موعد الاجتماع في السادسة. وصلت إلي المحل قبل جمعة. سأراجع قائمة الأسماء الجديدة المقترحة ريثما يصل. جمعة صديقي منذ أيام الدراسة، أحبُّ فيه طيبة قلبه، وابتسامته الهادئة التي لا تفارق محياه. قبل ثلاثة أشهر، وبينما كنا نلعب الورق مع الربع في جلسة الديوانية المسائية اليومية، ووسط صراخهم، همس بي: "عندي مشروع جديد". "مبروك مقدماً". قلت ممازحاً، فلمحتُ علي وجهه نظرة توزعت بين الرجاء والجد. انسحبت من لعب الورق، وانتحيت به جانباً، فقال: "أنت موظف حكومي وربما تفهم في الأمر أكثر مني". شعرتُ بجديته، بثّني: "عزمت علي فتح محل، وأودّ أن تكون شريكي". "أنا موافق دون أي قيد أو شرط". سبق قلبي لساني في الموافقة: "توكلنا علي الله". ردد هو وقد نثر الرضا علي وجهه ابتسامة طيبة، وقال: "غداً أبدأ المعاملة الرسمية في استخراج الرخص".
في تلك الليلة، لحظة بدأ جمعة بشرح فكرته، تحمست لها أكثر منه: "سنفتتح محلاً لشراء وبيع ابتسامات المسئولين والمشاهير". تكلم بهدوئه المعهود، ورحت أصغي: "لا أحد يبتسم لوجه الله. الجميع يركض وراء ابتسامة المسئول الغالية، كلٌ يريدها لسبب يخصه". أشرت إليه استوقفه لثوان، فأنا بحكم عملي شهدتُ مواقف كثيرة، وعايشت أنواع الابتسامات، وخبرتُ جيداً كيف يتحمل البعض التعب والانتظار والضيق لحضور مناسبة أو ندوة أو معرض، لا لشيء إلا ليري المسؤول وجوههم، وقد يتكرم برمي جزء من ابتسامة عليهم. أفصح جمعة: "ابتسامة المسئول غالية، ونحن سنوصلها إلي الزبائن الراغبين فيها ونأخذ عمولتنا". طافت ابتسامة أعرفها علي وجهه وهو يقول: "كثيرون يكرهون المسئولين، وربما تمنوا زوالهم، لكنهم يحسبون ألف حساب للفوز بابتسامة منهم". "اتفقنا". بحثنا في الأيام التالية بهمةٍ عن محل مناسب. ولقد اشترطت عليه، أن يكون في مجمع تجاري راق، وأن تكون الديكورات فخمة، و"الكاتلوج" مدروساً، وأخيراً ترتيب الدعاية ليكون حفل الافتتاح حدثاً اجتماعياً مدوياً. بعد أن عثرنا علي المحل ودفعنا الخلو المطلوب، اتفقنا مع مكتب هندسي لعمل الديكورات المبتكرة. وبغية استغلال الوقت، وبالتنسيق مع شركة أمريكية عالمية عبر موقعها الإلكتروني، بدأنا بتجهيز الكتالوج بأكثر من لغة، ورحنا نضع الشروح والمواصفات والتصنيفات والأسعار والصور الخاصة ببضاعتنا، وبما يتناسب مع مكانة ونفوذ صاحب الابتسامة، وحاجة وطلب كل زبون.
لا أظن جمعة يتأخر. البارحة أكد لي علي الموعد، وأضاف: "سأحضر أسماء جديدة". مساء الافتتاح، حرصت أن أكون متواجداً قبل الموعد بثلاث ساعات، وكان جمعة قد صبغ شعر رأسه وشاربيه، وارتدي "البشت" للظهور بالمظهر الرسمي، بينما لبستْ فتيات المحل الزي الرسمي الخاص بهن. يومها كنتُ مشغولاً في التأكد من كل صغيرة وكبيرة: وصول بوكيهات الورد، توزيع الإضاءة بالشكل الأمثل، مكان المباخر، ترتيب البوفيه مع مسئول الفندق المختص، وأخيراً خروجي أنا وجمعة وإحدي الفتيات الجميلات للانتظار عند بوابة المجمع الخارجية، لنكون في استقبال موكب سعادة المسئول الذي تفضل بتشريف دعوة الافتتاح، وقبول عرض المحل لتسويق ابتسامته الآسرة.
أفكّر بتطوير خطة عمل المحل، واستضافة أسماء مشهورة لفنانين عرب وعالميين. خلال حفل الافتتاح، وبالإضافة لكاميرات المحل التي تعمل أوتوماتيكياً في مختلف درجات الإضاءة، جهّزت فتيات المحل بكاميرات مفرطة الحساسية، ونشرتهن في كل زاوية، وذلك لمراقبة واصطياد كل من يكشف عن أسنانه، طمعاً في اقتناص ابتسامة من سعادة المسؤول، بغية تحميله تكلفتها، حسب التسعيرة، فلا شيء لوجه الله. بدأ الحفل بوصول نساء ورجال الصحافة وصغار الموظفين ثم بعض المسئولين الحكوميين فرجالات الدولة والوكلاء والسفراء، ومدير مكتب سعادة المسئول. أذكر أن الجو كان مليئا بالابتسامات المجانية علي أنواعها، مع تداخل أنغام الموسيقي ببعض الهمس، واختلاط روائح المدعوات بعبير الورد ودخان البخور. غصّت القاعة بالحضور المخملي والرسمي، وما إن وصل موكب سعادة المسئول يحيط به طاقم مكتبه، وتسبقه ابتسامته الآسرة المتفق عليها، حتي دبت في المكان روح خفية. أسرع البعض متدافعاً للسلام عليه، وقد كشف عن أسنان لامعة. ولبس البعض وجوهاً جديدة باسمة، وأطلَّ بعض آخر برقابهم ملوّحين بابتساماتهم وتحياتهم: "مسّاك الله بالخير يا طويل العمر". انتقل آخرون إلي زوايا جديدة، في مرمي ابتسامة سعادة المسئول. بدا الجميع منشغلاً في اصطياد ابتسامة كان الإعلان عنها كفيلاً بجذب عشرات المشترين. ولحظتها بدأت كاميرات المحل بالتقاط صور وجوه الباحثين عن ابتسامة سعادة المسئول، ولم تتوقف. أسمع خطوات جمعة، سأنهض لاستقباله.