أمين ريان يتذكر يحتل الكاتب الكبير أمين ريان مكانة متميزة في خريطة الإبداع المصري والعربي، فقد قدم أول أعماله عام 1954 وهي رواية »حاف الليل«، واستمر في إبداعاته الروائية والقصصية، وأضاف إليها رغبة حميمة للتعبير عما بداخله بالرسم- أيضا- ويستقبل أمين ريان عامه ال85 وهو مازال ينتج كلمة ورسما، لذا سألته: هل كان الانتقال من التصوير في الأربعينيات إلي الكتابة في الخمسينيات- تحولا مفاجئا- أم قائما علي فلسفة خاصة (بالإبداع) بشكل عام؟ -الذي حدث أني لم استطع تحليل ذلك موضوعيا ومضبوطا بسبب نقص الوعي، إذ اكتشفت بعد ذلك- عندما قرأت عن نمو الوعي أو مراحل ومدارج الانتقال - أنني في البداية كنت أتبع الاحتذاء أي احتذاء الكبار، واخص منهم والدتي التي كانت تتعامل مع الخيوط الملونة والقماش الملون حيث كانت تكتسب الأشياء بين يديها ألوانها المتعددة، وكذلك عمي سيد مدرس العمارة بمدرسة الفنون الزخرفية، وأحد اقاربي من هواة التمثيل الذي كان يشخص الكلمات والإيماء والتشكيل والتلوين، وجاءت أول كتابة حقيقية فيما يشبه مفكرة يومية قديمة كتبت فيها ما دار بين الحريم بعد خروج الرجال لكني تجنبت الكتابة بهذه الطريقة بسبب انكشاف المذكرة بين يدي الرجال الكبار، ولم يعد لي من تسلية سوي ألوان الخيوط أو القماش الملون، والإمعان في متابعة المراكب الشراعية وهي تعبر جيئة وذهابا في النيل الذي كنا نسكن بالقرب منه، فاتسع عالمي المرئي، ونمت قوة المراقبة البصرية خلال الحركة مع الأسرة فاستطعت رصد حلقات الذكر والحجاج وتجمع الباعة والأراجوز وصندوق الدنيا، وظل التشكيل هو محاكاة للمواضيع من الخارج حتي شاهدت لأول مرة اول معرض للفنان حسين بيكار فأدركت ان الرسام لا يرسم كل شيء، بل يختار اركان او زوايا لما يرسم وما يجعل من التشكيل موضوعا، فواصلت الرسم للمظاهر التي تحدث في حارتنا، وأخذ زميلي الفنان الراحل جمال محمود إحدي لوحاتي »المولد« واشترك بها في »مسابقة مختار« ففازت بالجائزة، وما صاحب ذلك من اعلام في الصحف وتعرف علي اراء النقاد الذين تساءلوا حول نوع دراستي، ومن تعهدني من الأساتذة؟.. فواجهتني الاسئلة عن خصوصية الموضوع وهوية الفنان، وما يلزم هذا من اختيار مناظير للرؤية، ورؤية خاصة تخص الذات.. ما دفعني للعودة الي الكتابة بقصد التوعية والاستنارة، وتأكد لي ان لكل فنان حقيقي بصمة في اختيار الموضوعات وبصمته في طريقة الأداء، وكنت قد انتقلت الي كلية الفنون الجميلة علي الشاطيء الغربي المقابل للنيل، وهناك صدمتني فكرة رسم الموديل متجردة من ثيابها- فابتعدت عن الدراسة- معتمدا علي التصورات الدينية والموانع التقليدية، لكني سرعان ما ادركت مدي ما ارتكبته من جرم في حق موهبتي، لذا عدت الي اتمام الدراسة بالكلية كآخر فرصة لي مع الخريجين، واخترت موضوع (شم النسيم) في صيف عام 1949 وعملت مع (موديل) سمراء رشيقة القوام مدربة علي الأوضاع النموذجية ومن حي بولاق الشعبي، ولفت نظري تمتماتها الغنائية التي تتضمن الأغاني والمواويل الشعبية فاجد نفسي اعيش في عالم مسموع فاسارع- في المساء- لتسجيل امازيج هذه الفتاة، وبملازمة قراءة ما اكتبه من اغان للبنت (الموديل) ومضاهاتها باحداث حياتها الدرامية برزت لي معالم الكتابة الدرامية بما فيها من خلخلة وتكثيف حول شخصية (الموديل) وتبسيط الأحداث واتخاذ المواقف المختلفة منها والنظر اليها بمناظير غير متوقعة ومد خطوطها، وتحولت (الموديل) الي نموذج مرئي ولا مرئي في نفس الوقت، وسجلت بريشة التشكيل موضوع (شم النسيم)، وسجلت بالأبجدية السردية التي اطلقت عليها (حافة الليل) كرواية. بين الأدب والفن بأيهما تعتز.. "برصيدك الأدبي " أم "برصيدك التشكيلي" في كافة مراحله، وبتعدد عشرات لوحاته ؟ولماذا؟ ليس هناك اختيار فالتجربة في كليهما تتبع الضرورة الحسية، فليس هناك مفاضلة بينهما وليس هناك انفصال، ولا أستطيع أن أقيم التفرقة، إذ تصلني التجربة الفنية غالبا وكأنها دقات "إشارات مورس" وكأنها دقات علي آلة التلغراف، ويظل سر هذه العلاقات بين هذه الدقات هو الذي يفسر دلالتها في النداء المطلوب، ولهذا فكثيرا ما أجد صعوبة في التمييز في حالة التلقي ونقل غير المشعور به إلي حالة الإحساس الواضح. موانع عميقة مازلت حتي الآن تحتفظ بأغلب أعمالك التشكيلية في الأربعينيات والخمسينيات بل وحتي في الثمانينيات والتسعينيات علي وجه التقريب، ولم تتحمس إطلاقا ليقتنيها الآخرون عن طريق المعارض والجاليرهات، ولديك موانع كثيرة لا نجد لها تفسيرا في الإحجام عن التفريط في هذه اللوحات بما يثير تساؤلا لم نعثر علي إجابته حتي الآن؟ هي موانع عميقة إذ تتلخص هذه العوامل في أنني وقعت تحت سيطرة فكرة لا أعتبرها صحيحة، فالفكرة تكاد تكون أسطورية، ولكن لما كان لكل ذات أسطورتها فأسطورتي الذاتية هي : أن انتقاص أي عمل أنجزته في حالة من حالات الإلهام سينتقص من تاريخي الأنطولوجي الوجودي أي غير الوجود الخارجي، وسيعني هذا أن أفقد أحد المنطلقات التي لا أعرف قيمتها ولا معيارها بسبب أو علة في غيرها من تجارب الحياة التي لا أعرف قيمتها كسبب أو علة قيمتها ولا معيارها بسبب أو علة في غيرها من تجارب الحياة التي لا أعرف قيمتها كسبب أو علة في مسيرتي التاريخية الخاصة، فمثلا لوحة " حنفية المياة العمومية" والتي سميتها "النبع" (من لوحات الأربعينيات) لو اختفت من عالمي المرئي وقد جمعت حولها الأطفال في سني والأمهات والجارات اللاتي جئن للحصول علي الماء من هذا المرفق العام فلو اختفي هذا لعمل فقد يصيب فقده تاريخا ذاتيا عميقا يضيع إلي الأبد، ولا يمكن استعاضته بمنطلق أو حافز آخر في عمليات السرد اللغوي فأنا احتاجها لإعادة النظر أو اجترار السيرة الذاتية، فكيف أتنازل عنها!! لكن من الممكن أن أتنازل عن (مستنسخات) منها. الشعور لا يتجزأ أيهما أقرب إلي فطرتك وأنت الآن في الخامسة والثمانين من عمرك هل هو الحنين إلي ممارسة التصوير أم الكتابة؟ الإنسان لدية فطرة واحدة، والشعور لا يتجزأ لكن لديه إمكانيات وأوجه متعددة، فلدية ما يسمي بالإمكانية الظاهراتية الفونومونولوجية.. ولذلك يسعفه التعبير اللساني المنطوق أحيانا، وأحيانا أخري تسعفه سهولة الوسيط في التعبير.. إذ تختلف الحصيلة النفسية و الأداء في المراحل المختلفة، ويأتي ذلك في اختلاف المدرج فينكشف الشعور بانتهاء التكرار، ويبرز الشعور بأنك لا تملك سوي اللحظة التي أنت فيها، ولهذا يتعجل الإنسان التعبير ويتصف بجرأة التعبير.. إذ هو لا يضمن بعد المستقبل.. ونتساءل هل يمكن أن يقوم الشعور بذاته؟ كلا.. لا يقوم بذاته، إذ يجب أن يحده شعور آخر، وما مدي إمكانية مغامرات الشعور؟ وذلك تغلبا علي اعتقاد سابق أو رفضا لاعتقاد لاحق.. حيث أنه إذا ارتد الشعور عن المتعين ينتكس إلي الحضور الغفل pure Sense فانا أكون أقرب إلي فطرتي بصدق عندما أتجاوب مع ما تمليه علي هذه الفطرة. سوء ظن سياسي لماذا كان يضايقك سؤال لبعض : هل أنت كاتب أم رسام؟ كان هذا السؤال له وقع (التنابذ بالألفاظ) أي السباب، وينبع هذا الضيق من فكرة أن يقال عن إنسان أنه (بهلوان المهن المتعددة Jack of all Trades )المسيئة التي تثير السخرية والاشمئزاز، ولا أنسي أن أول سؤال وجهه إلي دكتور في كلية الآداب : (إنت لما أنت فنون جميلة.. جاي هنا ليه؟!) وصاحب ذلك نظرية مريبة من سوء الظن وهو سوء ظن سياسي كان شائعا في تلك الأيام، ثم لا تنسي أن الأسباب الرئيسية لقطع صلتي بالمعارض ما يقال أني لم أحصل علي الدراسة المنتظمة الأكاديمية، وحتي في العمل بوزارة الأشغال كان يعتبرونني غير متخصص.. فالمجتمع مصاب بفصام في هذا الشأن، وحقيقة الأمر أن هذه التفرقة بين قبطي ومسلم علي سبيل المثال تصدر عن تنافس ذميم لأن الفنون حميعا تصدر من منبع واحد، وخير مثال علي ذلك فنانون كثيرون .. فلا فرق بين التصوير والكتابة.. لأن المنبع واحد والوسائط تختلف لكن يظل الإلهام واحدا.. لوحة »الحصاد« بريشة أمين ريان