يتناول هذا المقال بالدّرس موضوعا قديما جديدا وهو نظرة المجتمع إلي المثقف، كما يتنزل في إطار الجدل الذي أمسي حاضرا في المشهد السياسي في تونس وفي البلدان العربية عشية الانتفاضات الشعبيّة وما آلت إليه من تغيير في هرم السلطة وفي بعض ملامح المجتمع. ويدور هذا الجدل حول النموذج المجتمعي الذي يجب أن َتكون عليه مجتمعات الانتفاضة بعد أن تخلّصت حسب ما يعتقد البعض من سيطرة من كرّسوا بالقوة النّموذج القديم، والواقع أن الموضوع قيْد الدرس يقتضي تدبُّر مسألتين علي غاية غير قليلة من الأهمّية : أولاهما تتعلّق بضبط تعريف لكلمة المثقف والثانية تتصل بتحديد العلاقة بين المثقف والمجتمع . إن أوّل ما يجب الانتباه إليه في تفهم هذا الموضوع هو النظرة الدونية التي أضحي يكنّها المجتمع العربي للمثقف. وقد استغلت بعض الأحزاب السياسية اليمينية المتلبّسة بالدّين استعارة ووسيلة لا منهجا وتصورا في إطار حملتها التعبويّة هذه النظرة، لأجل إقصاء خصومها السياسيين ممّن يدعون النضال من موقع الطبقة المسحوقة وفي إطارها أو ممّن يحملون مشروعا يزعمون كونه حداثيّا مستنيرا. علي أنّ الإشكال الذي يجب فكّ جوانب التّعقيد فيه هو: هل المثقّف الذي يشار إليه بالبنان ويُوصَفُ بكونه يحمل خطابا لا صلة له بالجماهير هو مثقّف فعلا ؟ ومن هو المثقف الحقيقي ؟ المثقف من ثلاث منطلقات يمكن أن نعرف المثقّف، من خلال ثلاث منطلقات : الأوّل أنثروبولوجيّ ويرتبط رأسا بفرضية وقع الاستدلال علي صحّتها وهي أنّ الثقافة نقيض للطّبيعة، وبالتّالي يكون كلّ إنسان مثقف بشكل أو بآخر، وليس خفيّا عن الدّارس الحصيف ما عليه هذا المنطلق من تعميم يتعذّر معه محاصرة مفهوم المثقّف في إطار السّياق الذي نتحدّث فيه. أمّا المنطلق الثاني فيتّصل بعلم الاجتماع، ويحدّد أصحابه مفهوم الثّقافة باعتبارها الأخذ من كلّ شيء بطرف أيّ مجموع الخبرات المعرفية والمهاريّة والسلوكيّة التي تجعل الإنسان ناجعا علي مستوي فرديّ وجماعيّ، إلاّ أن هذا المنطلق علي ما فيه من تخصيص يبقي رهين تصوّر منفعيّ ضيّق يجعل المثقف يتعامل مع الواقع بما لديه من كفاءات دون سعي إلي تغييره. ويصطبغ ثالث المنطلقات بالتاريخ، وهي صبغة تمكّن من تعريف المثقف من جهة علاقته بالواقع وفعله فيه، فالمثقف الحقيقي هو الذي يمتلك من الأدوات ما به يفهم الواقع وبناه المختلفة ومن ثمّة الوقوف علي مآزقه، ويخول له هذا الاقتدار الاقتراب من الحلول الكفيلة بتجاوز هذه المآزق، ويصطف المثقف بهذا المعني إلي جانب الطبقات المسحوقة وينخرط في النضال في دائرتها، لأن التمايز الطبقي المغلف بالأبعاد الميتافيزقيّة أو النظريّات الطبيعية هو المعضلة، بحلِّها تُحَلّ جميع مشاكل الأغلبية المستضعفة . ولعلّ أهمّ الأدوات التي علي المثقّف امتلاكها هو الوعي التاريخي الجدلي، لأنه السبيل الأكثر نجاعة لتفهم مأساة المقهورين والمظلومين وخط النهج المفضي إلي تحررهم. غير أن تعريف المثقف من هذه المنطلق لا يلغي المنطلقات الأخري بل يحتويها، مؤكدا علي وعي المثقف والتزامه، وليس من الفائدة القليلة الإشارة إلاّ أن هاتين الخصلتين قد تكونان في فضاءات متعدّدة: العلم، الفن، السياسة. ومن الواضح أنّ المرجعية التي يعكسها هذا التعريف هي المرجعية الماركسية بمختلف تلويناتها، وتشكلاتها. ولا شك في أن ما قدمناه من تعريفات هو من قبيل الإشارات التي صغناها بطريقة تستجيب لغايتنا من هذا المقال. حقد التونسيّ علي المثقف قد يكون من قبيل الاستعارة الحديث عن حقد يحمله التونسي تجاه المثقف، لكنه من الثابت التنصيص علي القطيعة بينهما فالمثقف في نظر التونسي شخص يقول كلاما بعيدا عن همومه ومشاغله وهو إلي جانب ذلك ينتمي إلي الطبقة المحظوظة ويتشدق بدفاعه عن حقوق الإنسان وانتصاره للكادحين، وله صورة أخري لا تقل خطورة عما قبلها فهو ملحد متنكر للهوية ينتهي نضاله بخروجه من الحانة أو من قاعة السينما أو التياترو. ويتّصف المثقف في عين التونسي بصفات أخري تجعله بعيدا عن اتّخاذه قدوة فهو فاشل اجتماعيا، لا تعكس مقولاته المبدئية سلوكه. إنّها صورة تدور حول محورين: أوّلهما يقوم علي اعتبار المثقف منسلخا عن الطبقات المسحوقة من حيث الخطاب والسلوك. ثانيهما ينهض علي النظر إلي المثقف علي خلفيّة كونه شخصيّة مأزومة فاشلة اجتماعيا لا ترتقي إلي أن تكون مثالا يحتذي. وقد ألصقت بالمثقفين صفات أكثر شناعة فهو يؤمن بالمثلية وماسوني، و من أزلام السابق، وفرنكفوني، وقد صار البعض مبدعا في نحت هذه التهم وصارت مجالا للتنافس والتّباري. ولعلّ ما يبين حقيقة هذه النظرة الدّونية التي يحملها التونسي عن المثقف تشنجه في كل مرة يحاول فيه هؤلاء تقديم تصورهم في مسألة من مسائل الشأن العام سياسيا أو إجتماعيا أو فنيا، ويمكن أن نعتبر ما تعرّض إليه الكثير من السياسيين التقدميين والفنانين و المفكرين من مضايقات بلغت حد العنف، إضافة إلي العنف الرّمزي والمادّي الذي يمارس علي أنصار الفكر الحرّ من إقصاء دليلا علي ما تقدم. والواقع أن هذا الموقف من المثقف ليس واحدا بين مختلف الشرائح وأنه قد يمارس علي غير التقدمين، إضافة إلي كونه لا يظهر بوضوح إلا في بعض الوضعيّات المشحونة بالصراع السياسي. مثل هذا القول يحملنا علي الإجابة عن السؤال الذي سبق أن طرحناه في مفتتح المقال. هل المثقف الذي يزدريه التونسي هو مثقف فعلا؟ إذا نظرنا إلي المثقف من حيث قدرته علي قراءة الواقع وتغييره لصالح الطبقة الكادحة وجماهير المهمّشين فإنّنا لا يمكن أن نصنّف من يتبنّون الأطروحات الليبرالية ومختلف التيارات اليسارية الإصلاحية بمثقفي الجماهير لأنهم يقفون في الصفّ المعادي لها ويسيرون في ذيل الانتهازيين وذلك رغم المجهود التوفيقي الذي كثيرا ما يعللونه بما هو مفروض عالميّا وقطريا، كذلك لا يمكن ان ننعت من يتبنون الفكر اليساري الراديكالي بمثقفي الجماهير لأنهم لو كانوا كذلك لتمكنوا من إيجاد الأدوات الكفيلة من الاقتراب منه ولَتَوَصّلُوا إلي معادلة تجمع بين الأهداف التكتيكية والاستراتيجية لطمأنة عموم المستضعفين أن مشروعهم إنما يهدف إلي تحررهم. أمّا إذا تعرضنا إلي من ينتسبون إلي الثقافة شكلا فالمسألة تصبح أكثر وضوحا، فهل يمكن أن نعتبر كل من يهاجم الفكر الديني مثقفا وهل نعتبر كذلك من يلبس قبعة، ويطيل شعره، ويرتاد الحانات ويتأبط كتابا في كل وقت وحين، ويتمتم بعض الكلمات بالفرنسية، أو من يختزل أطروحات لا يكفي العمر مهما طال درسها في بعض الشعارات المكرورة التي فقدت من فرط استهلاكها مضمونها . إنّ التونسيين لم يزدروا مثقفين عضويين يتحركون في صفوفهم ثابتة أقدامهم في أرضية نظرية صلبة.إن التونسيين لم ينفروا مثقفين مكنتهم ثقافتهم من أن يكونوا دون خداع قدوة لهم. إن التونسيين لم يرفضوا مثقفين يراعون ما هم عليه من سوء فهم للدين والدنيا، إن التونسيين لم ينكروا مثقفين هم زمن الأزمة أول من يتقدم وآخر من يتراجع، لقد لفظ التونسيون مثقفين لا يتقنون إلا اتهامه بالجهل والتخلف، أو المزايدة عليه بالنضال. اختزال المبادي في لباس إنّه لمن المعقول دائما أن يدير التونسي ظهره لمن يختزلون مبادئهم في لباس أو سلوك معين، لمن ينفق في اليوم مقدار دخله الشهري في نزواته ثم يرفع عقيرته مناديا بالعدالة الاجتماعية، أو من يعلق شماعة فشله علي ما يحمله من مبادئ. إلاّ أنّ ما رددناه لا يعني عدم توفّر مثقفين يتحركون في صلب المضطهدين ومن أجلهم وفق تصورات ثاقبة، إنهم متوفّرون لكنهم لم يكوّنوا نواة قادرة علي الفعل في الواقع. إنهم موزعون علي أحزاب لو تخلّت عن الأبعاد الذاتية والتشويش النظري التي هي عليه واتّحدت لانتقلت من موقع التبرير إلي مواقع التغيير. وأقصد هنا أحزاب اليسار الراديكالي بتفريعاته، واتحادها ليس مجرد مقولة مثالية تستند إلي فهم بكائيّ للواقع وإنما هو مطمح ينبني علي قراءة نقدية معمقة لمختلف الأطروحات من منظور ثوري يفضي إلي تصور واحد لتغيير الواقع. هكذا نتبيّن أنّ المثقف الذي ينظر إليه التونسي بحقد ليس مثقفا عضويّا إنما هو مثقف قاصر في فعله وانفعاله ، أما المثقفون العضويون فهم علي تفرقهم ما انفكوا يفتكون نظرة احترام من التونسي رغم كل محاولات التشويه من القوي الرجعية. دور القوي الرّجعيّة لقد ساهمت القوي الرجعية في تونس وفي الوطن العربي منذ الاستعمار في تشويه الفكر الحر ونخص بالذكر الفكر اليساري الراديكالي للدفاع عن مصالحها، وتأبيد الواقع الذي ترتضيه لنفسها، لقد اُتِّهِمَ أصحابه بالكفر والمروق، وفي أحسن الحالات بإفساد العقيدة، ألم تتهم فرنسا الزيتونيين المجدّدين بالبدع مؤيدة التيار المحافظ؟ أما بورقيبة فقد حصر الشيوعية في الإلحاد لصالح رؤية اشتراكية ممسوخة، ولقد ورث بن علي هذه الفلسفة وتفنن في نحت ملامحها واختزل التيارات اليسارية الراديكالية في كليشيهات أبعدتهم عن الجماهير فهم ملاحدة وروّاد صالونات وخطابهم ملغز بل هو طلسم يصعب فك شفرته، ثم بعد ذلك وفي فجر الانتفاضة الشعبية للشعب التونسي نهجت التيارات الإسلامية السَّمْت نفسه مدعمة بإرث من التفكير يتخلل تكتيكها السياسي اعتمدته عبر صراعها الطويل مع الفكر الحر، إننا نراها اليوم تحول بكياسة عجيبة مجال الصراع من الاقتصاد والسياسة إلي مجال العقيدة وما يلحق بها من «دوغما» الإقصاء والرفض. وقد نجحت هذه التيارات نجاحا باهرا فزادت من غربة المثقفين، وصار النضال ضدها مسألة عسيرة جدا. وقد عوّلت مختلف الجهات المعادية للتيارات الماركسية الثورية منذ الاستعمار إلي الآن علي المكوّن العاطفي للجماهير وما ينطوي عليه من حنين إلي ماض يعوّض انكسارات الحاضر وخيباته، كما اتخذت من غياب الحسّ النقدي في صفوف الكادحين لتصوغ تصورا «ميتا-تاريخيّا» للتّراث، وتمكنت تدريجيا من التأسيس لمجموعة من « البراديغمات » تستجيب لمطامحها في احتكار حقيقة قراءة النّص وتأويله وشرعية توظيف التراث والاستفادة منه، ويمثل « براديغما » الهُويّة والشّريعة عماد هذا المسلك في التّضليل ومخادعة الجماهير. ويتأكد هذا المنطق القائم علي احتقار عموم المستضعفين في ظل الجهل والأمية، وليس بخفي أن أغلب التونسيين يعانون من هاتين الآفتين، وحتي المتعلم منهم هو ضحية نظام تعليميّ درّبه علي كلّ شيء إلاّ علي الفكر النّقدي، ولم يعلّمه شيئا قدر تقديسه لغير المقدّس. لذلك لاغرو إن ألفيْنا رفضا للفكر الحر في هذه الأوساط. جملة الأمر أن حقد التونسي علي المثقف يعود إلي عوامل متنوعة لعلها الإرث الذي كرسه ومازال يكرّسه أئمة الرجعية بشقيها الليبرالي الإسلامي والليبالي الحداثيّ إن صحّ التعبير. جملة الأمر أن المثقف الذي يحقد عليه المواطن التونسي لا يستحق هذه الصفة لأنه علي مسافة من الجماهي، و لا يحسن التّواصل معها ولا يتقن فنّيات النضال في صفوفها، أما المثقف العضوي فهو علي ندرته يعيش مأساة تشتت الجهود حتي أن صوته يضيع في زحمة الأصوات، كما أنه يبذل مجهودا خرافيا للاقتراب من الجماهير لكن مجهوده يذهب أدراج الرياح في ظل الحملات الدعائية المضللة. ويعود هذا الوضع المأسوي إلي ثقافة أصلها الاستعمار ووكلاؤه لضرب أعدائه، وحتي إن وسعنا دائرة مفهوم المثقف العضوي ليشمل كل من ينخرط في روح العصر مؤمنا بقيم الحداثة فإننا لا نستطيع الابتعاد كثيرا عن المنطق الذي اعتمدناه في التحليل. إلاّ أنّ كلّ هذه الصّعوبات التي تعترض المثقفين وغيره من مناصري الفكر الحر لا يجب أن يثنينا علي مواصلة النضال لأن المعركة مع الرجعية بمختلف تنويعاتها طويلة جدا وما يبدو اليوم مفروضا وقسريا ولا مناص منه يكون في المستقبل سهل الاستئصال،ومن ثمة ما علي قصيري النفس إلا أن ينسحبوا.