«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسائل من امرأة مختفية: الرواية أداة لتمرير الأفكار والدفاع عن القيم
نشر في أخبار الأدب يوم 01 - 06 - 2019

في روايته »رسائل من امرأة مختفية»‬،الصادرة حديثا (2019) عن دار الفنك،يشيدُ محمد برادة عالما متخيلا يَنتهِلُ عناصره ومكوناته من التوغل ُفي التاريخ الرّاهن، وتحديدا سنوات الستينات التي اشتد فيها الصراع بين »‬المخزن» والقوي السياسية المتطلعة إلي القطع مع الماضي والبناء من جديد، من خلال شخصيات شبابية مبدعة تجسّد بأفكارها وأحلامها وطموحها إلي الاكتمال عبر اختبار الحب اختبارا شخصيا فريدا، ذلك المناخ »‬الثوري» الذي غمر المغرب مع حكومة عبد الله إبراهيم.هذه الشخصيات الممتلئة بالعالم، والكاشفة عن انشغالات ثقافية وسياسية واجتماعية عميقة، لا تنهضُ فقط بتكثيف تطلعات تلك المرحلة إلي التغيير الجذري الذي يَضعُ البلاد علي سكة الحداثة والديمقراطية، وإن كان الحلم بأن الاستقلال سيحقق الحرية والتغيير قد غدا مجرد وهم، وإنما تُمثلُ أيضا رسالة للأجيال المعاصرة، في سياق تطبعه تحولات متسارعة تكرّس الهيمنة علي السياسة، وتَعصفُ بما ناضلت من أجله الجماهير المتعطشة إلي الحرية والانعتاق.
لا تتكونُ الروايةُ من فصول محددة علي النحو الذي نجدهُ في عدد من الروايات، بل تتشكلُ من محطات يختلف ُفضاؤها النصي باختلافِ الشخصيات التي تَنهضُ فيها بالسرد، والوقائع التي يتمُّ سردها أو النصوص المضمّنة (الرسائل). وعلي هذا الأساس، تُشكلُ الروايةُ مجموعة من المشاهدِ السرديةِ التي يَتحكمُ فيها عنصر التجاور. في مستهلّ الرواية يَتحدثُ »‬الكاتبُ الضمني» ويمكنُ وصفه بالراوي المشكّل، عن ظروف إنجاز الرواية مشددا علي أن الأمر يتمحورُ حول رسائل من جاذبية عبد العزيز التي يرغبُ الخبير الاقتصادي هيمان السبتي في استعادة التجربة التي عاشها معها عقبَ استقلالِ المغرب وإلي نهاية الثمانينات، لأنها تجربة تكتسبُ راهنيتها من حيث إنها مفيدة لفهم ما يعيشهُ المغرب ُفي الحاضر. وعليه،يشارك في كتابة الرواية كل من هيمان السبتي العارف بتفاصيل الحكاية، والحائز للوثائق التي تؤكدُ واقعيتها، والكاتب الضمني أو الذات الثانية لبرادة.هكذا يوفرُ هيمان للراوي الضمني مادة شفوية ومكتوبة شديدة الغني تتيحُ له كتابة سيرة بيوغرافية له ولجاذبية. ومن خلال هذا السرد الاستعادي نلمسُ عند محمد برادة في هذا النص، وفي أعماله الروائية السابقة، ذلك المفهوم المميز عن الرواية بوصفها فن التذكر.
هذه التقنية المتولّدة من حساسية روائية جديدة تمثلُ تمرّدا علي الدور التقليدي للسارد الذي يكتفي فيه بسرد ما حدث، وبحثا عن منفذ يُتيحُ له المشاركة في تصميمِ العالم وتشييده.وعليه،فالتموضعُ قريبا من عالم الرواية يُتيحُ للكاتب الاندساس بين الشخصيات، وفي العالم الذي تتحرك فيه لدعم وتعزيز القيم التي يتطلّع النص إلي إظهارها: قيم الحرية،والحلم، والبحث عن المستحيل في مقابل الضرورة، والقيم المضادة الماسكة بخناق الفرد والمجتمع. وبهذا المعني يَكونُ عنوان هذه الرواية »‬رسائل من امرأة مختفية» دالا ليس علي الاختفاء المادي لجاذبية وحسب، وإنما أيضا علي اختفاء وتبدّد القيم التي كانت تدافعُ عنها باسم كل النساء، وتُناضلُ، عبر الكتابة والأدب، من أجل غرسها وترسيخِهَا في مغرب ما بعد الاستقلال المشدود إلي الماضي، والتقاليد القديمة.
في السّرد الذي يضطلعُ هيمان السبتي بإنجازه بضمير المتكلم عن علاقته بجاذبية، والظروف التي أحاطت بالمغربِ خلال سنوات الستينيات، وبعد مرور عقود علي اختفائها،تَبرزُ شخصية جاذبية عبد العزيز الشابة العشرينية المتشبعة بالحرّياتية والمتطلعة إلي اختبار الحدود القصوي في البحث عن كينونتها رغم التقاليد والممنوعات التي تعيقُ مغرب تلك المرحلة. الاعتدادُ بالنفس، والمواظبةُ علي القراءة، والتطلعُ إلي أن تكون كاتبة، والإيمانُ بأهمية الانتماء إلي اللحظة الانتقالية التي يعيشها المغرب، خاصة فيما يتعلق بالإسهامِ في بلورة الوعي الجديد، ووصفِ التبدّلات التي تُطاولُ القيم والسلوكات، هي الأهداف الكبري التي ندرت لها جاذبية مسيرتها الحياتية رغم فشلها في الزواج ثلاث مرات: من ابن خالتها الفدائي الذي نجا من الإعدام لصغر سنه، وآثر أن يعيش المنفي بعد أن »‬أصبح متابعا من عيون السلطة بسبب ماضيه في المقاومة» وقد كتبت عن هذه التجربة القاسية روايتين قرّرت عدم نشرهما بسبب التقاليد الذكورية التي تمنعُ المرأة من التعبير عن مكنوناتها، ثم من مهندس معماري تعرّفت عليه في إحدي المناسبات، وقد شدّها إليه احترامه المرأة ومراعاته لمشاعرها. وهذا مقياس أساس في اختيار جاذبية لزوجها. والتجربة الثالثة مع كاتب يَنحدرُ من قبيلة أولاد حريز يدعي حميد زيدان، وكان يَترددُ علي مستشفي الأمراض العقلية بسلا، ويتطلعُ إلي إكمال رواية بعنوان: »‬قرية الحيران».
هذه العناصر السيرذاتية لا يتعرّف عليها القارئ فقط من خلال منظور هيمان، وإنما أيضا من خلال المحكي الذي تنجزه جاذبية أثناء اللقاء الذي جمعها بهيمان قارئها المتيقظ بمطعم الصخرة بالدار البيضاء مطلع الستينات. هاتان الشخصيتان يأتي حديثهما بضمير المتكلم، وبشكل مباشر، بالإضافة إلي نجاة وزيدان وهاديا، ما يعني أن من عاش الحدث هو نفسه من يرويه، وهذا ما يعطي للرواية نبرة أكثر إقناعا. وعلي هذا الأساسفالتقنيات الأسلوبيةالتي تقومُ عليها كتابة الذات،تعنيأن رواية »‬رسائل من امرأة مختفية» إذ تنفتحُ علي مقتضيات السيرة الذاتية، وتستعيرُ بعض مستلزماتها مثل التركيز علي الحياة الفردية للشخصية الروائية وتاريخها، فلكي تضطلعَ بتعميق الرؤية الذاتية وإبرازها، ووصل القارئ بهمسات الشخصية الروائية وسط ذلك المناخ الهارب الذي يحفّزها علي الإقبال علي الحياة، وعيشها برغبة وحلم.
في الرواية يبدو هيمان متابعا جيدا لما تكتبه جاذبية في مجلة »‬هنا الآن» من مقالات تنبش ما هو تحت القشرة السميكة للمجتمع، لهذا قرّر التعرّف إليها، لتنتسج بينهما علاقة عشق يتداخل فيها الحبّ والجسدُ بالرغبة في التحقّقِ وارتيادِ المجهولات، وتنتهي باختفاء جاذبية بعد انجلاء وهم التحرّر بعد الاستقلال، وإحساسها بصعوبة العيش داخل قوقعة »‬المخزن» الكابسة علي الأجساد والأرواح والرغبات، وقرار هيمان البحث عنها بعد تجربة الزواج الفاشلة من د. نعمت الصرداوي مديرة شركة أدوية، وتنتمي إلي تلك الطبقة النافذة من المجتمع التي تزاوج بين المال والسلطة لفرض هيمنتها وسطوتها علي الطبقات المحرومة. بعد ثلاث سنوات علي هذا الزواج،يَستشعرُ الخبير الاقتصادي هيمان فداحة التنكر لمواقفه وقناعاته السابقة، ويستبدّ به الشوق من جديد إلي جاذبية التي كان يجدُ معها من تشاطره التحليل، وتتقاسم معه القلق مما آل إليه المجتمع.هكذا يتشكلُ هيمان وجاذبية في هويتيهما من خلال استغراقهما في سرد الأحداث والوقائع والتجارب التي عاشاها، وتُمثل ُتاريخيهما الفعلي.
إذا كانت أحداث الرواية تَعودُ إلي مغرب مطلع الستينيات، فإنّ السرد يتم في أواخر التسعينيات من شقة هيمان السبتي بحي حسّان بالرباط حيث يستعيدُ الأجواء التي انغمرَ فيها مع جاذبية متأثرا بفداحة التحولات التي يَمورُ بها المغرب المعاصر، وبالحاجة الملحة إلي مثقفين وكتاب من طراز هذه المرأة المغربية المختلفة التي كانت مقالاتها تُزحزحُ المألوف، وتستنطقُ الأشياء التي تبدو عادية. وإذا كانت محكيات هيمان تضعنا في قلب الأحداث والصراعات والتوترات التي طبعت المغرب خلال منتصف الستينات، واتساع الفجوة بين القصر والجماهير الشعبية الباحثة عن أفق جديد، فإن الرسائل المتبادلة مع جاذبية تعزز البعد الواقعي، وتقرّبنا مما هو حميمي بين الفرد وذاته. وهذه الرؤية الذاتية إلي العالم والأشياء والأمكنة،تعدّ من السّمات التي تتميزُ بها الشخصيات الروائية عند محمد برادة،إذ يتعذّر علي القارئ فهم مواقفها وسلوكاتها إذا لم يصل ذلك بعوالم اللاشعور الخفية.
لنقل إن اختيار هذه الشخصيات الشابّة من مغرب ما بعد الاستقلال، يعكسُ الرّغبة القوية عند محمد برادة في الكشفِ عن كثافة الظل الذي يغشي هذه المرحلة المعاصرة، والإسهامِ في بث شعاع من ضوء في قلب مجتمع أضحي في منظور أفراده لغزيا ومتاهيا. ولا شك أن المرأة تُمثلُ بجرأتها، قياسا إلي الرجل، أهم عنصر يُسهمُ في الكشفِ عن التناقضات، وتعرية ضروب الزيف التي تخنق أنفاس المجتمع. وأعتقد أن القارئ الذي احتك بنصوص محمد برادة منذ روايته الأولي »‬لعبة النسيان» مرورا بنصوصه التالية »‬الضوء الهارب»، و»‬امرأة النسيان»، و»‬حيوات متجاورة»، و»‬قريبا من الضوضاء بعيدا من السكات» و»‬موت مختلف»، سوف يدركُ أسرار هذا الاهتمام الذي يوليه الروائي للمرأة، ولحضورها المؤثر في المجتمع. ويكفيها هنا أن نلحظ أن جاذبية تلتقي علي مستوي الوعي بقيمة الحرية والتمرد علي التقاليد البالية المحاصرة، بفاطمة ابنة غيلانة بطلة رواية »‬الضوء الهارب».كلاهما تصرّ علي الحرية، والجسارة، والمثابرة علي توسيع الهامش المتاح لكسر الطقوس البالية، والحدودِ الخانقة للأنفاسِ والرغبات رغم الاختلاف بينهما. ونحسب أن محمد برادة وهو ينمي لدي الشخصيات الوعي بما يعيقُ تطلعاتها، ويقوضُ أحلامها، إنما يشددُ علي أحد الأدوار الأساسية التي تنهضُ بها الرواية، بخلاف مؤسسات المجتمع المعنية بالأخلاق، وهي تحرير الغرائز بدل كبتها. وهذا ما يجعلُ منها (الرواية) بيئة ثقافية ملائمة للإنسان في هذا الزمن الراهن الذي تخترقه تحولات متسارعة وضبابية،تحجبُ الرؤية وتعطلُ إمكانياته علي السبر والفهم. ومن المؤكد أن الروائي، داخل هذه الدوامة، يدرك أنه، قياسا إلي الآخرين، الأقدر علي فكّ الشفرات، والغور في الدهاليز العميقة، وتعرية الأقنعة كشفا عن الأعماق والسطوح.
لا شك في أن شكل الرواية يلتحمُ بقوة بمضمونها، ومن ثم فهو عنصر أساس في فهمها وإدراك أبعادها ودلالاتها. وكأي رواية جديدة يتطلعُ كاتبها إلي الإسهام في الفورة الروائية، فإن إنجاز هذا الفعل لا يكتملُ إلا من خلال الشكل الفني الذي يبرزُ تضاريس الرواية والقيم التي تستبطنها محكياتها مما يسهمُ في تغييرِ الرؤية، وفتحِ المنافذ إلي مسارات جديدة لفهم الذات والعالم. ومحمد برادة باعتباره ناقدا روائيا وكاتبا، نجده دائما يؤكدُ علي القيمة التي يكتسيها الشكل الروائي، لا باعتباره مجموعة من التقنيات التي يَتعينُ علي الكاتب أن يتحكم فيها، وإنما بوصفه الصياغة التي نَلمسُ انطلاقا منها روح الكاتب في النص، لذلك فشكلُالرواية منغرسٌ في البنية الاجتماعية، ومشدودُ إلي المغامرة التي تنهضُ عليها الرواية. وإذا كان العملُ علي الشكل الفني للرواية هو فعل جمالي وثقافي في جوهره، لأنه مرتبط بثقافة الروائي، وبزاده الجمالي، أي بمدي اطلاعه علي ما يَتحققُ في بيئة الرواية العالمية من نصوص جيدة توسّع مفهومنا عن المتخيل، وقدرته علي تشييد عوالم ممكنة، فإن قيمته تكمنُ في بلورة أفكار تؤثر في المجتمع والسياسة وعلاقات الأفراد، كلما كانت الرواية أقدر علي البوح، والكشف، والتعرية، واحتضان الشيء ونقيضه. وهذا ما تلتقي حوله النصوص الروائية الجيدة التي كلما حاورها القارئ، عثر فيها علي ما يغني رؤيته، ويوسّع فهمه للذات والعالم، لأن الشكل الفني فيها قوامه الانتهاك لما هو راسخ، سواء علي مستوي الجنس الأدبي أو علي مستوي علاقة الفرد بالعالم، ما يعني أن قيمة الرواية وجدواها تتصل ُبالممكن، أي بالعوالم الممكنة التخييلية التي كلمانأت عن العالم المدرك،ازدادت قدرة علي توليد التأويلات المتعددة، وبلورة المعرفة التي تلتصقُ بما يشغلُ بال الناس علي امتداد العصور.
من هذه الزاوية يبدوأن رواية »‬رسائل من امرأة مختفية» تمثلُ تجربة جديدة في المنجز الروائي لبرادة. فالشكل الفني فيها يَنهضُ بوظائف شديدة الفعالية في حفز القارئ علي توليد الأسئلة، والتفكير في الافتراضات الملائمة لفهم الكتابة، والتقاط دلالات رموزها وإشاراتها. ولا تَرتدُّ هذه الوظائف إلي اللغة باعتبارها المادة الأولي التي لا نلج الرواية إلا من بابها، حيث الخاصية الشعرية، وموسيقي الكلمة، وقدرتها علي إثارة مخيلة القارئ بعيدا عن التلذذِ الهوسي باللغة، بل تتعدي ذلك إلي البنية متعددة الأصوات. فالشخصيات التي تتحرك في عالم الرواية، ونظراتها للإنسان والعالم تضفي،من خلال ملفوظاتها،علي السرد تنوعا مدهشا. وما نلاحظه هو ذلك التناغم بين مواقف الشخصيات ورؤياتها للعالم وما تستشعره من ضروبِ الاغترابِ واللّاانتماء، والمرجعيات التي انتهلت منها، والتي تضمنت أعمال كبار الكتاب والمبدعين العرب والعالميين الذين ألهبوا بأفكارهم شعور جاذبية ونجاة أختها وهيمان وهاديا وزيدان، وأوحوا إليهم برغبات مماثلة في فضح الأقنعة والهشاشة التي تنطوي عليها التقاليد والممارسات البالية التي تخيّم علي الحياة، وتعكر صفو جمالها. ويُضافُ إلي هذا تنويع ضمائر السرد، والمراوحة بين المرجعي والتخييلي، وتضمين خطاب الرسالة، خاصة رسائل جاذبية التي تضفي لغتها علي وجودها مسحة من العمق والاندفاع الذي يتعذر سبره أو محاصرته. فالرسائل تنهضُ بالكشف عن ذلك الوهم الجميل الذي يشدّ جاذبية إلي الحياة، ويخلصها من تيار عقل يفسد عليها هذا الحلم. ومن ثم فالرسالة، مثل الكتابة، تمثل لقاء أساسيا، وبحثا قاسيا عن ذلك المماثل الذي تحلم جاذبية بأن تجعل منه المؤتمن عن جراحها وأحلامها. هكذا لا تَعملُ الرسالة فقط علي تعقيد بناء الرواية، وإنما تَضطلعُ أيضا بخلخلة المعايير التي درج عليها القارئ في تلقي النصوص وتأويلها. إنها تُعيّنُ الكتابة بوصفها ذلك الفعل العلاجي الذي يسند الشخصيات في بحثها اللاهث عن الحقيقة، واندفاعها نحو ذلك المجهول الذي يشعرها بالوجود والتحقق. ومن المؤكد أن مفهوم محمد برادة عن الكتابة المستظل بفهم حداثي للرواية، هو المسئول عن حرصه علي تفاصيل البناء السردي، ابتداء من الشخصيات وانتهاء بعتبات الرواية، والتي تشكل مكونا سرديا موازيا دالا علي رؤية برادة التي تتسم بالعمق والجذرية والشمولية.
يَجبُ أن نسجل لمحمد برادة في ختام هذه القراءة أنه من رواية لأخري يَحرصُ علي ارتياد أفق جديد يضفي علي الكتابة سمات التميز والاختلاف. فإذا كانت أعماله الروائية السابقة، علي مستوي الأحداث والوقائع المتصلة بالتاريخ الراهن، تلتقي بالعديد من التجارب الروائية لكتاب مغاربة انتهلوا من معين الواقع الاجتماعي والسياسي، فإن هذه الأحداث والتجارب تأخذ في رواياته أبعادا متميزة، بفعل تصوره المختلف للشكل الفني، وحرصه المتواصل علي تنويع طرائق الصوغ والتشكيل، واحتضان المغامرة الكاشفة عن لغزية العالم، وحيرة الإنسان فيه. وهذا ما يتيح للرواية من خلال تلك اللحظة التي تتجمع فيها كامل حياة الشخصيات ومعناها وجوهرها، أن تتوغل في المناطق الداجية للذات والعالم. وفي رواية »‬رسائل من امرأة مختفية» تتعددُ العناصر الفنية والجمالية التي توسّع ممكناتها التخييلية، أما العناصر الواقعية التي ينفتحُ عليها السرد فتنهضُ بتجذير الرواية في البنية الاجتماعية والسياسية للمغرب المعاصر. فالإشارات المكثفة إلي فضاءات بعينها كمطعم الصخرة والحي المحمدي بالدار البيضاء،وحي حسان بالرباط، كما أن الإحالة إلي ما عرفه المغرب من أحداث بعد الاستقلال، وتجربة حكومة عبد الله إبراهيم المجهضة والتي لم تدم أكثر من سنتين، ومظاهرات 1965، وسنوات الرصاص، وغيرها من الأحداث المرتبطة بالتاريخ الراهن، وبالذاكرة السياسية والثقافية، كل ذلك يجعلُ من هذه الرواية ليس فقط تمثيلا لما عاشه المغرب بعد الاستقلال، وإنما نافذة مشرعة علي الحاضر، وما يشهده من تحولات.ومن المؤكد أن هذه الإحالة إلي ما هو مرجعي لا تتم بشكل مباشر، وإنما من خلال الشكل الفني الذي يستمدّ ألقه من اللغة، والتخييل، وتنويع السرد، وتعدد الأصوات، لإنتاج عالم مغاير يكتسبُ قيمته من رموزه وإشاراته.وهذا مايؤكد المفهوم عن الرواية بوصفها جنسا أدبيا يلتقطُ التوتر بين الفرد والمؤسسات الاجتماعية،كما يحتضنُ ما هو حميم بين الفرد ونفسه بشكل مغاير لما هو سائد في الخطابات الأخري.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.