أثارت المسائل المتعلقة بالعقل والذهن خيال المبدعين والفلاسفة والكتاب علي مر العصور ، مثلما أثارت بالطبع علماء النفس والأطباء ، وقد حار الجميع قديماً في تعريف الجنون ، وما يندرج تحته من أوجه متعددة تجسد الاختلاف عن السياق ، أو الخروج عن المألوف ، وفي هذا الكتاب يضعنا ميشيل فوكو أمام فكرة الجنون ومفاهيمه وتاريخه ، وعلاقته بالحياة بشكل عام بالأفراد والمجتمعات والإنسان والإبداع كإشكالية جديرة بالتأمل ، تمنحنا أبعادها صورة للعصر الكلاسيكي ، وملامحه وتناقضاته وتعاطيه مع الأشياء ، حيث « المجنون يعير صورته لكل ظواهر الانتماء الثقافي ، ألي مؤسساته ومعاييره ومقاييسه في الحكم كأشكال « ايدلوجية» للضبط والردع وحماية الحدود و « الوسط المضبوط » لكي يصبح في النهاية آداة لكل ما هو غير عادي ومألوف : « هذا جنون » حكم يطلق في وجه كل مالا يستقيم داخل خطاطة ثقافية أو سياسية مسبقة » إذن فالأمر يتعلق بفعل ثقافي وثيق الصلة بحالة المجتمع الحضاري ، وهو الفعل الذي يستند إليه من أجل الفصل بين ما نقبله باعتباره ينتمي إلي دائرة العقل وبين ما نرفضه باعتباره لاعقلاً . ويري مترجم الكتاب د . سعيد بنكراد أنه فصل بسيط في مظهره إلا أن امتداداته لا حصر لها ، فاستناداً لهذا « ستبني عوالم تتناقض فيما بينها استناداً إلي المعرفة التي يثمنها المجتمع ويعمل علي إشاعتها ، وبين تلك االتي يعتبرها من إفرازاته المرضية ، فالبخل نظير التبذير والحماس نقيض الفتور والاندفاع نقيض للاستسلام . وكل نقيض قد يصبح جنوناً استناداً إلي الوسطية . » . ويستند فوكو في هذا الكتاب إلي كل خبرات الإنسان وتجربته مع حدوده الدنيا والقصوي ، فقد استقي مادته من الأدب والفن والمسرح والفلسفة ، وكذلك من الشعوذة والكيمياء والممارسات السحرية . ومن تاريخ مؤسسات الدولة بما فيها البرلمان والجيش والأوامر الملكية والمستشفيات العامة والمارستان والسجون ومؤسسات الحجز ، وهي من اختراعات العصر الكلاسيكي العجيبة . فقد كان « المستشفي العام » وهو مؤسسة ظهرت عام 1661 وفيه تجسد الحجز بامتياز ، سجناً وإصلاحية ومارستان ، أي أداة قمع مُثلي تقوم بكل شئ عدا العلاج ، فقد أُنشئ في بداية الأمر في فرنسا بأمر ملكي لمحاربة العطالة والتسكع والتسول في الشوارع وأبواب الكنائس ، ليصبح بعد ذلك غولاً هائلاً سرعان ما ابتلع في طريقه كل شئ ، وعالم الحجز هذا كان غريباً حقاً ، فقد كان يضم داخله المجانين والمختلين والمنحرفين والشواذ ، كما يضم المبذرين والبخلاء والغارقين في اللاعقل ويعيشون في غيابات الجنس والفلسفة والأدب وأشكال الإبداع التي تغطي تجربة روحية لا تتوقف عند حدودها القصوي كما يضم أيضاً المرابين والمشعوذين وكل الذين خرجوا عن أخلاق المجتمع والذين شككوا في قيَمه . وبالتالي لا يعتبر تاريخاً لجنون العقل فقط إنما هو « رحلة طويلة في ذاكرة الإقصاء والهمجية الإنسانية » تحدث فيها فوكو كذلك عن طبيعة المجتمعات في عمومها وشرائح اجتماعية معينة فقدت تواصلها مع المجتمع بل فقدت القدرة علي التواجد فيه مثل المصابين بالجذام وغيرهم من الفئات الاستثنائية أو المستثناة . كما يتحدث عن حالة سعار إنساني غريب حاول بكل الوسائل أن يجتث كل مالا يسقيم داخل معاييره في الحكم ولا يسير وفق الحالة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المثلي وعلي ذلك ففوكو يتحدث عن صور الجنون ووجوهه في اختلاطها بحالات أخري يطلق عليها هو نفسه كما أطلق عليها العصر الكلاسيكي برمته »اللا عقل« وفي إطار هذه الحالات يُدرج أعمالاً أدبية وفلسفية كبري مثل أعمال نيتشة وآرتو وشكسبير وكذلك أعمال مجموعة كبيرة من أعمال الأدباء والفنانين الذين « أسلموا قيادهم لوجدان فك كل قيوده وانغمس في حالة هذيان ، لم يعرف حدوداً في الانفعالات والأزمنة والفضاءات » وضمَّنها أيضاً أعمال الماركيز دي ساد ، ومن خلالها يتحدث عن السادية ، وبعض أنماط الانحراف النفسي . وهو من خلال ذلك يستعرض سمات الكلاسيكية وخصائصها وما يميز نمط تعاملها ليس مع الجنون وحده بل مع كل ما يخرج عن طاعة النموذج الذي صاغته قوي اجتماعية وفرضته سلوكاً كونياً مطلقاً ، فهو قد بلور العصر الكلاسيكي تجربة أخلاقية للاعقل من خلال ربطه بين عوالم اللاعقل وبين الجنون وبين عوالم الممنوعات الجنسية والدينية ، وخلطت بذلك بينه وبين حرية الفكر . وبعد أن يتجول بنا فوكو في العصور المختلفة بدء من العصور الوسطي وتاريخ تطور المسألة والقوانين العرفية المرتبطة بالجنون والخارجين علي السياق الجتماعي العام والعُرف يصل بنا إلي القرن التاسع عشر حيث ظهرت بدءاً من ذلك القرن المؤسسات الطبية لتستعيد كل التصنيفات القديمة وتعيد صياغتها ، وتُخرِج من المسألة كل ماله علاقة بالأخلاق والدين وأحكام المجتمع ليصبح المجنون مريضاً عقلياً يحتاج إلي علاج . ولم يعد الجنون عقاباً من الله يسلطه علي عباده الذين كفروا ، ولكن مرضاً عضوياً أو نفسياً يمكن البحث عن أسبابه في خلل يصيب الدماغ أو الجهاز العصبي ، أو في حالة نفسية طارئة لها أسبابها . ثم نجد أن القرن العشرين يمثل مرحلة جديدة في تاريخ الجنون ، ينفصل فيها عن حالات اللاعقل ، حيث يتحول اللاعقل إلي جنون من طبيعة أخري »تُعدُّ حافزاً ضد المستحيل والمستعصي والذي لا يمكن إدراكه ، فنحن في حاجة إلي جنون الحب للحفاظ علي النوع ، ونحن في حاجة إلي هذيان الطموح لضمان سير جيد للنظام السياسي ، ونحن في حاجة إلي جشع لا معقول من أجل إنتاج الثروات « . ويعد من أجمل فصول الكتاب وأكثرها تشويقاً ، ما يكتبه فوكو تحت عنوان « سفينة الحمقي » والذي يعد مدخلاً هاماً لتاريخ الجنون ، واستعراضاً لتاريخ تلك الظاهرة في عصر النهضة ، وكيف كان يتم التعامل مع المصابين ، حيث هي »ظاهرة ظلت في حالة كمون لمدة قرنين تقريباً ستشكل حالة رعب كذلك الذي أحدثه الجذام ، وستثير حالات العزل والإقصاء والتطهير ، وهي الحالات التي ستلازم وجوده ، وقبل أن يتم السيطرة علي الجنون في أواسط القرن السابع عشر ، وفبل أن تنبثق عنه مجموعة من الطقوس « . ويتحدث هنا عن موضوع جديد ظهر في عصر النهضة سرعان ما سيحتل موقعاً متميزاً داخله : « يتعلق الأمر بسفينة الحمقي . . . وسفينة الحمقي من بين هذه الأساطيل الروائية والهجائية ، التي كان لها وجود حقيقي ، فالسفن التي كانت تنقل حمولتها الجنونية من مدينة لأخري ، وجدت حقاً ، ولهذا فإن الحمقي كانوا يعيشون حياة التيه ، لقد كانت المدن تطردهم ليلحقوا بالبراري حيث يتيهون علي وجوههم ، وهذه ممارسة كانت سائدة خاصة في ألمانيا . . . وكثيراً ما شاهدت أوربا هذه السفن وهي تعبر الأنهار ، وعلي ظهرها عدد كبير من الحمقي » . والحمقي لم يكونوا يطردون باستمرار ، ويفترض أن الطرد كان يطال فقط المجانين الغرباء عن المدينة ، فكل مدينة كانت لاتعتني سوي بحمقاها . كما يتحدث عن حالة سعار إنساني غريب حاول بكل الوسائل أن يجتث كل مالا يسقيم داخل معاييره في الحكم ولا يسير وفق الحالة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية المثلي وعلي ذلك ففوكو يتحدث عن صور الجنون ووجوهه في اختلاطها بحالات أخري يطلق عليها هو نفسه كما أطلق عليها العصر الكلاسيكي برمته »اللا عقل« وفي إطار هذه الحالات يُدرج أعمالاً أدبية وفلسفية كبري مثل أعمال نيتشة وآرتو وشكسبير وكذلك أعمال مجموعة كبيرة من أعمال الأدباء والفنانين الذين « أسلموا قيادهم لوجدان فك كل قيوده وانغمس في حالة هذيان ، لم يعرف حدوداً في الانفعالات والأزمنة والفضاءات » وضمَّنها أيضاً أعمال الماركيز دي ساد ، ومن خلالها يتحدث عن السادية ، وبعض أنماط الانحراف النفسي . وهو من خلال ذلك يستعرض سمات الكلاسيكية وخصائصها وما يميز نمط تعاملها ليس مع الجنون وحده بل مع كل ما يخرج عن طاعة النموذج الذي صاغته قوي اجتماعية وفرضته سلوكاً كونياً مطلقاً ، فهو « قد بلور العصر الكلاسيكي تجربة أخلاقية للاعقل من خلال ربطه بين عوالم اللاعقل وبين الجنون وبين عوالم الممنوعات الجنسية والدينية ، وخلطت بذلك بينه وبين حرية الفكر . وبعد أن يتجول بنا فوكو في العصور المختلفة بدء من العصور الوسطي وتاريخ تطور المسألة والقوانين العرفية المرتبطة بالجنون والخارجين علي السياق الجتماعي العام والعُرف يصل بنا إلي القرن التاسع عشر حيث ظهرت بدءاً من ذلك القرن المؤسسات الطبية لتستعيد كل التصنيفات القديمة وتعيد صياغتها ، وتُخرِج من المسألة كل ماله علاقة بالأخلاق والدين وأحكام المجتمع ليصبح المجنون مريضاً عقلياً يحتاج إلي علاج . ولم يعد الجنون عقاباً من الله يسلطه علي عباده الذين كفروا ، ولكن مرضاً عضوياً أو نفسياً يمكن البحث عن أسبابه في خلل يصيب الدماغ أو الجهاز العصبي ، أو في حالة نفسية طارئة لها أسبابها . ثم نجد أن القرن العشرين يمثل مرحلة جديدة في تاريخ الجنون ، ينفصل فيها عن حالات اللاعقل ، حيث يتحول اللاعقل إلي جنون من طبيعة أخري» تُعدُّ حافزاً ضد المستحيل والمستعصي والذي لا يمكن إدراكه ، فنحن في حاجة إلي جنون الحب للحفاظ علي النوع ، ونحن في حاجة إلي هذيان الطموح لضمان سير جيد للنظام السياسي ، ونحن في حاجة إلي جشع لا معقول من أجل إنتاج الثروات « . ويعد من أجمل فصول الكتاب وأكثرها تشويقاً ، ما يكتبه فوكو تحت عنوان »سفينة الحمقي« والذي يعد مدخلاً هاماً لتاريخ الجنون ، واستعراضاً لتاريخ تلك الظاهرة في عصر النهضة ، وكيف كان يتم التعامل مع المصابين ، حيث هي » ظاهرة ظلت في حالة كمون لمدة قرنين تقريباً ستشكل حالة رعب كذلك الذي أحدثه الجذام ، وستثير حالات العزل والإقصاء والتطهير ، وهي الحالات التي ستلازم وجوده ، وقبل أن يتم السيطرة علي الجنون في أواسط القرن السابع عشر ، وفبل أن تنبثق عنه مجموعة من الطقوس« . ويتحدث هنا عن موضوع جديد ظهر في عصر النهضة سرعان ما سيحتل موقعاً متميزاً داخله : « يتعلق الأمر بسفينة الحمقي . . . وسفينة الحمقي من بين هذه الأساطيل الروائية والهجائية ، التي كان لها وجود حقيقي ، فالسفن التي كانت تنقل حمولتها الجنونية من مدينة لأخري ، وجدت حقاً ، ولهذا فإن الحمقي كانوا يعيشون حياة التيه ، لقد كانت المدن تطردهم ليلحقوا بالبراري حيث يتيهون علي وجوههم ، وهذه ممارسة كانت سائدة خاصة في ألمانيا . . . وكثيراً ما شاهدت أوربا هذه السفن وهي تعبر الأنهار ، وعلي ظهرها عدد كبير من الحمقي » . والحمقي لم يكونوا يطردون باستمرار ، ويفترض أن الطرد كان يطال فقط المجانين الغرباء عن المدينة ، فكل مدينة كانت لاتعتني سوي بحمقاها .