د.مجدى جرجس "الطائفة"، "أهل الذمة"، "غير المسلمين"، هي مفاهيم خادعة أثناء دراستنا لتاريخ الأقباط في مصر، هذا ما يؤكد عليه مجدي جرجس، مدرس التاريخ بجامعة كفر الشيخ، والمحاضر بالجامعة الأمريكية باختصار، لا يمكن تعريف جماعة بشرية كاملة من الناحية الفقهية. لا يمكن تجاهل الأفراد الذين تتكون منهم الجماعة، كما أنه لا يمكن حصرهم في وضعهم الديني، وفي صلتهم بالدولة، سواء كانت إسلامية أو غيرها. لهذا ولغيره، فإن الدراسات عن الأقباط هنا تعاني من خلل كبير، عنه يحدثنا جرجس في هذا الحوار: الخلل واضح جدا في الدراسات عن تاريخ الأقباط، هل هو خلل في الرؤية العامة أم في التقنيات؟ المشكلة الأساسية في دراسة الأقباط تبدأ من المدخل. المدخل الأساسي يتم تحت عنوان دراسة "غير المسلمين" أو "أهل الذمة" في المجتمع الإسلامي، وهنا يتعلق البحث بعقود أهل الذمة ومتي طبقت ومتي لم تطبق، وهذا معناه أن الحديث محصور في العلاقة بين الدولة بالطائفة، وليس أي شيء آخر. أو يصبح الحديث عن المتحولين دينيا. الكتاب الوحيد الذي حمل عنوان "الأقباط" وليس "أهل الذمة" هو كتاب المؤرخ محمد عفيفي عن تاريخ الأقباط في العصر العثماني، والذي كان يميل بعض الشيء للتاريخ المؤسسي برغم استخدامه لمصادر جديدة. هذا يعني أنه منذ العنوان فإن الباحث يقوم بتحديد الإطار الذي سيدرس من خلاله وضع الأقباط، وهو الإطار القانوني، (يصمت)، أو الإطار الشرعي. هنا يتداخل عمل الفقيه مع عمل المؤرخ بالمناسبة. هذا المدخل الضيق لدراسة الأقباط، هل هو مقصور علي الدراسات التي تتم في مصر؟ لا. يبدو أنها مشكلة عالمية. أتساءل هنا: هل مازال الاستشراق مؤثراً لدي دراسة تاريخ الأقباط!؟ حضرت مؤتمرا في إسطنبول كان عنوانه "كيفية تناول وضع غير المسلمين في العصر العثماني"، أي أن هذا لا يحدث في مصر فحسب. الاستشراق التقليدي يؤكد أن المجتمع الإسلامي لن يتم فهمه سوي من خلال نصوصه الفقهية. ولذا، فحتي لو ظهرت نتائج معاملة غير المسلم علي غير ما تنص عليه النصوص الفقهية المعروفة فإن الباحث يتساءل تلقائياً: ما الذي حدث في التشريع حتي يحدث هذا التغير!؟ أي أنه يعود ليسائل النصوص الفقهية، ولا يسائل الواقع الاجتماعي. أعتقد أن مشكلة الوثائق تزيد الأزمة تعقيدا؟ نعم، المشكلة الأخري هي أن المصادر القبطية نفسها هي منتج مؤسسي، تابع للكنيسة، وهي تتعلق بالقوانين والطقوس أو الكتب المقدسة ورجال الدين، وهذا مع بعض الاستثناءات. أذكر أن يوسف راغب وجد مثلا مجموعات لأرشيفات أسر قبطية، وجون ميشيل موتوه عثر علي أرشيف أسرة قبطية عاشت بالقرن العاشر بقرية دوموه بالفيوم. الوثائق في غالبيتها هي إما وثائق دولة أو وثائق كنسية تعبر عن وظائف الكنيسة. ولكن الوضع تغير مع نهاية العصر الأيوبي، حينما بدأ رجال الكنيسة يكتبون عن مواضيع حياتية، . وهناك ساويرس ابن المقفع أيضاً، والذي عاش في أواخر القرن العاشر، وهو أول شخص معروف في الكنيسة يكتب بالعربية. يقول أن القبطي يسمع في الكنيسة كلمات بالقبطية لا يفهمها، كما يشير إلي إشكالية أخطر، يقول أن الحديث عن عقيدة التثليث لم يعد مفهوما في حياة الأقباط، لأن الأقباط اعتادوا يومها علي كلمات مثل "الله"، "الفرد"، "الصمد". من هذه المصادر نفهم كيف تم "تعريب" الإقباط، وإدماجهم في المجتمع الواسع. يبدو لي أن تقسيم التاريخ القبطي يعاني من خلل أيضاً. التاريخ المسمي بالقبطي ينقسم إلي فترتين معتمدتين، الأولي هي قبل الفتح العربي، والثانية هي في القرنين التاسع عشر والعشرين. أما ما بين ذلك فليس هناك مصادر تشير إليه، تاريخ البطاركة الرسمي مثلا يغطي الفترة ما بين القرن الرابع عشر وحتي نهاية القرن التاسع عشر فيما يقل عن ثلاثين صفحة. لو أعدنا كتابة تاريخ الأقباط فلن نستطيع الحديث إلا عن الستة القرون الأولي بعد المسيحية وقبل الفتح العربي. وهذه مشكلة عالمية، ففي كل جامعات العالم هذا هو مفهوم كلمة "كبتولوجي"، يتوقف تاريخ الأقباط عند القرن السابع. يجب علي هذا أن ينتهي والبداية لابد أن تحدث من مصر، (بسخرية) علي شخص ما أن يؤكد أن الأقباط لم يموتوا بعد الفتح العربي. التاريخ القبطي غائب أيضا عن المناهج التعليمية بالمدارس والجامعات؟ لست مع مسمي "التاريخ القبطي". تاريخنا كان دائما تاريخاً سياسياً، ولذا فأسماء الحقب كانت منسوبة للحكام، مثل العصر العباسي والفاطمي، وليست منسوبة للدين. علي أي اعتبار سأطلق علي فترة ما اسم "العصر القبطي"، هل لأن الأقباط حكموا مصر؟ هذا لم يحدث. هل هناك بداية ونهاية للعصر القبطي؟ الأقباط كانوا موجودين قبل الفتح العربي وظلوا موجودين بعده. أري أن المطالبة بتحديد فترة قبطية هي مطالبة غير منطقية. تعني أنه لم تكن هناك "خصوصية قبطية" في أية مرحلة من المراحل التاريخية؟ حدث هذا لفترة قصيرة، منذ القرن الثالث فصاعدا كانت ذروة سلطة الكنيسة المصرية، وخلال هذا كانت اللغة المستخدمة هي اليونانية وليست القبطية، آباء الكنيسة القبطية كانوا يكتبون باليونانية. أول من كتب بالقبطية هو شنودة الإخميمي، وهو بالمناسبة صاحب تسمية "الكنيسة القبطية" بعد النصف الثاني من القرن الخامس. بعد المجمع الخلقدوني وانشقاق الكنيسة المصرية فكرت في خصوصية ما لها، وحاولت فصل الأقباط عن اللغة اليونانية، وبالتالي قامت بتغيير أسماء القري، حولتها من اليونانية إلي أسمائها الفرعونية القديمة، و استعملت نفس الألحان الفرعونية القديمة في إطار مسيحي. لحن البهنسة مثلا كان موجودا في بردية فرعونية قديمة، اللحن يشمل رثاء حزينا في البداية للملك الفرعوني المعزول ثم فقرات فرحة بالملك الجديد، أخذت الكنيسة المصرية هذا اللحن وأطلقت عليه اسم "لحن الجلجثة"، وجعلت فقرته الأولي حزنا لصلب المسيح، وفقرته الثانية فرحا بقيامته. هكذا قامت بتطويع الدين القديم لصالحها. هذه هي الفترة التي يمكن القول فيها بوجود خصوصية قبطية ما"، وتمتد من 451 م وحتي الفتح العربي. في كل حقل معرفي، ثمة مفاهيم خطرة، ما هي المفاهيم التي أدت برأيك إلي تدهور الدراسات عن الأقباط؟ مفهوم "الطائفة" هو مفهوم خطر جدا لدي تناول الأقباط، منذ بداية عملي كان واضحا بالنسبة لي أن الطائفة هو مصطلح مؤسسي، يقوم باستبعاد الفلاح القبطي وقطاعات عريضة أخري غير مندرجة في الطائفة. الدولة العثمانية أيضاً تعاملت مع الأقباط في القرن الثامن عشر باعتبارهم طائفة غير دينية، حيث برز فيها أناس من غير رجال الدين مثل يوحنا المصري، نيروز نوار، منقريوس ديك أبيض، والمعلم رزق وإبراهيم ثم جرجس جوهري. أقوم أيضا بنقد مفهوم "أهل الذمة". 80٪ من المسيحيين لا يندرجون تحت مسمي أهل الذمة. لدينا دلائل مؤكدة علي أن الفلاح القبطي لم يكن يدفع الجزية، وكان غير واع أصلا بوجود مؤسسة دينية مسيحية. يختلف الوضع إذن بين المدن والريف؟ بالطبع. أذكر أنه حتي ثمانينيات القرن العشرين كان إذا طلب من الفلاح القبطي في بعض القري أن يقرأ "أبانا الذي في السماوات" كان يقرأ "الفاتحة" باعتبارها جزءا من دينه. قد يكون هذا ناتجا عن عدم وعي بالاختلاف الديني، أو ناتجا عن التسامح، لا أعرف السبب بالضبط. الدولة العثمانية مثلا كانت لديها نصوص تضع أهل الذمة في قاع المجتمع، ولكن هذه النصوص غير قابلة للتطبيق سوي في المدن، وتختفي في القري. في القاهرة كان لابد أن يكون اسم المسيحي مسبوقا بوصف "الذمي"، ولكن هذا غير موجود خارج القاهرة. إبراهيم جوهري مثلا هو شخصية قبطية مهمة جدا، ولكنه يأتي في المحكمة بالقاهرة تاليا لزميله المسلم لأنه قبطي. بينما خارج القاهرة يتم تحديد الوضع علي حسب أهمية الشخص في المجتمع، لا علي حسب دينه. المشكلة هنا أن الباحثين يدرسون النتائج التي توصلوا إليها علي المدينة ويقومون بتعميمها علي الريف.