بعض النقاد الكلاسيكيين لا يمكنهم التعامل مع نصوص أدبية تنتمي لما بعد الحداثة، ذلك أنهم اعتادوا أن يعالجوا نصوصاً لها صفات محددة حتي صاروا مجرد نقاد حقيبة يسنون أدواتهم الجاهزة لينتجوا قراءة متشابهة لأعمال ربما تتشابه في الإطار العام فقط. الكتابة الحديثة، التي ربما تنتمي لتيار تخطي ما بعد الحداثة نفسها، ليست بالنسبة له إلا هذا العمل الرديء الذي لا تكتمل فيه عناصر العمل الكلاسيكي الذي اعتاده، أو أنه يحاول مقاربته بالعمل الكلاسيكي ليستريح ضميره، فيكتب عن المشترك بينهما، رغم أن المخالف يفوق المشترك بكثير. ما يجري علي الأدب يسير علي السياسة، وما يناسب الناقد الأدبي يتفق مع المحلل السياسي، ربما بهذه الطريقة يمكننا أن ندرك لماذا انحازت الصحف الإسبانية خاصةً لوصف ما جري في 30 يونيو بأنها مجرد »انقلاب عسكري« بذريعة أن الجيش تدخل فيها أو كانت له اليد العليا طبقاً لوصف إحداها. الجرائد الإسبانية، وأهمها جريدة »الباييس« اليسارية، لم تتوقف منذ بداية 30 يونيو عن الانحياز التام للرئيس المعزول، ووصفه بالرئيس الديمقراطي الذي جاء عبر صناديق الانتخابات، كما وصفوا مؤيديه بالمدافعين عن الديمقراطية، دون أن يشيروا ولو مرة واحدة أن جماعة الإخوان المسلمين تكونت بالأساس بشكل غير شرعي، حيث إنها دخلت العملية الانتخابية في الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة 25 يناير بعد صفقة مع المجلس العسكري، والتي تم بموجبها السماح بتكوين حزب سياسي علي أساس ديني، في انتهاك واضح لكل قوانين العالم التي ترفض قيام حزب سياسي علي أسس دينية أو عرقية، لما يسببه ذلك من طائفية وعنصرية. إضافةً لذلك، تجاهلت الصحافة الإسبانية والمحللون المتخصصون في الشأن العربي مسألة مصادر أموال جماعة الإخوان وذراعها السياسية حزب الحرية والعدالة، ولم تلمّح من قريب أو بعيد إلي أن جماعة الإخوان كانت الأصل الذي انشق عنه الجماعات الإرهابية التي قتلت السائحين والأقباط خلال عقد التسعينيات والعقد الأول من هذه الألفية، كما لم تشِر، ربما لعدم معرفتها، إلي أن الرئيس الذي وصفوه بالمنتخب أطلق، في بدايات حكمه، سراح الإرهابيين المتورطين في قتل رجال الجيش في سيناء وقتل أحد أهم المفكرين الإسلاميين فرج فودة الذي كان يناهض الدولة الدينية في كتاباته، وكانت هذه الخطوة أولي إيماءات الريبة اتجاه رئيس أراد منذ بداية وصوله لسدة الحكم تكوين ميليشياته الخاصة التي ستحميه يوم يخرج عليه معارضوه لمطالبته بالتنحي، وهو ما حدث بالفعل يوم 30 يونيو، والتي أعقبها مباشرة ضرب خطوط الغاز في سيناء والاعتداءات المتكررة علي الشرطة والجيش وسقوط ضحايا علي يد الجماعات الإرهابية، التي أكد القيادي الإخواني محمد البلتاجي أنها ستتوقف إن عاد مرسي إلي السلطة. أما جريدة »الموندو« اليمينية، فوقفت مرتبكة أمام الحدث الكبير، لكنها انحازت في النهاية لمصطلح »انقلاب عسكري«. الغريب أن نفس الجرائد التي غطت أحداث حصار المحكمة الدستورية من قبل جماعة »حازمون« أيام الرئيس المعزول، لم تتكبد عناء تذكير قرائها بأن مرسي لم يتخذ أي إجراء لإنهاء الأزمة، في إيماءة واضحة لموافقته علي الاعتداء علي القضاة، وهي الإيماءة التي أعقبتها إيماءات أخري لعل أهمها مشروع قانون السلطة القضائية الذي كان يهدف للتخلص من قضاة المحكمة الدستورية من أجل أخونة القضاء، وكلها أسباب كافية لإسقاط شرعية رئيس أقسم أمام رئيس المحكمة الدستورية العليا علي احترام الدستور والحفاظ علي الأمن، وهو ما لم يتحقق طوال عام حكم فيه دولة خارجة لتوها من ثورة عظيمة نادت بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. لم يستوعب المحللون السياسيون والمتخصصون في الشأن العربي بالجرائد الإسبانية الأسباب التي أدت لسقوط مرسي، فأستاذة الدراسات العربية والإسلامية بجامعة أوتونوما دي مدريد لوث جوميث قدمت قراءة تحليلية للثورة المصرية بجريدة الباييس تحت عنوان »الجيش ليس هو الحلس قالت فيه«إن رد فعل الشعب المصري كان مبالغاً فيه، فمرسي في النهاية لم يكن طاغية مثل مبارك، كما أنه أول رئيس مدني منتخب وهو مكسب لمصر، وأن المعارضة المصرية لم تعترف بالشرعية الديمقراطية الإسلامية ولم تبد استعداداً لاحترام الفترة السياسية التي حددها الدستورس. وسواء لم يستوعب المحللون الحالة المصرية لتقصير من جانبهم أو لتعقيد الحياة السياسية في مصر في السنوات الأخيرة، فالنتيجة واحدة: اعتقادهم أن المصريين اختاروا رئيساً بالصندوق وعليهم أن يتركوه ليتم فترة حكمه، وهم بذلك يتعاملون مع ثورة 30 يونيو بحقيبة الناقد الكلاسيكي الذي لم يعد بمقدرته إدراك أن العالم يتغير، وأن الشعب المصري ليس إلا رأس السهم الذي ثقب الهدف وأن وراءه ستعبر شعوب أخري، ليكتب بذلك تاريخاً جديداً، ما بعد حداثي لو صح التعبير، ما يحتاج بالضرورة محللين جدد يدركون أنها ثورة قام بها شعب سانده الجيش بعد أن تأكد أن الغلبة للشعب وليس لرأس السلطة التنفيذية. وفي حالة جوميث، فلابد انها غير ملمة بالمشاكل التي واجهها الشعب خلال عام كان فيه مرسي علي رأس السلطة التنفيذية دون أن يحقق اي تقدم يذكر، بل إنه اخترق بنفسه كل ما يمت بصلة للديمقراطية، سواء باعتقال معارضين أو بإعلانات دستورية تجعل منه إلهاً محصناً. وبقراءة متأملة للتقارير الإخبارية التي غطت ولا تزال تغطي الأحداث المصرية، والمقالات التحليلية التي وصفت الحدث المصري بأنه »انقلاب عسكري« يأتي سؤال جوهري حول المرجعية التي استندت عليها هذه الآراء، وأعتقد أن الإسبان قارنوا الثورة المصرية بالانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال فرانكو في ثلاثينيات القرن الماضي ضد الجمهورية الثانية التي جاءت بانتخابات حرة وباختيار الشعب، وكانت حكومة يسارية واجهت الكثير من الاحتجاجات من ملاك الاراضي كما عانت من الحرائق وتدمير المنشآت، فاستخدمت، لإخماد هذه الاحتجاجات، اليد العسكرية القوية التي كانت الجنرال فرانكو، ثم ما لبث الجنرال أن قام ضدها بانقلاب ليستولي علي الحكم حتي وفاته عام 1975 المؤرخون الذين سجلوا الواقعة في كتبهم أكدوا أن عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي لا يبرر بأي حال من الأحوال الانقلاب العسكري، وبالإضافة لطمع فرانكو في السلطة، كان هناك سبب آخر: الخوف من الثورة البلشفية وانتشار الشيوعية في المجتمع الإسباني، وبدا ذلك واضحاً في مساندة البابا للديكتاتور، واستخدام فرانكو لخطاب »الشذوذ الجنسي« مبرراً مقتل الشاعر الإسباني الشهير جارثيا لوركا، الذي كان يؤيد الحكومة اليسارية المنتخبة وينتقد بشدة الانقلاب العسكري، وكان مؤثراً في الرأي العام العالمي. المحللون الإسبان، إذن، يقرءون ثورة 30 يونيو ضد الرئيس المنتخب في سياق تاريخهم هم، وليس في سياق التاريخ المصري، والانقلاب بالنسبة لهم يعني تدخل الجيش، دون الانتباه أن الجيش تدخل نزولاً علي الإرادة الشعبية وبعد أن ملأ الشوارع ما يقرب من 33 مليون ثائر في وجه الرئيس الإخواني، الذي رفض كل طرق التواصل مع المعارضة أو إحداث أي إصلاحات من شأنها تهدئة الجماهير الثائرة. علي أية حالة، الثورة المصرية تحمل شيئاً من الإبداع الحديث، ما يجعل العالم يستغرق وقتاً لفهمه، ولن يستطيع أن يحقق ذلك مبكراً إلا من يتخلي عن أدواته الجاهزة وقراءته الكلاسيكية للأحداث.