لابد أن نعترف اليوم أننا نعيش زمنا جديدا لم يصنعه المثقف! تغيرت الصورة المألوفة التي يدّعيها المفكر النمطي، بأنه الرائد للمجتمع، ثمة قوي جديدة أثبتت ريادتها، هي قوة الشباب المتعلم المنفتح علي لغة العصر الحديثة وعلومها! صحيح أن المثقف التقليدي أخلي دوره لهؤلاء الشباب، لكننا لا نستطيع أن نقول: إن تجديد الحياة يقوم علي عاتق فئة دون غيرها! وقد أثبت الواقع أن المجتمع يحتاج إلي من يشعل شرارة التغيير ليتبعه أبناء الشعب بأكمله! إذاً السؤال الأول الذي يطرأ علي الذهن اليوم هو سؤال التغيير؟ هل هناك ثبات في الفكر والمجتمع؟ أم أن التغيير يحصل أحيانا دون أن نحس به؟ أكدت لنا الأحداث التاريخية التي عشناها في العام الماضي وهذا العام أن الثبات خدعة، وأن دوام الحال من المحال. ثورة الشباب إننا حين نتأمل الثقافة اليوم تقفز إلي أذهاننا صورة الشباب الثائر علي أنماط حياتية وثقافية وسياسية تدمر الحاضر والمستقبل، لهذا بات من الطبيعي أن نتساءل: هل هؤلاء الشباب الذين ثاروا في البلاد العربية نبتوا فجأة؟ أم هم حصيلة تراكم معرفي وتطور وعي جديد، انفتح علي العالم، وبدأ يقارن بين بلده المتخلف وبلدان أخري، كان قد سبقها في الانفتاح علي الحداثة في الماضي، مثلما سبقها في التخلص من الاستعمار، لكنه تخلّف عنها اليوم (اليابان، كوريا، ماليزيا...) فبدأ يتساءل: لماذا نحن خارج التاريخ؟ لماذا دولة كبيرة كمصر باتت مفعولا به، وانتهي دورها الفاعل في الحياة السياسية والاقتصادية و...الخ؟ لماذا تعاني الملايين من الأمية؟ لماذا الجوع والحرمان نصيب معظم الشعب؟ لماذا لا يكون مرور الزمن عاملا في ردم الهوة الطبقية بين الغني الفاحش والفقر المفزع؟ أين التطوّر الذي يستفيد من طاقات الشباب، التي تمّ تعطيلها عن العمل؟ أين المدارس والجامعات التي تبني شخصية الإنسان العربي؟ لم يعد الشباب اليوم يسافر ليطّلع علي ما يفعله الآخرون ليطوّروا بلدانهم، صار يملك فانوسا سحريا اسمه (الحاسوب) بكبسة زر فيه، يصبح العالم بين يديه، فيري بلدانا كانت متخلفة مثله، تجاوزته وانطلقت، لهذا سرعان ما أدرك هؤلاء الشباب أنه ليس بالخبز وحده يحييا الإنسان، ثمة قيم يفتقدها تحقق إنسانيته هي قيم الحرية والكرامة والعدالة، وأدرك أن ضياعها يعني ضياع كينونته ووجوده وفاعليته! أدرك أنه دون هذه القيم لن يطوّر وطنا أو بالأحري لن يكون إنسانا جديدا، يرفع رأسه عاليا بين الأمم، لهذا لن نستغرب أن يطلق بعضهم علي هذه الثورة التي بدأها الشباب بالثورة الأخلاقية! المثقف والمجتمع إننا اليوم أمام سؤال مقلق: هل يسهم المثقف العربي في بناء إنسان واع لمرحلة التغيير؟ أم أنه عالة علي هذه المرحلة؟ هل يفيد المثقف أن يغرق نفسه في قضايا شكلية؟ هل الجمال الفني يستطيع أن يؤثر بنا، حين ينفصل عن هموم الإنسان؟ إلي أي مدي نجد المثقف العربي قادرا علي مواكبة التغيرات؟ هل يمارس دوره الريادي، الذي يدّعيه، فعلا أم قولا فقط؟ هل يستطيع هذا المثقف أن يتمتع بالتواضع اللازم، كي يتعلم مما هو أصغر منه، لكنه أكثر حيوية وفاعلية؟! إننا نعيش مرحلة جديدة، بفضل عفاريت النت، أمدّتنا بدماء جديدة، زرعت الشباب في عروق ثقافتنا الهرمة، التي ينخرها الفساد، لهذا أردد الآية الكريمة »لا يغير الله ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم« إننا إذا لم نغيّر ذواتنا الآن، شبابا وشيبا، لن نكون قادرين علي المشاركة في التغيير، إننا أمام مفترق طرق، إما أن ننتظر الآخرين ونحن قانعون بدور التابع لهم، أو بالأحري دور الإمعة! وإما نلتحم بالشعب لنتعلم منه، ونعلّمه، فيكفّ المثقف عن تلك النظرة الاستعلائية التي ننظر بها إليه! نعم نحن في هذه المرحلة أحوج ما نكون إلي ممارسة نقد الذات، قبل نقد الآخرين، نحن، جماعة المثقفين، مسؤولون عن الكثير من التسيب في حياتنا، ولكن هل نجرؤ علي ممارسة نقدية لأعمالنا ومراجعة حقيقية لما نكتب أو نفعل؟ هل بدأنا نمتزج بالإنسان العربي؟ أم مازلنا نستعلي عليه، ونستخدم لغة غريبة عنه؟ هل نصغي لجيل شاب يعاني القهر والبطالة؟ ألا نسرع في كيل الاتهامات في وجهه؟ ألا نتهمه بالميوعة والركض وراء الأغاني الهابطة تارة؟ وتارة أخري نرميه بالفكر الديني المغلق الذي يفرّخ الإرهاب؟ لقد فاجأنا الشباب العربي بوعيه وانتمائه للوطن، حتي تجاوز كل التوقعات، فقدّم صورة حضارية للتغيير، لأول مرة يشاهد العالم في مصر أبناء الثورة ينظفون شوارعهم بعد نجاحهم، في حين قدّم الطاغية صورة نقيضة، فهو مازال ينتمي إلي عصر الجمال والبغال، لهذا استعان بالبلطجية كي يقضي علي تطلعات الشباب؟ من الطبيعي أن السلطة السياسية والثقافية عجزت عن الحوار مع الأجيال بأدوات حضارية، ربما لأن الشباب تفوق عليها في وعيه وتطوره وقدرته علي التضحية، في حين آثرت السلطة القمعية الثبات علي ما عرفته من طرق الإرهاب، وهي حين تطوّر نفسها، تطوّر أدواتها القمعية، لهذا لم تجد من وسيلة تدافع فيها عن نفسها سوي أدوات البلطجة! النقد الذاتي لا أمل أمام الثقافة العربية سوي أن تجدد نفسها بممارسة النقد الذاتي، وتطرح علي نفسها أسئلة لا تعرف المجاملة، فالصدق مع الذات سيفضي بها إلي صدق مع الآخرين، فتكسب احترامهم وتؤثر بهم، مثلما تتأثر تماما، ولكن من يمارس هذا النقد اليوم؟ من يمارس التواصل مع الأجيال الشابة؟ أعتقد أن الثقافة لن تنقذ نفسها من الجمود والرتابة إلا بتعزيز الحوار مع الأجيال، أعرف أن عوائق كثيرة تقف حائلا أمام هذا الحوار، نعم ثمة قلق وأوهام من تعزيز هذا الحوار! أذكر منذ سنتين وأنا أشجع طلابي في قاعة المحاضرات علي الحوار، نهضت طالبة وقالت: نحن نخاف الحوار! لنعترف بأننا بحاجة إلي تعزيز آلية الحوار بمعزل عن عقلية قديمة، تدمّر الفكر وحريته! ولنعترف أننا في زمن جديد، باتت فيه وسائل الاتصالات الحديثة وهي الجاذبة للشباب! تتجاوز كل الممنوعات والمحرمات! علينا أن نعترف بأننا لن نستطيع أن نقهر هذا الجيل بسلطة المنع والرقابة، وأن علينا أن نعزّز لديه فعالية نهملها ونتخيلها مدمرة، هي فعالية النقد، فنثق بعقولهم الثاقبة والمخلصة في اندفاعها نحو التغيير، علينا أن نصغي لعقولهم المتفتحة، التي فاجأتنا بوعيها ونضجها! وإن كنّا نخاف عليها من سيطرة الفكر الظلامي، فقد لاحظت انتشاره لدي بعض الطلاب في الجامعة، فمثلا حين حدثت طلابي عن قول لابن عربي في إحدي رسائله (بأن المسيحي في كنيسته قد يكون أقرب إلي الله من المسلم في مسجده، فالقلب السليم هو الأساس) ردّ علي أحد الطلاب مستهجنا، وقائلا: إن ابن عربي إنسان معتوه!!! إننا أمام تحد كبير، وهو أن نجعل المعرفة سلاحنا، لأنها أقوي من أي سلاح، فنؤسس جسور التفاهم والحوار بيننا وبين جيل تحاول كثير من وسائل الاتصال الحديثة استلاب عقله وقولبته وفق رؤية واحدة مغلقة للدين، خاصة بعد أن أفلح الشباب في تجاوز ثقافة الخوف، ولم يعد لها مجال في حياتهم! أعتقد أن من واجبنا أن ننقذه من الفكر الظلامي بتدريبه علي ممارسة النقد الذاتي، لكن قبل ذلك علينا أن نطرح علي أنفسنا السؤال التالي: هل نجد المثقف العربي، الذي يدعي الريادة في مجتمعه، يدرب نفسه علي تقبّل النقد الواعي، الذي يبني إنسانا أفضل؟ إننا إن لم نصغِ لهذه الأجيال، ونحترم رأيها فينا، نحن الكبار، سنعيش قطيعة مع العصر، ولن نستطيع أن نسهم إلي جانب الشباب في إنجاز وعي جديد، يطوّرنا، ويدفعنا إلي الإحساس بروعة الحياة، التي هي في تغيير مستمر شئنا أم أبينا!