د. سيد عبد الباري أثناء حواره مع »الأخبار« يعتقد البعض خطأ أن الأعياد فرصة للانفلات من الأخلاق والآداب العامة التي حرصوا عليها طوال شهر رمضان، وكأن عبادة الله مفروضة في شهر واحد فقط.. ولإظهار أن هذه السلوكيات لا تتفق مع المبادئ الإسلامية.. كان هذا اللقاء مع د. سيد عبد الباري، من كبار العلماء بوزارة الأوقاف، ليوضح المفهوم الحقيقي لفقه الأعياد في الإسلام: يبدأ د. سيد عبد الباري حديثه قائلا: ودّع المسلمون شهر رمضان بأيامه الفاضلة، ولياليه العامرة، وقد فاز فيه من فاز بالرحمة والمغفرة والعتق من النار، وحرم فيه آخرون، نسأل الله تعالي أن يكون قد كتبنا فيه من الفائزين المقبولين، فمن أتم صيامه وقيامه، وبذل فيه ابتغاء مرضاة الله عز وجل، فأعطي من حرمه، ووصل من قطعه، وعفا عمن ظلمه، صدق فيه قول الحق سبحانه: »قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّي»، فينبغي أن يستمر العبد في مثل هذه الحالة من القرب والبذل والتراحم، فاجتهاد بعض الناس في رمضان لا ينفع شيئاً عند الله إذا أُتبع بترك الواجبات والوقوع في المعاصي والسيئات بعد رمضان . وقد سُئل بعض السلف عن قوم يجتهدون في شهر رمضان، فإذا انقضي ضيعوا وأساءوا، فقال: (بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان). لأن من عرف الله خافه في كل زمان ومكان. تكاسل! ويضيف أن بعض الناس يتعبدون في شهر رمضان خاصة، ويكثرون من البذل والإحسان وتلاوة القرآن، فإذا انتهي رمضان تكاسلوا عن الطاعات، وبخلوا بما كانوا يبذلون من الصدقات، وعادوا إلي ما كانوا عليه قبل رمضان. أما المؤمنون الصادقون المحبون لربهم فيفرحون بانتهاء شهر رمضان لأنهم استكملوا فيه العبادة والطاعة لربهم، فهم يرجون أجره وثوابه من الله، ويتبعون ذلك أيضًا بلزوم العبادة تلو العبادة. قال تعالي: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ المِيثَاقَ، وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَي الدَّارِ﴾، وهم ممتثلون لأمر الله تعالي في الثبات علي الطاعات حتي الممات، قال تعالي: »واعبد ربك حتي يأتيك اليقين». المسارعة بالطاعات ويشير د. سيد عبد الباري أن من عوامل الثبات المسارعة إلي الطاعات وترك التسويف، فقد أمر الله عز وجل بالتسابق إليها جميعًا، وعدم التفريط في شيء منها، فالمسارعة في الخيرات والمسابقة إليها نراها في سلوك كل مسلم فطن، امتثالا لأمر الخالق- عز وجل- إذ يقول: (وسارعوا إلي مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين)، وقال تعالي: (سَابِقُوا إِلَي مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)، والمعني: بادروا يا مؤمنونَ إلي عملِ الصالحاتِ، وتنافسوا في تقديمِ الخيراتِ، ولا تُضيِّعوا الأوقاتَ في غير مفيدٍ. ويُتابع د. سيد أن من عوامل الثبات علي الطاعة: التطلع إلي ما عند الله من النعيم المقيم: إِنَّ اليقين بالمعاد والجزاء يُسَهِّلُ علي الإنسان فعل الطاعات وترك المنكرات، مصداقا لقوله تعالي:(واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا علي الخاشعين، الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون)،وفي حديث يُعلي الهمة ويحث علي صالح العمل والثبات عليه يذكر لنا الرسول (صلي الله عليه وسلم) أدني أهل الجنة منزلة، فيقول: (سأل موسي ربه ما أَدْنَي أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ فيقال له: ادْخُلِ الْجَنَّةَ. فيقول: أي رب: كيف وقد نَزَلَ النَّاسُ مَنَازِلَهُمْ؟ فيقال له: أترضي أن يكون لك مثل مُلْك مَلِك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت ربي. فيقول: لك ذلك ومثله ومثله، فقال في الخامسة رضيت ربي. قال: رَبِّ، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولئك الذين أرَدتُ، غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي، وخَتَمْتُ عليها فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ، ولَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَي قَلْبِ بَشَرٍ»، قال صلي الله عليه وسلم : وَمِصْدَاقُهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: »فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ». العيد الحقيقي وعن عيد الإنسان الحقيقي يضيف د. سيد عبد الباري أن العيد للإنسان يوم تكون علاقته بالله في خير حال، فكل يوم يمر عليه دون أن يعصي الله فهو عيد، يقول ابن رجب: »ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، ليس العيد لمن تجمل باللباس والركوب، إنما العيد لمن غفرت له الذنوب، في ليلة العيد تفرق خلق العتق والمغفرة علي العبيد، فمن ناله منها شيء فله عيد، وإلا فهو مطرود بعيد»، فيجب الحذر مما يفعله كثير من بعض الناس في أيام العيد من الإسراف والتبذير، وتبديد الأموال والأوقات، فيما لا يفيد نفعًا لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل يعود عليهم بالضرر والخسران، وصدق الله حيث قال: »وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَي دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَي صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»، ومن هذا المنطلق فإن الإسراف في الفرح مدعاة للخروج عن المقصود؛ بل ربما أدي إلي الوقوع فيما لا يرضي الله من معاص. إباحة اللهو ويضيف د. سيد أنه إذا كان الإسلام قد أباح في الأعياد اللعب واللهو وفِعْل كلِّ ما يُدخِل البهجة في النفوس، فهذا لا يَعني التحلُّل من الأخلاق أو الآداب العامة، بل لا بُدَّ فيه من الانضباط بالضوابط الشرعيَّة والآداب الاجتماعية، فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): »إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الْأَضْحَي، وَيَوْمَ الْفِطْرِ»، والعيد في الإسلام له معنيان كبيران، معني رباني، بألا ينسي الإنسان ربه بالعبادة في يوم العيد، فيبدأ المسلم يومه بالتكبير وبالصلاة والتقرب إلي الله عز وجل، ومعني إنساني بأن يدخل الإنسان البهجة والفرح علي نفسه وعلي غيره، فشرع الإسلام في كل عيد شعيرة تكون سببًا في التواصل والتراحم بين المسلمين، فشرع في عيد الفطر زكاة الفطر، فرضها النبي (صلي الله عليه وسلم) علي الكبير والصغير والحر والعبد والرجل والمرأة، وجعلها طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: »فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّي اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ».