استقطار التجربة الثرية.. واستعادة الخبرة الحياتية.. و استحضار الرؤية الشاملة التي تجمع بين الذاتي والموضوعي.. هي محاور هذا اللقاء مع الروائي رؤوف مسعد، الذي اشتعل من ضوء روايته (غواية الوصال) مرورا بسردياته : بيضة النعامة، ومزاج التماسيح، ليوسع مرآته في احتواء اللحظة الراهن برؤيته الآدبية ، ويحركها بين ومضات من الماضي ونظرات الي الحاضر، وتحديقات في المستقبل.. الواقع والمتخيل هو صلب «بيضة النعامة» وهي أيضا رواية البحث عن الذات..فهل مازال مأزق الثقافة العربية ماثلا في فخ الواقع والمتخيل؟ - اعتقد ان «مأزق « الثقافة العربية هو اعمق من ذلك بكثير فالثقافة اية ثقافة هي نتاج ديناميكة المجتمع وخبراته الجمعية ؛ كما انها في الوقت ذاته محرك ديناميكي باتجاه »التقدم « حتي لو كان ذلك التقدم الذي يطلق عليه ابن خلدون «التقدم العمراني »وهو بالطبع يعني ما نشير اليه هنا في ايامنا المعاصرة « بالمجتمع المدني « ، ان تعبير civil society هوتعبير مضاد للمجتمع الريفي وكلمة citizen المشتقة من City تؤكد ان المواطن له علاقة بالمدنية اي ان اصطلاح مواطنة هو اصطلاح حضاري بالدرجة الأولي قبل ان يكون سياسيا . ولكن ماهو مأزق الثقافة العربية تحديدا؟ هنا مكمن المأزق الثقافي العربي ، الذي تمتد جذوره الي ما أطلق عليه الاسلام الجاهلية وما كان طه حسين يريد ان يعيد تعريف صياغته ..وحدث له ما حدث من تكفير ..لأن التقسيم الثقافي جاهلي واسلامي؛ تحول الي يقين لايمكن المساس به ..مثلما تحولت اللغة العربية من وسيلة تعبير ؛ إلي اداة مقدسة .والثقافة اية ثقافة هي رؤية جماعة بشرية محددة للكون ».للطبيعة وما وراء الطبيعة ..للواقع وللغيبيات ..للحياة والموت وما بعد الموت .. والتي «تعبرّ»عن نفسها بالدين وطقوسه ،وبالإبداع البشري المتنوع من تجريد (موسيقي ) ورسم وتماثيل تريد تقريب وانسنة ما وراء الطبيعة الي العقل البشري ، والقص بانواعه باستخدام اللغة لتأسيس التواصل البشري والخبرة الانسانية ومحاولة شرح العلاقة الملتبسة بين الألهة والبشر كما في التراجيديات اليونانية حيث يتواصل الصراع بين ما هو مقدس وما هو دينيوي . وكيف تتطور الثقافة من هذا المنظور الذي طرحته؟ - بالتطور الجدلي ديناميكي المتواصل للعلاقات الاجتماعية ، تتطور الثقافة في حركة متواصلة ، مثل حركات المد والجذر ومثل تحركات مجار الانهار .. ولم تأت هذه الثقافة وتطوراتها - من فراغ بل من تراكم الخبرة الجمعية والذاكرة الجمعية لهذه الجماعة .. تكون اللغة هي الاداة الرئيسية للتعبير عن هذه الثقافة , ومثلما تصعد الإمبراطوريات وتنهار .. تصعد الجماعات البشرية ..وتنهار ايضا ويكون صعودها وانهيارها «ثقافيا « مثل ما حدث للإمبراطورية الرومانية وما سبقها وما لحقها من امبراطوريات .. لكن ثمة ثقافات تستطيع ان تجدد نفسها مثل العنقاء وهذا ما حدث للثقافة اللاتينية الغربية وبدأ التجديد عبر اللغة ؛ ثم عبر الدين ثم فك الاتباط بين المقدس والدينيوي ..وبالتالي فتح العقل امام قبول الاكتشفات العلمية مثل ان الارض ليست هي مركز الكون كما كانت الكنيسة تؤمن وتبشر بذلك وتعاقب من يخالف ذلك، وان الأرض بالتالي ، والبشر الذين يقطنون عليها ..مجرد جزء صغير في حركة كونية دائبة ومتواصة لا نملك لانفسنا فيها خيارا!! ذلك يجرنا للسؤال عن مدي نجاح أو فشل الثقافة العربية والمصرية في هذا؟ - الثقافة العربية والمصرية تحديدا ، لم تستطع ان تقطع الحبل السري بين المقدس وبين الدينيوي بل اعلنت عبر المقدس اي عبر فقيه ديني هو الامام الشافعي اغلاق باب الاجتهاد حيث كان الاجتهاد الديني هو الاساس المعرفي المتواصل الحي للتفسير والتأويل .. اي إعمال العقل لا النقل كما كان الدارسون يقولون ويبشرون ! لقد مرت الثقافة الغربية بفترات »ظلامية « ايضا وتحريمية ..حيث حرمّت عبر المقدس أي الكنيسة والكهنة التفكير في العلاقة الملتبسة بين انسنة المسيح وتأليهه .. وقامت حروب بسبب ذلك: حروب دينية تريد الاطراف المتقاتلة اثبات مقولاتها بحد السيف (!) ولم تنج الثقافة الغربية من مأزقها هذا الا بتصاعد انجازات البحوث العلمية والتي كان معظمها مصدره الأديرة والرهبان انفسهم ومدارسهم وكتبهم والترجمات التي حصلوا عليها من العصر العباسي حول الفلسفة اليونانية وحول علوم الحساب والرياضيات التي برع فيها مواطنو الثقافة الاسلامية ؛التي كانت آنذاك تسمح بل وترعي التعددية الثقافية. في خضم كل ماطرحته أين يوجد الكاتب رؤوف مسعد؟ - اعتبر نفسي من مدرسة تؤمن بترابط كل الاشياء بشكل جدلي , اساسها المقولة الاغريقية الشهيرة انت لا تنزل النهر الواحد مرتين فانا لا استطيع ان افصل ما بين التدهور الاخلاقي مثلا- لجزء من المصريين الذكور الذين يتحرشون علانية بالإناث جنسيا باللفظ والفعل ،عن الرؤية الاجتماعية المتدنية للفرد بشكل عام والأنثي بشكل خاص ، تلك التي تفرزها الثقافات الشمولية. لا يمكن لنا القول بأن الروائي رؤوف مسعد يغوص في فلسفة اللامنتمي؟ وماذا تعني لك إبداعيا تلك الفلسفة؟ - علي العكس تماما انا منتمي الي اقصي درجات الانتماء، لكن بدون تعصب ..انا منتمي اساسا إلي ذاتي فإذا كنت قد بلغت الان نهاية الخامسة والسبعين من عمري عبر حياة نشطة سياسيا إلي حد ما منذ ان كنت في حوالي الثامنة عشر من عمري.. ثم الدراسة والتجوال من بلاد تشيل وبلاد تحط ..وتعاملت صحفيا مع قادة وزعماء نبلاء وآخرين معتوهين مثل منجستو هيللا ماريام .. لأتأكد دائما ان اختياراتي السياسية المبدأية بما نطلق عليه حركة الجماهير هو مبدأي الذي لم أحد عنه حتي الآن (!) بالرغم من مراجعاتي الشخصية لما رايته وعشته فعليا في المعسكر الاشتراكي بان الحرية والخبز لا يمكن فصلهما تحت اية دعاو اوحجج تقول ان الاعداء يقفون متربصين وعلينا ان نبني جدارا بيننا وبينهم( جدار برلين ) وتكون النتيجة معروفة بعد ذلك للجميع .. انتمائي الديني هو بالأساس ثقافي لأن تربيتي الدينية جاءت من والدي القسيس البروتستنتي الذي كان يسمح لي ان اقرا من كتبه الأخري اللادينية مثل جزيرة الكنز وروبنسن كروزو ومجلة المختار من ريدرز دايجيست (ايامها ) ثم خالاتي اللاتي كشفن لي كنوز الف ليلة وليلة في حكاياتهن التي كن يحكينها لي قبل النوم .. فالشاطر حسن كان بالنسبة لي ايام الصبا مثل القديسين المسيحيين الذين كانوا يجوبون الارض يبشرون ويتعرضون للعنت بسبب ذلك .. ذلك يستدرجنا عن كتاباتك الأولي؟ - كتاباتي الاولي كانت عن السد العالي ؛ صحافيا وابداعيا مسرحيا .. لكني كنت وما ازال انزع دائما الي السيريالية في كتاباتي مستخدما خيالي الجامح في اقامة جسر بين الآن والماوراء هذا الآن .. فجزء اساسي من ثقافتي هو فرعوني يربط بين الآن والماوراء ..مثل اسطورة ايزيس وبحثها عن جسد اوزير الممزق مستعينة بالسحر لتبث الروح فيه مرة اخري ..الفرعونية كثقافة وديانة تثير فيّ اهتماما بالغا بهذه البقعة من الأرض (مصر ) وبناسها .. فانا ايضا انتمي الي صعيد مصر وهو موطن اسلافي من الوالدين ..والصعيد هو «خلاصة « مصر.. يقودك الي خلاصة اخري هي النيل ، الذي يقودك الي منابعه اذا ابحرت عكس التيار ..كما فعلت انا في صباي وشبابي .. حيث كانت الاسرة تقيم في السودان حيث وُلدت .. ثم قضيت سنوات مراهقتي في «كلية اسيوطالامريكية « في قسمها الداخلي ، اصعد في النيل كل صيف لاقضي العطلة مع اهلي في السودان ،ثم اهبط فيه راجعا لأتعلم في مصر.. لذا اصبح السودان بالنسبة لي في تلك المرحلة من العمر موطني الاصلي .. اتكلم كما يتحدث ابناؤه .. وحينما استقر بنا ألأمر في مصر لم احبب البلد الذي كان اهله يسخرون من طريقة كلامي ( خاصة اني كنت مُصابا بالتهتة والتمتمة ) لكني اكتشفت ان مصر ليست «ناسها « فقط الذين يقطنونها الآن بل هي مكان خاص وعبقري ( كما يقول جمال حمدان ) وان جزء هام من تاريخي الشخصي وتاريخ اسلافي وديانتي هو جزء ايضا من مصر (!) وتجد في كل اعمالي شخصيات لها علاقة بالسودان ولها علاقة ايضا بالمسيحية انتماءاتي متعددة .. فأنا نتاج الفرعونية والمسيحية المصرية والهلينية المتمصرة والاسلام المصري والحضارة الافريقية التي تجولت فعليا في ربوعها الواسعة، وتجد هذا في رؤيتي للكون ايضا . بحكم إقامتك الدائمة بخارج مصر هل أصبح الآخر معكوسا بمعني هل أصبح الواقع المصري- العربي هو الآخر..أم مازال الآخر هو الغربي، وإذا كان فكيف تراه الآن؟ - هذا سؤال ملتبس ومحير وصعب وقد قرأت لأمين معلوف مؤخرا حوارا مع عبده وازن يناقش فيه الخارج والداخل فمعلوف يفكر ويكتب بالفرنسية، بينما انا لا استطيع التفكير والكتابة الا بالعربية ..ليس تعصبا مني لكن عن قلة حيلة (!) ففي الغرب يوجد كتاّب قدموا من الشرقين الاقصي والادني يكتبون في الأغلب بلغة الدولة الغربية التي استوطنوا فيها .. لكني لم استطع ذلك وحقيقة لم اهتم كثيرا بذلك ايضا .. لأني اكتب اساسا للاستمتاع بانجاز شيئا ما ، لأني كنت أعاني دائما من الاحساس بعدم الاكتمال ان جاز التعبير فانا أعيش بين نقيضين : رغبتي في الاكتمال ، وإحساسي بعدم امكانية تحقيق ذلك لنقص في أنا شخصيا ( قد يكون ذلك نتاج البروتستنتية التي لا تؤمن بجدوي الافعال الطيبة بقدرايمانها بتحقيق هذه الافعال مهما كانت النائج ) بالتالي استقر الأمر بي ان اعيش حياتين متلازمتين مثل التوائم السيامية .. فانا احيانا «احلم « في مناماتي بلغات متعددة منها البولندية التي تعلمتها لأدرس المسرح هناك .. استيقظ وسط النوم حائرا « اين انا الان؟» ولما اجد ان الاجابة علي سؤالك صعبة ان اردتُ ان اكون دقيقا فسوف اقول بصدق اني لا أعرف ! فقد اشار كاتب صديق لي مصري بأني خلال كل هذه السنوات لم اكتب رواية عن الغرب واشارته صحيحة ايضا .. اما السبب فقد حاولت ان اعرفه وان اصل اليه لكن ..حينما سألت زوجتي الهولندية عن تفسيرها لذلك اجابت بجدية لأنك غير مهتم الا بما تشعر به وليس بماهو مفترض ان تشعر به واكتفيت راضيا بهذه الاجابة من شخص خبير بدواخيلي !! كيف تري الوضع الثقافي الراهن؟ صعب تقييمه لانه في حالة مخاض عسير وولادة اصعب وسيبقي هكذا لفترة طويلة..خاصة نحن في عصر الفيسبوك وثقافة الفيسبوك المتعجلة وتيوتر التي تعتمد علي التغريدات القصيرة ..مصر كلها والشرق الاوسط في مخاض عسير ، وهذا يؤثر بدون شك سلبا علي الثقافة بشكل اكبر من الايجابيات