المسلمون يصلون بضاحية لاكمبى بغرب سيدنى يشتكي الجسد من خوض هذه الرحلات المهلكات التي تمتد لآلاف الكيلو مترات بالقطار، ولكن النفس تهوِّن عليه بما عاشته وتفاعلت معه واستمتعت به في كل مكان مرت به، كونه الوسيلة الوحيدة التي تسمح بذلك، إضافة إلي أنها الأقل تكلفة، وفي الختام كانت الوجهة تجاه أستراليا، عبر عدة رحلات أخري بعضها باستخدام قطارات تحت الماء؛ من كولكاتا بجنوب الهند إلي دكا شرق بنجلاديش، ثم باجو بميانمار، فبانكوك بتايلاند، باندار لامبونج بأندونيسيا ورحلة داخلية فيها إلي جاكرتا وصولا إلي داردين بشمال أستراليا. جاء اختيار أستراليا هذه المرة موجهًا من قبل الأصدقاء في الهند، فهي المفضَّلة لديهم بعد دبي، بعيدًا عن احتلالهم لبريطانيا، وربما يكون للفضول دوره أيضا في استحسان هذا الاختيار، كونها قريبة من نيوزيلندا التي عاشت مؤخرًا تجربة صعبة، وما واجهه شعبها يستحق تأمله عن قرب والاستفادة منه، ومن المرجح أن نجد صدي هذا بأستراليا، تلك البلاد التي عرفت الإسلام منذ اكتشافها في مطلع القرن السابع عشر، يبلغ عدد المسلمين فيها نحو 650 ألفاً بين ما يقرب من 25 مليون أستراليًا بنسبة 2.6%. يذهب بنا تأثير الهنود إلي الساحل الشرقي لتكتشف سر غرامهم به، والمسلمون خاصة، فبمجرد وصولك إلي مدينة جولد كوست بولاية كوينزلاند والتي تطل علي المحيط الهادي تجد أجواء رمضانية مدهشة تعكس مدي اهتمامهم بالشهر المعظم، ولكنك ما أن تطلِّع علي تكلفة قضاء يوم واحد هناك ستدرك أن وراء هذا الاهتمام أهدافا اقتصادية معلنة، فهناك من أهل المكان من سيحدِّثك عنها دون أن تسأل. ويخبرك بأن فندق ماريوت قد تعاون مع حكومة الولاية لعمل صالة رمضانية فاخرة مجهزة لأجل زوار الشرق الأوسط خاصة والذين يسهمون في الدخل القومي الأسترالي بما يقرب من 4 مليارات دولار، وأنهم وبتوجيهات من قِبل حكومات الولايات الفيدرالية قاموا بتأسيس وحدة علمية لدراسة شهر رمضان وكل ما يتعلق به من قيم، مما يساعدهم في إدراك ما ينبغي فعله لإظهار الاحترام للشهر المقدس وللمسلمين، وأنهم خصصوا غرفا للصلاة ومصاحف، ثم أسسوا مسجدًا كبيرًا يحمل اسم المدينة. بالقرب منها علي ذات الساحل أيضًا؛ مدينة بريسبان، التي ستجد فيها رمضان كذلك ولكن برؤية اجتماعية أكثر وتكلفة أقل واهتمام روحاني أكبر، حيث يجتمع بضعة آلاف للإفطار والصلاة بقرب مسجد دارا، وهناك مطبخ مفتوح لمن يرغب أن يساهم بالسلع أو يشارك في عمل الوجبات، ومن أكثر الأطعمة تداولا هناك الكعك المحلي، والعجائن المقلية بمختلف أنواعها. وفيما يعد سُنة سنوية، تقام عقب الإفطار احتفالية خاصة لكل فتاة وصبي يقوم بعبادة الصيام لأول مرة، والذين يتراوح أعمارهم بين 7 و10 سنوات حيث يلتف الحضور حولهم لتهنئتهم والدعاء لهم بطول العمر ودوام صيام رمضان. كلما ابتعدنا عن الساحل الغربي واتجهنا جنوبا أو للداخل، كانت الأجواء أكثر روحانية وإنسانية، وعندما تطلع حولك سيقع نظرك في شوارع أستراليا علي اثنين من المظاهر الأكبر والأغرب التي تعني حلول شهر رمضان، أما الأكبر؛ ففي مختلف الشوارع الكبري بمدن كسيدني، ملبورن، برث، بريسبان وغيرها؛ تجد المسلمين يُصلون في تجمعات عندما يحِّل موعد الصلاة ويكون ذلك في الجزء المخصص للمشاة. بينما الأغرب؛ فيوميًا وقبل أذان المغرب تجد »الهجن»، تلك الجمال العربية المميزة، تتجول بالشوارع الجانبية بالمدن والطرق المختلفة بالمناطق الريفية وهي تحمل الصغار فوق ظهورها احتفالا بأيام الشهر الكريم، وقد امتد هذا المظهر إلي بعض الشوطئ، وبات يجمع بين كل الأستراليين. منذ سنوات بدأت هيئة الإذاعة الاسترالية »إيه بي سي» عبر بوابتها الدينية في استقبال ما تدعو له طيلة العام من أوراق بحثية خلال شهر رمضان تطرح تأملاتهم لهذا الشهر المقدَّس وتأثيره الروحي والأخلاقي، ومحاولة لفهم العقيدة الإسلامية بتحليل وتفسير الحكمة من الصيام. ومن جديد تبدأ بروفات عروض ضاحية »بانكستاون» بسيدني للاحتفال بعيد الفطر، بروفات يحضرها الجمهور في الليالي التي تسبق أيام العيد واستطلاع رأيهم من أجل تحسينها وتطويرها، وتقديم ما هو مناسب، ويتخللها مهرجانًا لاكتشاف المواهب، والأمر ذاته ولكن بشكل أكثر توسعًا في مهرجان »تشاند رات» متعدد الثقافات في ملبورن. ولأن لشهر رمضان وعيدي المسلمين قدراً من الخصوصية عند الحكومة الأسترالية؛ فإنها تسمح للمسلمين بأن يقيموا صلواتهم في الحدائق العامة مثل حديقة »فلاجستاف» بملبورن وحدائق ضاحية غرب سيدني وفي كل مكان يصلح للتجمع والصلاة به. وحسب التقليد الرسمي المتبع في السنوات الأخيرة؛ يبعث رئيس وزراء أستراليا برسالة للشعب عند حلول شهر رمضان وجاء فيها هذا العام: »مجتمعنا المسلم جزء لا يتجزأ من النسيج الأسترالي الغني متعدد الثقافات، إن التزامنا المتبادل بالتسامح والاحترام يضمن ترابطنا وتماسكنا، وتعدد الثقافات والأديان في مجتمعنا يجعلنا من أكثر المجتمعات تجانسًا في العالم، لقد خاب ظن المتطرفين في العالم، فما حدث في نيوزيلندا جعلنا نصلي جميعًا في آن واحد صلاة المسلمين، ليس في المساجد فحسب ولكن في الكنائس والمعابد أيضًا، هكذا نقهر الشر والكراهية والانقسام، والتسامح يقهر الخوف، والحب دائما ينتصر في النهاية»، وأضاف »إن رمضان فرصة لترسيخ القيم الأبدية بتركيز الجميع علي الرحمة وتهذيب النفس والإحسان للآخر»، واختتمها بكلمتي »رمضان مبارك». بينما أنهت رئيسة وزراء نيوزيلندا كلماتها التي وجهتها لشعبها في نهاية الشهر الكريم بعبارة نطقتها بالعربية »عيدكم مبارك» أكدت فيها أن الإسلام يدعو للسلام ولمحاربة التطرف والعنصرية، وأنهم جميعا سيتحدون للقضاء علي هذه الأمراض المزمنة الخطيرة. نيوزيلندا التي داعبت فضولنا لنختتم الرحلة بها وييسِّر الأمر قليلًا التواجد في ملبورن بجنوب أستراليا، وأمامك إحدي وسيلتين للحاق باليوم الأخير ومن ثم قضاء العيد هناك، إما رحلة طيران اقتصادية، أو الوفاء لصديق الرحلة مع إحدي الطلقات التجريبية للشهاب داخل الأنبوب أو القطار السائر تحت الماء. في نيوزيلندا؛ اليوم الأخير كالأول في الاهتمام الذي بدأ بدافع اقتصادي كما في أستراليا، ولكنه بات خلال سنوات قليلة اجتماعيًا، وتعد أوكلاند نموذجًا في تطورها بسرعة شديدة لتكن من أكثر الأماكن التي يفضل المسلمون قضاء شهر رمضان بها، حيث لا تزيد فترة الصيام عن 9 ساعات يوميًا. ولعل ما أسهم في ذلك التطور هو تاريخ المسلمين هناك الذي يعود لنحو عام 1890 حيث وضع فيه نواة أول مسجد صغير أصبح فيما بعد كبيرًا، ومع الاهتمام برمضان لآخر يوم؛ تبدو أوكلاند علي أهب الاستعداد لاستقبال عيد الفطر بتجهيزات تامة للمساجد والساحات والحدائق لصلاة العيد. يحتفل المسلمون بالعيد هناك؛ بينما أفراد أمن، سيدات ورجال، مهمتهم حماية المحتفلين والعمل بيقظة وسط مشاركتهم فرحتهم، ومتطوعون من غير المسلمين لخدمتهم في الحدائق صحيًا، وآخرون يتدخلون في حالات الطوارئ كضياع طفلة صغيرة من والديها وهو أمر متوقع في حديقة مثل »إيدن» تحتشد بما يزيد علي 10 آلاف شخص. ومن المظاهر المعتادة هناك؛ إقامة عروض غنائية ومسرحية تبادر بها فرق الشارع والتي يقدم عدد منها بعض الفقرات الثقافية والتعليمية، واختاروا هذا العام موضوعًا موحدًا وهو »أخلاق الرسول محمد صلي الله عليه وسلم»، ومعها تتعدد احتفالات الخطبة والزواج، خاصة هذا العام الذي تدعم فيه الحكومة ذلك لاستبدال تعاسة المسلمين بسعادة، فالأفراح تذهب الأحزان.