بنهج مثابر رصين ينجح القاص »عادل العجيمي« (المولود عام 1972) في أن يفسح لتجربته القصصية موقعاً ملحوظاً في المشهد القصصي الجديد حيث يضمن رؤيته القصصية الطازجة بحمولات فكرية عميقة لم تكن يوماً فيما أري عبئاً زائداً علي جماليات العملية السردية او حائلاً صلداً يعيق تدفقها العفوي. لكنها جعلت من تجربته السردية في جملتها مجالاً للتأمل الفلسفي. وتبرز هذه السمة، بقوة ومضاء ، حين يتخفف الراوي من قيود الواقع اليومي أو يزيحها بالكلية منقاداً لمحرضات اللاوعي ليجوس في العوالم الداخلية للشخوص يفضح دخيلتها بنزق ويعريها بجنون ممعناً في توظيف ما يطلق عليه في علم السرديات »الكتابة الآلية« Automatic Writing« وهي التقنية التي يجيدها »العجيمي« ببراعة بادية إذ يدفع الراوي لينساب، بحرية مطلقة، مع شلال اللاوعي والأخيلة الداخلية المنهمرة ، بجنونها المهاتر المكتسح . وقد تجذرت هذه السمات الجمالية الفارقة منذ البداية في تجاربه المبكرة التي أتيح لي أن أناقش إحداها في بعض الأماسي، وخصوصاً مجموعته القصصية : »رقصة في الهواء الطلق« ( 2009)، فضلاً عن مجموعتيه القصصيتين : »لوحات زجاجية لعدة رجال« (2003)، و »أفق يحتضن الصدي« (2006). وتقف مجموعاته القصصية ، إجمالاً ، مسرحاً لما أطلق عليه ميخائيل باختين »التفاعل البوليفوني« »Polyphonic interplay« حيث تحتك الرؤي والشخوص والأصوات والمناظير لخلق عوالم مركبة متداخلة تتسم بالدينامية والتفاعل . وتلعب الأنساق الرمزية دوراً محورياً في تشكيل الدلالة حين تصل تفاعلات السرد إلي أقصي مداها علي النحو الذي نأنسه في مجموعة »رقصة في الهواء الطلق«. وهي تتشكل في مجموعها من ثماني عشرة قصة. ففي قصة »ألم خاص« تغدو صورة الجد المعلقة علي الحائط والتي لا يكف الحفيد عن تنظيفها، رمزاً للميراث التليد الذي يتبدد وحين تهوي الصورة وتتحطم تصبح الشخوص نبتاً ممسوخاً بلا ماضٍ، حيث يصرخ الراوي مالت الصورة .. هوت .. هويت (ص21) وقد يمعن الراوي في التباسط إلي حد إسقاط الحائط الرابع والاستدارة لمخاطبة المتلقي مباشرة بإيقاف الصيرورة السردية علي نحو ما حدث في قصة »صداع مفاجيء«، حيث افتضحت لعبة التلقي عن عمد. وقد ترتقي التشكيلات الرمزية ذروتها كما في قصة »رقصة في الهواء الطلق«، حيث يصبح صعود عامل البناء بقصعة الأسمنت علي السقالة وهو يستعيد زهوة العشق نسقاً رمزياً يناور فكرة العروج إلي السماء أو التسامي في الملأ العلوي فتضحي عملية الصعود معراجاً يقتنص القيم العليا ويشمخ إليها . وهو ما نجده، بظلاله، في قصة »ربوة الحلم« حيث يجتهد العاشقان في صعود الربوة بالمنطق المعراجي نفسه . ولا تبعد بنا قصة »لم يستيقظ« عن فكرة المعراج الرمزية، حيث يعبر الراوي إلي الضفة الأخري من النهر متحملاً لدغات التماسيح! وحين أهداني »العجيمي « مجموعتيه الجديدتين وثقت ، بغير شكوك ، أن أدواتها القصصية قد بلغت مبلغاً من النضج الفني يجسد بالفعل بشارات جيل لا حد لطموحه ففي مجموعته »وجوه من الحلم الجميل« (2013) يستدعي بمعالجة عصرية فكرة اللوحة القلمية التي عالجها اليوناني »ثيوفراسطوس« قديماً في كتابة »شخصيات« وفي مجموعته القصصية »حبات التوت« ( صفصافة 2011 ) يطور ما يسمي ب»قصة الومضة« مضيفاً لمساته الدالة . وأخيراً يبقي السؤال : هل تسرّع بعض نقادنا، بالفعل ، حين اندفعوا يتحدثون عن موت القصة القصيرة ، برعونة ودون مراجعات؟!