواف، يمكنها أن تجرح، وأن تقتل ربما، في ظروفٍ بعينها، مرآة فقيرة تماماً مثل بلدتنا هذه، رغم مزارعها وبساتينها، باسمها الغريب، الفقير أيضاً، اسم عُملة قديمة تم الاستغناء عنها من قرون، لذلك فلعلكم ابتسمتم بينما تقرءون أخبارنا الأولي في صُفحكم، أو علي شاشات الكمبيوتر طبعاً، وقلتم: "بلد اسمه عجيب جداً". لا تخافوا علي صاحبكم الذي دخل إلي المرأة قبل قليل، وأغلق من ورائه الباب، سيكون قادراً علي الرجوع في أي وقتٍ يشاء، المشكلة أنه قد تفوته القصة، قصتنا. نعم، في بلدتنا قاتل طليق، وهو واحدٌ من أهلها بالتأكيد، ليس غريباً أو عابراً، فنادراً ما يزورنا غرباء، وإذا زارونا لا يبيتون ليلتهم بيننا، رغم أن فنادقنا نظيفة وأسعارها معقولة كما اكتشفتم بأنفسكم، وحتي إذا حدث أن باتَ بعضُهم هنا لظلّ تحت أعيننا لحظةً بلحظة، وأحصي بعضُ أهل البلدة حركاته خطوةً خطوة، ليس من باب التجسس علي خصوصيات الآخرين، فلسنا همجيين، بل لمجرد اختزانها عند الحاجة إليها أيام الفراغ، حين يُذكّر بعضنا البعض بطريقة سير هذا الغريب أو بثياب تلك الزائرة، وهكذا تمر الليالي. لكن لماذا قد يزورنا زائر؟ فليس لدينا شواطئ جميلة تصلح للسباحة واللعب، ولا صحراء فاتنة مُرصعة بالسراب والواحات وعيون الماء، ولا جبالنا بها معابد أو كنائس تاريخية، بل إننا لا نملك مزاراً لوليٍ صالح واحد. تعرفون هذا من الآن، فلا تقولوا وأنتم تنفخون: "لا شيء يستحق الرؤية في بلد الشيطان هذا"، نعرف أنكم لا تقصدون الإساءة، فلن نغضب، وإن كان غضبنا مثل فرحنا سريع الزوال، وربما تقصدون بالشيطان قاتلنا الطليق، ولتسمعوا قصته من بدايتها بألسنتنا نحن. أول الأمر عثرنا علي سائق عربة أجرة مخنوق بحبل، رأسه مستريح علي عجلة القيادة، ولسانه متدلٍ من فمه وكأنه يغيظ رجال الشرطة، الذين تجمعوا حول مسرح الجريمة في الساعات الأولي من الصباح، بأزيائهم البنفسجية اللامعة التي تميز شرطة بلدتنا. كانوا مرتبكين، فرغم أنهم تلقوا تأهيلاً لا يختلف كثيراً عما يتلقاه رجال الشرطة لديكم، فإن الخبرة لا غني عنها في مثل تلك الظروف، وهم من هذه الناحية صحيفة سوابقهم بيضاء تماماً، مثل ضفائر هذه المرأة التي اختلي بها الآن ضيفنا الجريء، ليكتشف بنفسه كيف يمكن لتشبيه أن يتحول إلي جسدٍ حي. رد فعلنا الأول كان الذهول والصمت التام. لم ندر ماذا علينا أن نفعل، فهل نخاف؟ هل نتحمس؟ هل نحبس أولادنا في البيوت؟ هل نتوب إلي الله؟ وبعد أيام، والشرطة مازالت مرتبكة، تجرأ أحدنا علي الكلام حول الواقعة، وشجّع هذا آخر إلي جواره علي مناقشة الموضوع معه، وهكذا رحنا جميعاً نتخبط بين علامات الاستفهام وعلامات التعجب. علامات بأحجام مختلفة، تتحرك وتقفز بألوان فسفورية حادة شأن كل شيء في بلدتنا، ونرجو ألا يؤذي أعينكم المرهفة هذا الإفراط في التلوين. وبينما نتخبط رحنا نتحدث ونتحدث: أليس من حقنا أن يكون لدينا نحن أيضاً مجرمون مخيفون؟ هل من حق المدن الكبري المعروفة وحدها أن تحتكر السفّاحين كما تحتكر صناعة السينما والمشروبات الغازية والفضائح السياسية، إلي آخره، وأنتم أدري منا بكل هذا؟ وربما تكون هذه الحادثة هي نقطة انطلاقنا، مجرد بداية نحو المجد والتاريخ والخلود، إلي آخره، وكلها أشياء طالما سمعنا عنها من خلالكم، وطبعاً أنتم أدري منا بها. المهم، عادتْ العجوز صبية وحلتْ ضفائرها، وراح الناس يدربون ألسنتهم علي إخفاء لكنتهم المحلية، استعداداً للتحدث أمام وسائل الإعلام، لعلكم لاحظتم هذا أيضاً، وانتظرنا وصول كاميرات وميكروفونات المحطات الفضائية، والمراسلين والمذيعات، وطال انتظارنا، ولم يشغل خبر مقتل سائق الأجرة إلا سطوراً قليلة لديكم، ونسي الجميع الأمر كأنه لم يكن، وأوشكنا علي اليأس، وجاهر البعض بكراهيته لهذا القاتل الذي أغرانا بالأماني ثم انتهي أمره قبل أن يبدأ، لكننا قبل أن نُسرّب آخر قطرات الأمل من نفوسنا وقعت الواقعة الثانية. أبلغت عائلة كبيرة من مالكي مزارع العنب عن اختفاء صغري الحفيدات، دُمية جميلة لم تصل بعد إلي سن المدرسة، وكما علمتم من الصحف فقد نشط الأهالي في البحث، نحن، فها أنتم ترون بأعينكم من قرأتم أنهم نشطوا في البحث، نعم، نشطنا، نعم، بحثنا، وليتكم كنتم معنا وجميعنا غرقي في بحرٍ من الحماس والعرق والخوف واللهاث، ونداء الأم الشابة الجميلة باسم ابنتها يتردد في كل ركنٍ من البلدة. هذا مشهد جيد جداً، ننبّه إلي هذا من الآن، إذا فكّر أحدكم في تحويل الحكاية إلي عملٍ دراميّ. كنا واثقين من موت الصغيرة، فقاتلنا لن يخذلنا، وكلٌ منا يتمني في نفسه أن يكون هو من يعثر علي جثتها قبل الآخرين، حتي يندس اسمه علي الأقل بين سطور الخبر، لكن لم يجدها سوي أخوالها أنفسهم، غير بعيدٍ عن سياج مزارعهم، نائمة علي إطار شاحنة، وتسبح علي سطح إحدي قنوات الري، مغمضة العينين وبين يديها كيس الفشار مازال ممتلئاً. لا تفاجئني نظرات الدهشة علي وجوهكم كلما قلتُ شيئا مثل إطار شاحنة أو قنوات ري أو حتي كيس فشار، لو أقمتم بيننا لبعض الوقت لاكتشفتم المزيد بأنفسكم من أمارات التقدم والحضارة. كلا، لم يهتك عرضها، قتالنا عفيف مع هذا، ليس وحشاً، ولا جدوي من البحث عمّا يربط سائق الأجرة بالحفيدة الصغيرة، فهذه أمور نراها فقط في أفلامكم، أو ربما هي عادات السفاحين لديكم أنتم، الاختيار وفق صفات محددة، أو حسب ترتيب يُمليه مرضٌ نفسي أو هوسٌ مسيّطر. إنه إنسان طبيعي تماماً، مثلنا جميعاً، ربما يعاني الضجر، ربما يبحث عن شيء لا يعرف اسمه، شيء يعيد له إحساسه بوجوده. إن بدا لكم هذا تعاطفاً مع القاتل فلا بأس، هذا أيضاً تعلمناه من أفلامكم، لقد قدمتم لنا الكثير من خلالها، ولكن قاتلنا المجهول قدّم لنا أيضاً خدمة جليلة، إذ أتاح لنا فرصة لقائكم والتحدث إليكم طويلاً. ثم نأتي للواقعة الثالثة، والتي جرت في قيظ الظهيرة الذي هو لدينا كالمهل يشوي الوجوه، وداخل دار السينما الوحيدة بميدان البلدة، التي تدور مراوح سقفها مثل دوامات عنيدة لها أزيز يغطي علي حوار الممثلين والموسيقي التصويرية. قيل إنه كان يضع قبعة عريضة الحواف، قبعة تقليدية يستعملها أغلب المزارعين والعمّال هنا، ويخفي عينيه تحت نظارة سوداء. هل هذا يعني أن الفاعل المجهول ذكر؟ ألمح آخرون إلي احتمال العكس، وأنها أنثي رفعت شعرها تحت القبعة، لكن من يدري؟ موظفة شباك التذاكر ذكرت أنه أسمر، لكن البوّاب الذي تناول منه التذكرة قال إنه أشقر، أمّا الوحيد الذي لم يدل بدلوه في هذا الجدل فقد كان العامل الذي أرشده إلي كرسيه وقاده بمصباح يدوي في القاعة الواسعة المظلمة، ذلك لأنه تلقي طعنة خنجر عميقة، بين ضلوعه، فانحطّ في مكانه بين الصفين الأخيرين، نازفاً حياته بهدوء، بينما تنسج أولي المشاهد بوادر قصة الحب. واختفي الشبح بالطبع قبل افتراق البطل والبطلة، ولم نكتشف جثة الضحية إلا مع قُبلة النهاية السعيدة. عندئذٍ فقط استطعنا أن نجذب انتباهكم، جئتم بربطة المعلم كما يُقال، وبدأ أخيراً الهرج والمرج، الآن وقد أتيتم وانتشرتم في الأماكن الحقيقية للأحداث، بدأت اللعبة الحقيقية، ولن يستطيع صاحبنا أن يتراجع بالمرة، بعد أن كسب كل هذا القدر من الجمهور. الآن سنتجه معاً إلي مشوارٍ صغير، حتي مجلس المدينة، حيث يُقال إن مفاجأة جديدة وقعت قبل دقائق، حين تلّوي ثعبانٌ من الدم خارج دورة مياه السيدات هناك، فانتبه الفراشون للضحية الجديدة، موظفة قديمة عُرفت بجديتها وإخلاصها للعمل. ها نحن قد وصلنا، زيارة مجلس المدينة شيء يستحق الجهد، ومع ذلك فاقتربوا هنا، ها هي، مازالتْ الضحية تسبح في دمائها الطازجة، وتبتسم ابتسامةً مضيئة لم يرها أحدٌ علي وجهها في السابق وهي حية ترزق. تستطيعون طبعاً التقاط الصور، نحن بلدةٌ كريمة. لاحظوا هذه الابتسامة النورانية علي وجه القتيلة مثل مَن تجلي له الله دون إشعار مسبق، لا بدّ وأنها ماتت سعيدة، بعد أن عرفت أخيراً هوية القاتل الذي يحيّر الشرق والغرب، الأمر الأروع أنها سوف تحتفظ لنفسها بهذا السر إلي الأبد. وللمصادفة يمكننا أن نعتبرها تجسيداً ميتاً للعجوز التي استعادت مذاق اللذة، وكأنها عادت مراهقة بضفائر. لم تنتهِ القصة بعد، نرجوا أن ابقوا معنا.