تثير سلسلة حوارات التاريخ، التي أجراها الزميل نائل الطوخي وبدأنا نشرها من العدد السابق، مأزق البحث التاريخي في مصر. ومن عجب أننا كلما تلفتنا حولنا اصطدمنا بمأزق ثقافي مختلف، وكارثة من كوارث تبديد رأس المال الرمزي لهذا البلد، لكن الكوارث علي تنوعها تنبع من حزمة واحدة من المشكلات النتشابهة، وأساسها ناتج دائمًا إما عن اقتران المسئولية بالجهل، أو اقترانها بعدم الإخلاص، وإما عن تدخل جهات متعددة في الشأن الثقافي، يتصرف بعضها باطمئنان وعنطزة كما لو كنا وحدنا في هذا العالم، أو كما لو كان ما نمتلكه عجبة لا يملكها غيرنا! وهذا بالتحديد هو مأزق الوثيقة في مصر، وهي روح البحث التاريخي. ومن الطبيعي أن تكون مصر، بعراقة حداثتها من أوائل الدول التي تتمتع بوثائق تاريخية عنها وعن منطقتها وتشابكات التاريخ العربي مع التركي خلال الفترة العثمانية. وكان حكام مصر علي وعي بأهمية "الدفترخانة" بالقلعة، التي نقل الملك فؤاد جزءاً من وثائقها لقصر عابدين وسمح للباحثين بالاطلاع عليها، حتي كان إنشاء دار الوثائق عام 1945 بموجب قانون لم يزل يحكمها حتي اليوم. وكانت نواتها المجموعة الملكية ثم أضيفت مجموعات أخري، حتي بلغ ما تملكه مصر الآن مائة مليون وثيقة، مفهرسة جيداً بشهادة باحث مرموق مثل خالد فهمي، الذي قال لي إن الفهرسة التي تمت بإشراف الدكتور فتحي صالح بموجب بروتوكول بين وزارتي الثقافة والاتصالات وضعت الوثائق المصرية في قلب العصر الحديث، صيانة وأرشفة إلكترونية وقواعد بيانات بمداخل متعددة، حيث يمكن البحث بالأسماء وبالموضوعات وبالتقسيم الإداري. وبعد هذا الجهد الذي تكلف عشرين مليونًا من الجنيهات (هي بالمناسبة أقل من ميزانية مؤتمر يبدأ وينتهي بلا مجد) أصبح البحث عن وثيقة يستغرق دقائق بدلاً من الأيام والأشهر التي كان علي الباحث أن ينفقها بحثًا عن ذات الوثيقة، ولكن! ودائمًا ما توجد هذه "ال لكن" في ثقافة مهملة ومتروكة لفوضاها في أيدي غير المؤمنين بها. يوجد أولاً القرار الذي يحدد إقامة الباحث في ثلاث وحدات أرشيفية فقط من بين ألف وحدة أرشيفية تضمها الدار، والأغرب أنه من غير المسموح للباحث استعراض قاعدة البيانات إلا بعد الموافقة الأمنية التي قد تستغرق عدة أشهر وقد لا تأتي أبدًا. ومهما قيل عن مبررات هذا الشرط، فإنه يشبه الإصرار علي فرض الرقابة علي أفلام الأجانب الذين يطلبون التصوير في مصر، فكلاهما ينطلق من رؤية تتصور أن ما عندنا ليس عند الآخرين، وأننا لو اعترضنا علي واقعة تاريخية في فيلم أمريكي سيجعل المخرج يتنازل عن رؤيته. ولكن الذي حدث أن المخرجين بحثوا لأفلامهم عن أماكن تصوير مشابهة للأماكن المصرية. في الوثائق أيضًا لسنا وحدنا في العالم ولا في المنطقة، ومن لا يمتلك الوثيقة علي استعداد لاختلاقها، ومن يري أرشيفنا مغلقًا أو صعب الدخول صسيطرب ويفتح أبواب أرشيفاته للباحثين. هذه التعقيدات المفروضة علي استخدام الوثائق المصرية ستدفع الباحثين إلي أرشيفات تركيا وإسرائيل، وهذه الأخيرة هي الأخطر، في ظل صراعها معنا علي الوجود، وتستخدم فيه كل شيء من الأسلحة المحرمة دوليًا إلي الأساطير الدينية. وإذا كانوا يتحرشون في القدس بتاريخ من الحجر؛ فلن يصعب عليهم اختراع الوثيقة التاريخية. وحقيقة لا أعرف إلي من يمكن أن نتوجه بهذا التحذير، ومن يمكن أن يمتلك الرغبة والقدرة علي رفع الحصار عن الوثائق التاريخية المصرية، لصالح المستقبل. لابد أن هناك شخصًا ما. ezzat_elkamhawi @yahoo .com