لماذا لا تكون هناك محاضرة تذكارية في لندن علي غرار المحاضرة السنوية التذكارية لإدوارد سعيد التي تقيمها جامعة كلومبيا- جامعة إدوارد سعيد؟ هذا ما جري تداوله بين أصدقاء ومحبي إدوارد سعيد (طبعاً بالتعاون مع أرملة الراحل مريم التي تقوم بمجهود كبير للمحافظة علي استمرارية التراث الإنساني الذي قدمه زوجها). وفي 17 أيار من هذا العام تحققت الأمنية بفضل المحبين والمقدرين لشخص وشخصية وفكر إدوارد سعيد من أمثال ميري كي وجاكلين روز وعبد المحسن قطان. اكتظت قاعة المحاضرات في المتحف البريطاني بالحضور الذي كان يسارع في شراء التذاكر للحصول علي مقعد داخل القاعة ومع هذا فقد اضطر البعض للجلوس في الممرات الجانبية. وتذكرنا هذه المناسبة بتلك المناسبات التي كان إدوارد سعيد يُدعي لإلقاء محاضرات في مختلف أرجاء بريطانيا عندما كانت تضيق أوسع القاعات بالحضور. بين الحين والآخر كنت ألقي نظرة علي القاعة قبل بداية المحاضرة عسي أن ألمح بعض المعارف أو الأصدقاء من الّذين اعتقدت أنهم مهتمين بإدوارد سعيد، لم ألمح شخصاً واحداً. طبعاً لم تخلُ القاعة من نفر من العرب من الذين يعرفون من هو إدوارد سعيد ومن الّذين لم أقابلهم من قبل. التفت إلي مريم متسائلاً: أين الإخوان العرب. كان الجواب، الله يغني إدوارد عنهم ويغنينا عن بعض. استغرقت المحاضرة زهاء ساعتين ابتدأت بتقديم مهيب تضمن لقطات من حياة إدوارد سعيد وفكره وحضوره في عالم الثقافة الكونية، ثم تبع ذلك تمهيد قدمه استيوارت هول وهو حجة في الدراسات الثقافية في المشهد الثقافي وله باع طويل في هذا المجال وكان حضوره مؤثراً ليس فقط لما يعرف عنه أنه حجة في تراث إدوارد سعيد بل لأنه كان يصعد المنصة علي عكازين بمساعدة الآخرين إذ أنه كان قد أجري عملية جراحية لم يلتئم جرحها بعد. ثم جاء دور المحاضِرة الرئيسية مارينا وارنز وهي أستاذة جامعية معروفة بغزارة إنتاجها. حلقت المحاضِرة بإدوارد سعيد في أوسع الآفاق وكشفت للجمهور عن أبعاد تجربته الفنية في ميادين مختلفة ارتادها إدوارد سعيد من عالم الاستشراق إلي ميدان الموسيقي. وقد اختارت المحاضِرة أن يكون تركيزها علي ديوان الشرق والغرب عند جوته. وفي كل مرة تتحدث عن تأثير الثقافة العربية علي الغرب في شتي الميادين تنتقل بكل يسر إلي الريادة التي حققها إدوارد سعيد في الكشف عن تفاعل الثقافتين العربية والغربية وعن مدي امتداد الثقافة العربية إلي الغرب لتكون عنصراً بنّاءاً في ثقافته. وكثيراً ما كانت المحاضرة تهيئ الفرصة للمستمع لأن يظن أن المحاضِرة هي صاحبة الريادة في الكشف عن مساهمة الثقافة الغربية لكنها سرعان ما تشير إلي دور إدوارد سعيد الريادي في الموضوع وهو دور أكدت فيه المحاضِرة أنه تعدي ميدان الاستشراق الذي عرف كثيراً بريادته له. وكأن المحاضرة كانت تهدف عمداً إلي التأكيد علي أن دور إدوارد سعيد لم ينحصر في كشف الصورة السلبية التي كونها الغرب عن الشرق العربي من خلال الصورة المشوهة التي قدمها المستشرقون عن الثقافة العربية. أي أن المحاضِرة أرادت أن تكون منصفة لإدوارد سعيد وأن تبين الجانب الإيجابي الذي اضطلع به إدوارد سعيد والذي لخصه في إحدي المناسبات بكلمتين: لنقم بالرد (write back). بينت المحاضِرة ببلاغة صادقة أن إدوارد سعيد لم يتوقف عند النظرة إلي موقف المستشرقين المعادي لتلك النظرة التي أعتقد أنها لا تكفي لتقييم موقفهم من الشرق العربي إذ علينا أن ننظر إلي ما خفي عليهم بقصد أو بدون قصد من واقع الشرق وتفاعل ثقافته مع الغرب كأنجع وسيلة لعرض موقف متكامل، لا يغفل الجانب الإيجابي، وفي هذا السياق لا بد أن نستذكر ما قاله محمود درويش تعليقاً علي القصور الناجم عن إحجام العرب عن الدفاع عن قضيتهم إذ علق قائلاً: أن اعتقادنا بأننا علي حق، وأن الحق أبلج، لا يدفعنا إلي التصدي لحقنا بل ويدعنا نتقاعس في الدفاع عنه، لكن إدوارد سعيد يعتقد أن الخطاب مع الغرب يحتاج إلي متابعة حقيقية حتي نُسمع صوتنا للآخرين. أهم ما في المحاضرة خطابها الذي يكشف عن نفسه من العنوان (Oriental Masquerade) الذي اكتسب تكثيفاً لا يسهل معه الترجمة، وفي جميع الأحوال هذه ترجمة ميسرة: "رحلة القناع الشرقي". وقد نجحت المحاضرة في تتبعها المصادر المختلفة للتراث العربي الذي أضحي حضوره ملموساً في التراث الغربي نتيجة التفاعل الثقافي بين العالمين علي مدي الزمن. ومن يتأمل المحاضرة وعنوانها يحس بوجود خطاب خفي مهيمن يقع خلف القناع ويتركب من تقاطع الأصوات المختلفة. هذا هو صوت المحاضرة يذكرنا بصوت شهرزاد جديدة وهذا هو صوت إدوارد سعيد يذكرنا بسندباد جديد رحل مع شهرزاد إلي الغرب حاملاً معه ما استطاع من كنوز الثقافة في الشرق. أكثر ما كان يخطر ببالي وأنا استمع للمحاضرة رواية الطيب الصالح موسم الهجرة إلي الشمال التي حازت علي إعجاب إدوارد سعيد أكثر من أية رواية عربية. تذكرت صيحة مصطفي سعيد وهو يمثل رحلته علي مسرح الغرب: "جئتكم غازياً" وبالمثل جعلتنا المحاضرة نتذكر إدوارد سعيد وكأنه يقول: "جئتكم راوياً". كان إدوارد سعيد يؤكد أن الرواية مثل النظرية تعيش حالة سفر مكاناً وزماناً. وفي اعتقادي أن المحاضرة توفقت في الكشف عن العلاقة بين ألف ليلة وليلة من جهة وبين إدوارد سعيد من جهة أخري؛ كلاهما يقول للغرب دعنا نلتقي علي قدم المساواة لنساهم في صناعة ثقافة كونية بعد أن كان اللقاء مواجهة بين مستعمِر ومستعمَر. ألم تكن المحاضرة تعلن ولو بطريقة غير مباشرة عن تغيير في اتجاه الريح يتمثل في ظهور ما بعد الكولونيالية التي دشنها إدوارد سعيد؟ وبعد فقد جاءت المحاضرة بقناعها المحكم رداً قوياً علي مقولة المستشرقين القدامي منهم والمحدثين من الذين اعتقدوا مثل ما اعتقد كبلنج: "أن الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا" وهي بلا شك رد بليغ علي مقولة روبرت إرون الذي كتب مؤخراً كتاباً عن الاستشراق عن إدوارد سعيد صب فيه جُلّ حقده وتحامله علي كتاب الاستشراق وصاحبه بعد أن كان قد كتب كتاباً آخر عن ألف ليلة وليلة معتقداً أن التراث العربي الإسلامي ينتمي إلي زمن مضي وانقضي وأن لا جدوي من التجسير بين العالمين أو الزمانين. وبهذه المناسبة أستذكر حدثا في أوائل السبعينات عندما كنت طالباً في الجامعات البريطانية وهو أن إضراب الصحف البريطانية في ذلك الحين أدي إلي مشروع إنشاء اللندن ريفيو إف بوكس كبديل مؤقت للملحق الأدبي لصحيفة التايمز الذي توقف عن الصدور. ونحمد الله أن البديل استمر إلي هذه اللحظة ليس فقط كبديل بل كمناهض في سياسته. هل كان لنا أن نتصور أن يقوم محرر الملحق الأدب للتمايز روبرت إرون بتنظيم محاضرة تذكارية لإدوارد سعيد، كما فعلت ماري كي محررة لندن ريفيو إف بوكس؟ شكراً للمصادفة! وشكراً خاصاً لميري كي ولجاكلين روز وللمحسن عبد المحسن قطان ونجله. الشكر أجزله لمريم سعيد.