لم يولد جورج الملقب ببهجوري (في اعتقادي) كغيره من أولاد قرية بهجورة، وما جاورها من قري وبلدات في صعيد مصر، ولا حتي كما ولد الأطفال في مصر وغيرها من الأمصار في العالم! لم يولد ككل الأطفال، فبهجوري ولد كاملا مكملا وفي يده ريشة، كما يولد أولاد الموسرين وفي فمهم ملعقة من ذهب! ولد كما نراه اليوم، وقبل نصف قرن بكامل أبهته الفنية وضحكته المجلجلة، وشعره الأشعث كغابة استوائية، وأصابعه المشاكسة التي لم يسقط منها يوما قلم عابث وريشة مغامرة، أو إزميل نحت ورثه من أجداده الفراعنة العظام! في البدء رسم أمه وأباه وإخوته، وطلاب مدرسته، وأهل بهجورة وماشيتهم، وعندما غادرها رسم في طريقه أهل الصعيد، وعندما نفد الورق منه رسم علي الجدران، ومن جدار إلي جدار وصل القاهرة. في القاهرة رسم رواد المقهي فصاح أحدهم وهو ينقلب علي قفاه من الضحك: الواد يرسم كاريكاتير! فرد جورج ضاحكا: مش مهم ارسم ايه.. المهم ارسم.. فين الناس، هاتوا الناس، أنا عايز ارسم! لم يبق إنسي ولا جني لم تنعكس صورته في مرآة جورج المقعرة تارة والمحدبة تارة أخري! في كلية الفنون لم يكتف جورج بملء السبورة بوجوه زملائه وأساتذته، فرسم علي جدار الصف، وكان من بين من رسمهم أستاذه »بيكار» الذي ما إن دخل الصف ووقع عينه علي ما رسمه جورج حتي صاح مهللا: عظيم! وأخذه من يده إلي رائد الرسم الكاريكاتيري في مصر »صاروخان» حيث كان مكتبه في جريدة (أخبار اليوم)، فتناول كراسة التلميذ جورج، ومن فوره تنازل له عن صفحة كان يرسمها بالتناوب مع »جمال كامل» لمجلة (الكاتب). وفي كتابه (بهجوري.. فن الكاريكاتير) الصادر في عام 1982 عن وزارة الثقافة العراقية ذكر بان أول شخصية بدأ برسمها لمجلة (الكاتب) بسرعة الصاروخ كانت للزعيم السوري »الشيشكلي» ووصف بإسهاب كيف رسمه، وكيف طلب منه »جمال كامل» أن يهرع به إلي مطبعة (الزمان) في شارع الصحافة حيث كانت تطبع المجلة. وحين وقعت عينا »أبو العينين» علي رسومه أخذه هو الآخر من يده، وأسرع به ليقدمه لصاحبة مجلة ( روز اليوسف) التي ضمته من وقتها إلي (العمالقة) من رسامي المجلة في ذلك الزمان، وما تقدم من زمان! رسم جورج شخصيات مجلس الثورة، ولم يغضب »جمال عبد الناصر» حين رسمه »بأنفه الشهير» وكان رئيس التحرير يستدعيه ليرسم زواره من كبار الشخصيات: »صائب سلام، الأمير فهد، سعيد فريحة، كامل الشناوي». رسم جورج كل هؤلاء، ورسم زعماء العالم، ورؤساء الأممالمتحدة، والأمم التي لم تتحد! ويقول جورج في كتابه: »كانت مجلة روز اليوسف مدرستي المسائية التي أذهب إليها بعد نهاية الدراسة الصباحية في كلية الفنون، وكانت قد اشتهرت بإرساء دعائم مدرسة الكاريكاتير المصري وشعرت أني أمثل استمرارا لسانتس ورخا وصاروخان وعبد السميع ». استاء جورج عندما وقع السادات معاهدة الصلح مع إسرائيل، و»نط» إلي باريس ليبدأ فيها حياة جديدة ومرحلة أكثر حرية وانفتاحا ونشاطا، واصطف مع المعارضين لمعاهدة السلام التي عقدها السادات مع إسرائيل، ورسم في مجلتها (23 يوليو) التي كانت تصلنا في بغداد، ومن هنا، ومن مجلات عربية أخري كانت تصدر من باريس ولندن صرت أتابع رسومه التي كانت تدخل بخفتها وحرارة خطابها المختلف شكلا ومضمونا الكثير من البهجة والدهشة إلي نفسي. وعندما توسع نشاط (دار ثقافة الأطفال العراقية) بإصدار كتب متنوعة وكثيرة للأطفال تم تكليف كتاب من الدول العربية، وحتي من أوروبا، فكان جورج أحد كبار الفنانين المصريين الذين تجاوبوا مع نداء الدار، فوضع الرسوم للعديد من الكتب، كما شارك بلوحاته، في (مهرجان بغداد العالمي للفنون التشكيلية) لأكثر من مرة، وهناك وفي دار ثقافة الأطفال التقيت به، وربطت بيننا عري صداقة وطيدة كانت تتخللها لسنين طويلة مراسلات ظريفة جدا، وما زلت أحتفظ ببعض رسائله التي تعود إلي بداية الثمانينات من القرن الماضي باعتزاز كبير. ومن مقر إقامته في باريس كان »ينط» ليشارك في مهرجانات ومسابقات الكاريكاتير المحلية والدولية، وكان يطلعني علي تفاصيل بعضها في رسائله، كفوزه بالجوائز الأولي في بعضها، بالإضافة إلي أحداث ظريفة كان يمر بها ويضحك منها، ومن نفسه، وكان يحثني علي المشاركة في تلك المسابقات ويؤكد لي باني سأقطف جوائز متقدمة فيها. ولم تتوقف ريشة جورج عن التحديق في ملامح الوجوه في بغدادوباريس، كما في كل مكان كان يحضره ورسم كل من يقع عينه عليه بسرعة البرق، وعن إهداء ما يرسم للمئات إن لم يكن الآلاف من المرسومين المحظوظين، ومنهم من رسمه لعدة مرات، ويجعلهم سلطان زمانهم، كحضرتي! وإلي يومنا هذا، فهو بالإضافة إلي كونه أسرع رسام بورتريه كاريكاتيري في العالم يعد أكرمهم بدون منازع!! ويستحق رقمين قياسيين، إن لم يكن ثلاثة من (جينيس) يسجلان باسمه الأول علي سرعته القياسية في الرسم، والثاني علي كرمه المفرط في إهداء الرسوم، والثالث علي إبداعه طبعا! بغداد