د. إيهاب عبد السلام أشياء كثيرة كانت تحدث في عهد ما قبل ثورة يناير نتذكرها الآن ونبتسم لها، وذلك لما تتركه من انطباع بمفارقة عجيبة، من هذه الأشياء الاهتمام بالطفل شعرًا، فقد استجاب العديد من شعرائنا المجيدين لدعوة زوجة الرئيس السابق للاهتمام بالطفولة، وخصصت الجهات المعنية آنذاك جوائز لمبدعي أدب الأطفال شعرًا ونثرًا، فجادت القرائح بقصائد ودواوين توهم أصحابها أنها للأطفال، بينما هي عن الأطفال وليست لهم، ولا يقدح ذلك في شاعريتهم وقيمة ما أبدعوه فنياً، وإنما يقدح في مدي مناسبته لأن يكون شعرًا للأطفال يقبلون عليه ويحفظونه ويشارك في تشكيل وجدانهم وفهمهم. المهم أن هذه الإبداعات لم تستمر، وتوقفت مع توقف الدعوة إليها وانقضاء العهد السابق برمته، وهذا ما يدعو للابتسام الممتزج بالحسرة. رغم أن أغلب هذه الأشعار لم يكن للطفل أصلاً، ولم يحفظ أطفالنا منها سطرًا ولا بيتا، فقد كان هذا المناخ إيجابيا وبداية مقبولة لتحريك مياه هذا الشكل من الإبداع، لعل وعسي أن نستكمل ما بدأه روادنا العظام الراحلون وعلي رأسهم أمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر الأطفال الكبير محمد الهراوي، الذي رحل عن عالمنا عام 1939، بعدما ترك العديد من الدواوين والمسرحيات الشعرية للأطفال، جمعها الشاعر أحمد سويلم في ديوان كبير تحت اسم (محمد الهراوي شاعر الأطفال( وكان الهراوي أول من نذر موهبته خالصة لكتابة شعر الأطفال دون أن يستنكف من أن يُنْعَت بأنه شاعر أطفال، وفي رأيي أنه الرائد الحقيقي والفعلي لهذا اللون من الشعر، ولم تزل العديد من قصائده للأطفال تعيش في وجدان من تربوا عليها إلي الآن. امتزج الهراوي بالطفولة حقًّا وكتب لها صدقًا، ومن مقطوعاته الخالدة للأطفال: (هَلْ تَعْلَمُونَ تَحِيَّتِي .. عِنْدَ الحُضُورِ إلَيْكُمُ - أنَا إنْ رَأيْتُ جَمَاعَةً .. قُلْتُ السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ) لم يكتب الهراوي هذا استجابة لدعوة زوجة رئيس أو ملك، ولا رغبة في الحصول علي جائزة مادية، وإنما أبدعه استجابة لضميره الفني وموهبته الحقيقية ورغبته الصادقة في كتابة شعر ينهض بوجدان أطفالنا، فجاء بيتاه جميلين عذبين، توفر لهما من السهولة والجمال ما يجعل من يسمعهما لا يكاد ينساهما، وتضمنا أسرارًا فنية خاصة بشعر الأطفال، جعلت منهما صورة قوية معبرة؛ فقد جعلهما الشاعر علي لسان الطفل، ولم يتوجه بالخطاب إليه، بل تَقَمَّصَ شخصيته ونطق بلسانه، مما يجعل الطفل يشعر بملكيته للنص، وخصوصيته له، وقد جاء البيتان في صورة (سؤال وجواب) وسرعان ما سأل، وسرعان ما أجاب، والطفل يحب السؤال، ويتوق إلي الجواب، ولقد توجه الصغير بسؤاله إلي جماعة (هل تعلمون) أيِّ جماعة.. صغارًا كانوا أو كبارًا، وذلك يعطي الطفل الثقة والاعتزاز بالنفس، بعيدًا عن أنه الصغير الذي يحتاج إلي التوجيه، ثم نسب التحية إليه بياء الملكية، فجعلها تحيته باختياره هو وحبه، (هل تعلمون تحيتي؟) ثم جاء الجواب علي لسان الطفل مؤكدًا تحية الإسلام، وناطقًا بها بتلقائية وجمال! وفي حين كانت التفرقة الطبقية في أعلي معدلاتها وأقبح صورها في عصر الهراوي، فكان الأطفال يُنَادَوْن في بعض المدارس بمهن آبائهم، فيقال: (يا ابن النجار، يا ابن الحداد، وهكذا..) كتب الهراوي للأطفال: (أنَا فِي الصُّبْحِ تِلْمِيذٌ .. وَبَعْدَ العَصْرِ نَجَّارُ - فلي قلمٌ وقرطاسٌ .. وإزميلٌ وَمِنْشَارُ - وَعِلْمِي إنْ يَكُنْ شَرَفًا .. فَمَا في صَنْعَتِي عَارُ - فَلِلْعُلَمَاءِ مَنْزِلَةٌ .. وَلِلصُّنَّاعِ مِقْدَارُ). فهل يعود شعر الأطفال الحقيقي، فنستكمل ما بدأه هذا الرائد الكبير برغبة شعرية، دون أن ننتظر دعوة رئيس ولا حزب له أهداف سياسية؟