«الداخلية» تنظم أولى الدورات التدريبية مع إيطاليا عن «الهجرة غير الشرعية»    «إسكان النواب» توافق على موازنة الهيئة القومية لمياه الشرب والصرف الصحي    تداول 118 ألف طن و 535 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموائ البحر الأحمر اليوم    استشهاد 34 فلسطينيا في غزة من بينهم 22 برفح (تفاصيل)    السيسي عن دعوته لزيارة البوسنة والهرسك: سألبي الدعوة في أقرب وقت    أنشيلوتي لا يعرف الخسارة أمام بايرن في دوري أبطال أوروبا    «لازم اعتذار يليق».. شوبير يكشف كواليس جلسة استماع الشيبي في أزمة الشحات    تعرف على حقيقة تسمم مياه الشرب في مركز قوص بقنا    بعد رحيله.. تعرف على أبرز المعلومات عن المخرج والسيناريست عصام الشماع (صور)    الجندي المجهول ل عمرو دياب وخطفت قلب مصطفى شعبان.. من هي هدى الناظر ؟    إيرادات قوية لأحدث أفلام هشام ماجد في السينما (بالأرقام)    وزير الصحة: توفير رعاية طبية جيدة وبأسعار معقولة حق أساسي لجميع الأفراد    فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا.. «البحوث الإسلامية» يطلق حملة توعية شاملة بمناسبة عيد العمال    إعلام عبري: عشرات الضباط والجنود يرفضون المشاركة في اجتياح رفح    مصرع 42 شخصًا على الأقل في انهيار سد شمال نيروبي    «العمل» تنظم فعاليات سلامتك تهمنا بمنشآت الجيزة    الأنبا بشارة يشارك في صلاة ليلة الاثنين من البصخة المقدسة بكنيسة أم الرحمة الإلهية بمنهري    محمد شحاتة: التأهل لنهائي الكونفدرالية فرحة كانت تنتظرها جماهير الزمالك    صعود سيدات وادي دجلة لكرة السلة الدرجة الأولى ل"الدوري الممتاز أ"    عرض صيني لاستضافة السوبر السعودي    عواد: كنت أمر بفترة من التشويش لعدم تحديد مستقبلي.. وأولويتي هي الزمالك    كيف احتفلت الجامعة العربية باليوم العالمي للملكية الفكرية؟    إصابة عامل بطلق ناري في قنا.. وتكثيف أمني لكشف ملابسات الواقعة    «أزهر الشرقية»: لا شكاوى من امتحانات «النحو والتوحيد» لطلاب النقل الثانوي    استمرار حبس 4 لسرقتهم 14 لفة سلك نحاس من مدرسة في أطفيح    محافظ أسيوط يشيد بمركز السيطرة للشبكة الوطنية للطوارئ بديوان عام المحافظة    القومي لحقوق الإنسان يناقش التمكين الاقتصادي للمرأة في القطاع المصرفي    1.3 مليار جنيه أرباح اموك بعد الضريبة خلال 9 أشهر    أبو الغيط يهنئ الأديب الفلسطيني الأسير باسم الخندقجي بفوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية    515 دار نشر تشارك في معرض الدوحة الدولى للكتاب 33    محافظ الغربية يتابع أعمال تطوير طريق طنطا محلة منوف    مركز تدريب «الطاقة الذرية» يتسلم شهادة الأيزو لاعتماد جودة البرامج    بالاسماء ..مصرع شخص وإصابة 16 آخرين في حادث تصادم بالمنيا    الوادي الجديد تبدأ تنفيذ برنامج "الجيوماتكس" بمشاركة طلاب آداب جامعة حلوان    عامر حسين: لماذا الناس تعايرنا بسبب الدوري؟.. وانظروا إلى البريميرليج    دراسة تكشف العلاقة بين زيادة الكوليسترول وارتفاع ضغط الدم    المشاط: تعزيز الاستثمار في رأس المال البشري يدعم النمو الشامل والتنمية المستدامة    ضحايا بأعاصير وسط أمريكا وانقطاع الكهرباء عن آلاف المنازل    كشف ملابسات واقعة مقتل تاجر خردة بالإسماعيلية.. وضبط مرتكب الواقعة    ولع في الشقة .. رجل ينتقم من زوجته لسبب مثير بالمقطم    منهم فنانة عربية .. ننشر أسماء لجنة تحكيم مهرجان كان السينمائى فى دورته ال77    مؤسسة أبو العينين الخيرية و«خريجي الأزهر» يكرمان الفائزين في المسابقة القرآنية للوافدين.. صور    مصرع شخض مجهول الهوية دهسا أسفل عجلات القطار بالمنيا    التعاون الاقتصادي وحرب غزة يتصدران مباحثات السيسي ورئيس البوسنة والهرسك بالاتحادية    «الرعاية الصحية» تشارك بمؤتمر هيمس 2024 في دبي    خلي بالك.. جمال شعبان يحذر أصحاب الأمراض المزمنة من تناول الفسيخ    رمضان السيد: الأهلي قادر على التتويج بدوري أبطال إفريقيا.. وهؤلاء اللاعبين يستحقوا الإشادة    أول تعليق من ياسمين عبدالعزيز على طلاقها من أحمد العوضي    رئيس الوزراء: 2.5 مليون فلسطيني في قطاع غزة تدهورت حياتهم نتيجة الحرب    فضل الدعاء وأدعية مستحبة بعد صلاة الفجر    سعر الذهب اليوم الاثنين في مصر يتراجع في بداية التعاملات    أمين لجنة الشئون الدينية بمجلس النواب: هذا أقوى سلاح لتغيير القدر المكتوب    مطار أثينا الدولي يتوقع استقبال 30 مليون مسافر في عام 2024    "استمتع بالطعم الرائع: طريقة تحضير أيس كريم الفانيليا في المنزل"    سامي مغاوري: جيلنا اتظلم ومكنش عندنا الميديا الحالية    بايدن: إسرائيل غير قادرة على إخلاء مليون فلسطيني من رفح بأمان    من أرشيفنا | ذهبت لزيارة أمها دون إذنه.. فعاقبها بالطلاق    الإفتاء توضح حكم تخصيص جزء من الزكاة لمساعدة الغارمين وخدمة المجتمع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دمار كاتدرائية نوتردام ليس الأول.. أكثر من 90% من الإنجازات الإنسانية فقدناها علي مر التاريخ:المحو.. أسوأ نهاية تنتظر التراث
نشر في أخبار الأدب يوم 27 - 04 - 2019

المتحف الوطني بالبرازيل
أنفق الآلاف من البشر من عمرهم وجهدهم لصنع ما ظنوا أنه تاريخ لفكرهم وإنسانيتهم سيبقي أبد الدهر، لكن صفحات ضياع هذا الصُنع بدأت هي الأخري منذ قرون واستمرت علي يد من خلفوهم، سواء نتيجة صراعاتهم التي لا تنتهي مع تطور آلات التدمير أو بسبب إهمالهم الجسيم، وخلال العقود الأخيرة، حاول البعض استعادة ما فُقد وإعادته للحياة.
البوذية ومسجد بابري
تبدو خريطة العالم كئيبة ومحبطة عند تلطيخها ببقاع سوداء وحمراء تمثل المواقع التراثية والثقافية التي فُقدت وتُفقد يوما بعد الآخر وتمتد شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً، وإذا ما تجولنا في هذه الخريطة وتعرضنا للبعض، بدءاً من أقصي الشرق، سنجد أنه في الهند تعرضت »جامعة نالاندا»‬ للتدمير علي يد التركي »‬بختيار خليجي» عام 1193 والتي يعود تأسيسها للقرن الثالث الميلادي، في الوقت الذي كان يدرس بها أكثر من 10 آلاف طالب يرعاهم ما يقرب من 2000 مدرِّس في نحو 20 مجالاً، هذا التدمير تسبب في ضياع الكثير من النصوص البوذية، وفي عام 2010 تم تأسيس جامعة تحمل ذات الاسم وتبعد عدة أميال عن الموقع السابق، متخصصة في الدراسات العليا ولا علاقة بينها وبين الجامعة القديمة تصميما ومضمونا.
كما قام نحو 15 ألف هندوسي بهدم وتدمير »‬مسجد بابري» أحد أكبر المساجد في شبه الجزيرة الهندية عام 1992 والذي كان يعد من أهم مراكز الدعوة الإسلامية هناك ويعود تأسيسه إلي القرن السادس عشر، كان يضم الكثير من الكتب الهامة والمصاحف الكبري الفريدة المزودة بشروح وتفسيرات، وكذلك أقدم نسخة صوتية للقرآن الكريم، ولم ينج شيء منها، وما يزال أمر موقع المسجد المدمر في يد القضاء الهندي ولم يُبت فيه بعد.
وصولا للأحدث في الهند من حيث الوجود والفناء، »‬المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي» بنيودلهي الذي يعود تأسيسه لعام 1972، والذي تسبب حريق هائل في تدميره عام 2016، وكان يحتوي علي مجموعة نادرة من الحفريات والنماذج النباتية والحيوانية المتنوعة والفريدة التي أكلتها النيران، ولم يُكشف عن أسباب الحريق بعد.
الحروب تقتل التراث
إلي اليابان؛ ففي عام 1945، قامت القوات الأمريكية بقصف »‬قلعة شوري» الشهيرة أثناء الحرب العالمية الثانية والذي يعود تاريخ بناؤه للقرن الثاني عشر الميلادي أثناء حكم الامبراطور غوسوكو، الذي اهتم برصد تاريخ اليابان، وكانت هذه القلعة تحتفظ بالكثير من أسرار التراث الإنساني الياباني وتفسير ما لدي أبنائه من سمات، والتي حاول تعويض القليل منها بالاستعانة بالمعمرين ممن هم علي دراية بهذا التراث، وتحوَّل هذا الموقع إلي حرم جامعي منذ عام 1992، كما فقدت مدينة طوكيو أثناء رمي القاذفات، الكثير من مقدراتها الثقافية، حيث تجاوز ما ألقيت به 1665 طناً من القنابل.
عاش »‬قصر ساندور» المجري بمدينة بودابست كذلك المأساة نفسها وتعرض للقصف أثناء الحرب العالمية الثانية وتحديدا عام 1941، ليقضي علي أحد معالم البلاغ وتاريخ يقرب من 150 عاما، ويحفظ بين جدرانه تراث نحو 10 قرون قبلها، خاصة مجموعة الكتب الفلسفية النادرة المكتوبة بأكثر من 45 لغة، التي حرصت الحكومة أن تحافظ عليها عقب الاستقلال عام 1919، لكن لم ينج منها شيء، وقد بدأ ترميم القصر عام 1989، وحاول القائمون علي ذلك استعادة شكله القديم.
لم ترحم انتفاضة براغ التشيكية عام 1945 تاريخ المدينة وجذورها الممتدة، حيث دمرت »‬قاعة البلدة القديمة» التي تأسست عام 1313 علي الطراز المعماري القوطي، لكنها كانت غير عادية لأنها مكونة من عدة منازل مجاورة وظلت توسعات تجري بها لعدة قرون بضم بيوت أخري إليها، وظلت القاعة تستقبل اللمسات من مختلف الأشكال المعمارية الأكثر تطورا في مزيج عجيب ومدهش، إلي جانب حفظ المجلدات والمخطوطات النادرة به والتي تجاوزت 70 ألف، وقد دمرها الحريق الذي اندلع أثناء الانتفاضة تماما، خلال السنوات الطويلة التي أعقبت ذلك أقيمت عدة مسابقات لوضع تصميم جديد مناسب للقاعة ولكن لم يتم تنفيذ أي من التصميمات الفائزة.
الأصليون وأرشيف كولونيا
ودمر حريق هائل »‬قصر البستان» بمدينة سيدني الأسترالية نتيجة نقص خبرة العاملين في التعامل مع الوصلات الكهربائية عام 1882، وذلك عقب تأسيسه بنحو 5 سنوات فقط، لكن تدميره ترك أثراً بشرياً كبيراً، حيث ضاع معه ما يقرب من ألف قطعة أثرية تخص سكان سيدني الأصليين، ولم يفكر الأستراليون في استعادته قط، حيث يحل محله حالياً مجموعة من ناطحات السحاب.
في أيرلندا، واصلت الحرائق التهام التراث، ففي عام 2009 وفي يوم عيد الميلاد المجيد قضت علي »‬كاتدرائية القديس ميل» التي شيدت في الفترة ما بين عامي 1840 و1856، والتي كانت تحمل بين جنباتها وبين أعمدتها وأسوارها تاريخا وتراثا يعود لنحو ألف عام سابقة علي بنائه، ولم تتوصل جهات التحقيق لأسباب نشوب هذا الحريق، وفي سبيل محاولة استعادة المبني، بدأ العمل علي إعادته للحياة مباشرة وتم افتتاحه عام 2014.
شهد عام 2009 أيضا ضياع الأرشيف التاريخي لمدينة كولونيا الألمانية الذي يبدأ منذ عام 1409، والذي كان يتضمن وثائق لقرون تسبق ذلك التاريخ، وأقدم وثيقة بينها يعود تاريخها لعام 922 ميلادية، حيث انهار المبني الحافظ لهذا الأرشيف أثناء حفر نفق لخط سكة حديد تحت الأرض، ومنذ انهيار المبني وتلف المجلدات تجري محاولات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ومن ثم إعادة ترتيبه في سياقه المنطقي.
وفُقد التاريخ السويدي المبكر والطويل بحسب المؤشرات البحثية عندما احترقت قلعة »‬كرونور» الضخمة بستوكهولم عام 1697، بما كانت تضمه من مكتبات وطنية، وذلك بعد نحو أربعة قرون علي تشييدها، وتمت محاكمة عدد من المسئولين بعد الحريق وحُكم علي اثنين منهم بالإعدام لأن كل منهما أهمل في واجبه، ولكنهما ماتا في السجن قبل تنفيذ الحكم، وكان من المخطط إعادة بنائه إلا أن ذلك لم يتم.
آلاف الكتب والوثائق
كانت »‬مكتبة جامعة لوفين» البلجيكية سيئة الحظ، فقد دُمرت مرتين مع كل حرب عالمية، الأولي عام 1914، والثانية خلال معركة لوفين عام 1940، وخلالهما ضاعت مئات الآلاف من الكتب، وأكثرها لم يكن هناك نسخا أخري منها، ولم تنجح محاولة إعادة بنائها لمرة ثالثة حيث فقدت اهتمام ورغبة من بداخل الجامعة وخارجها، لتتحول إلي نصب تذكاري عام 1987.
والأسوأ منها كانت »‬كاتدرائية سانت مارتن» بمدينة أوتريخت الهولندية التي تعرضت لعدة كوارث أودت بها وبتاريخها والتراث البشري المتعلق بها، حيث تأسست عام 630 ميلادية وكان بناؤها علي الطراز القوطي، وتعرضت للتدمير الجزئي لأول مرة بعدها بنحو مئة عام، وتكرر الأمر خلال منتصف القرن التاسع عشر، والتهمتها النيران للمرة الثالثة عام 1023، والرابعة عام 1253، وفي كل مرة كان هناك من يحاول البحث عما تبقي وإنقاذه، حتي كانت العاصفة التي حطت أجزاء كبيرة منها عام 1674، ومنذ ذلك العام وكلما وُضعت خطة لإنقاذ المبني وما يخفيه أسفله تحت الحطام، يصيبه حريق أو عاصفة تعيده إلي حالة أسوأ مما كان عليها، وفي عام 2013 بدأ مشروع الكشف عن الأجزاء التراثية والأثرية المفقودة من الكاتدرائية.
تعرضت غالبية الكنائس والأديرة في أسبانيا وشبه جزيرة أيبريا ككل للتخريب والتدمير نتيجة التعصب الديني المتبادل بين الطوائف المختلفة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومعه فُقدت الكثير من المكتبات ودور المحفوظات، وضاعت مئات الآلاف من الكتب والوثائق، في حين صمدت كنيسة »‬سانتا ماريا دل مار» الكبري بمدينة برشلونة، والتي شُيدت خلال القرن الرابع عشر، أكثر من غيرها، لكن مقاومتها انهارت مع الحرب الأهلية، واندلعت فيها النيران عام 1936 واستمرت لأكثر من 11 يوماً دون أن يتدخل أحد ليحاول إطفاءها أو حتي إنقاذ أي من مقتنياتها الثمينة، مما أدي إلي تدمير المذبح الباروكي الرائع وجميع الصور والأرشيف التاريخي، لم ينج سوي بعض الجدران والأعمدة وبعض النوافذ الزجاجية المزخرفة في الطابق العلوي، بعد سنوات طويلة بدأت محاولة استعادتها وتعد من أكثر المواقع التي أمكن استنساخها شكلاً.
المكتبة الوطنية ولا بلاتا
في بداية شتاء عام 1966، ضرب فيضان هائل ومفاجئ نهر أرنو ومن ثم مدينة فلورنسا عاصمة النهضة الإيطالية، مما أغرق معه المكتبات التاريخية والكنائس والمعارض الفنية حيث بلغ ارتفاع المياه إلي نحو 6.7 متر، والتي اختلط بها زيت التدفئة والطين والصرف الصحي، ودُمرت معه آلاف لا حصر لها من الكتب والخرائط والأعمال الفنية التي لا تقدر بثمن، كما تساقطت العديد من اللوحات الجدارية، وتلفت محفوظات دار الأوبرا ديل دومو التي اشتملت علي أكثر من 6 آلاف مجلد من الوثائق و55 مخطوطة مضيئة، وجميع مجلدات مكتبة غابنيتو فيوسيو البالغ عددها 250 ألف مجلد، ومقنيات المكتبة الوطنية التي تجاوزت 1.3 مليون قطعة، ما بين كتب وخرائط وملصقات وغيرها مما يعود تاريخه لأكثر من عشرة قرون مضت، وأي من هذه الخسائر أمكن تعويضها، وإن حاول أهل المدينة البحث عن ماهية ما فُقد من مقنيات ومحاولة استعادته بعيدا عن المباني، وهي حلقة في سلسلة الكوارث التي نالت من التراث في إيطاليا بداية من حريق روما الذي دمر ثلثي المدينة، تلك السلسلة التي لم تتوقف بعد.
وفي شتاء آخر، ولكن في عام 1977، كانت الساعات الأخيرة من تاريخ وتراث »‬أرجنتينو دي لا بلاتا» وهي ثاني أكبر دار أوبرا في الأرجنتين بعد »‬دار كولون» في بوينس أيرس، وقد بُنيت علي الطراز الإيطالي القديم وبدأ بناؤها عام 1887، وتم افتتاحها عام 1890، بعد خمس سنوات فقط من تأسيس مدينة »‬لا بلاتا»، وكتبت الاحتجاجات في البلاد كلمة النهاية لهذا الصرح التاريخي نتيجة حريق هائل تسبب في ضياع آلاف الكتب والنصوص والمعالجات المختلفة التي وضعتها مجموعة من أهم رواد الأدب والفن في البلاد، وخلال 22 عاماً تالية اكتمل بناء دار جديدة، لكنها لا تشبه الأولي في أي شيء.
بيكاسو ودالي والسموم
كان فقد التراث الإنساني عظيماً من جراء ثلاث حرائق شهدتها البرازيل خلال العقود الأربع الأخيرة، ففي كل مرة كان ما يضيع يخص البشر جميعا والأرض برمتها، الأولي كانت في صيف عام 1978؛ ظهرت ألسنة اللهب والنيران تأكل في مبني »‬متحف الفن الحديث» بساحة فلامنجو بمدينة »‬ريو دي جانيرو» الذي تم بناءه في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ويتكون من قاعات المعارض الفنية الدائمة والمؤقتة، مدرسة الفنون التي تشغل بالمحاضرات وتجارب الأداء، المسرح بغرفه التي تشهد العروض المسرحية والموسيقية والراقصة وعروض الأفلام وورش العمل وغيرها، ورُجح أن يكون وراء الحريق إما سيجارة أو عطل كهربي، والذي تسبب في تدمير أعمال فريدة لبابلو بيكاسو، خوان ميرو، سالفادور دالي، ماكس إرنست، بول كيلي، ديفيد ألفارو وعشرات غيرهم، وأعيد تجديد المتحف، إلا أنه لا يشبه الأصلي ولم يعد يحظي بالاهتمام ذاته.
بينما الثانية وقعت في صيف عام 2010؛ وراح ضحيتها مجموعة التاريخ الطبيعي بمعهد »‬بوتانتان» وهو واحد من أهم مراكز الأبحاث البيولوجية في العالم ويعود تأسيسه لعام 1901، وتعد المجموعة التي قضت عليها النيران هي الأهم والتي كانت تتضمن عدداً ضخماً من العينات المتنوعة للثعابين والعناكب والعقارب وغيرها من الزواحف والحشرات، كما ضاع معها جهود 90 عاماً من الأبحاث والتجارب لاستخراج السموم وتحليلها لصنع مضادات لها وكذلك أدوية للكثير من الأمراض، خاصة التي لم يتم التوصل لعلاجات لها حتي الآن، ولم تتوصل التحقيقات لأسباب الحادث.
أما الثالثة فكانت في نهاية صيف عام 2018؛ والتي دمرت تماما »‬المتحف الوطني» بمدينة »‬ريو دي جانيرو» الذي يعود تاريخ تشييده لعام 1784، وانتفت معه مجموعة يتجاوز عددها 20 مليون قطعة تتضمن واحدة من أكبر مجموعات التاريخ الطبيعي والحفريات البشرية وغير البشرية، وكذلك مكتبة علمية ضخمة بها الآلاف من الكتب النادرة التي لم يكن لها نسخ احتياطية سواء ورقية أو رقمية، ومنها المجموعة المتعلقة بالسكان الأصليين في البرازيل واللغات الأصلية والمنقرضة، مجموعات ضخمة من القطع الأثرية المتنوعة، ولم تتوصل التحقيقات لشيء يُذكر حول أسباب الحريق، ولم يتقرر بعد إن كان سيعاد تشييده، لكن ما فقد من مقتنيات بالتأكيد لن يعوض.
الكريستال ووندسور
حظت المملكة المتحدة بنصيب غير قليل من حوادث تدمير التراث، منها ما ضاع خلال »‬حريق لندن الكبير» عام 1666 والذي التهم لندن القديمة ومبانيها التي يعود تاريخ بناؤها للعصور الوسطي وكان يحيط بها السور الروماني، تضمنت نحو 87 كنيسة إضافة إلي كاتدرائية القديس بولس، 28 مكتبة خاصة والآلاف من الكتب ومئات المجلدات شديدة القدم وجميعها لم يكن هناك نسخ أخري منها مطلقا في ذلك الوقت، ولم يستعاد شيئا مما فقدته المدينة.
وفي عام 1936 قضت نيران أخري علي »‬قصر الكريستال» الذي شُيد عام 1850 بهدف عرض أكبر قدر من المنتجات التي تأتي بها العديد من الدول الأوروبية وغيرها مثل بلجيكا، فرنسا، أستراليا وهولندا، ولهذا صمم ذلك القصر من الزجاج، والأرضية الخشبية، ورغم روعة ذلك التصميم، لكنه أسهم في انتشار النيران والقضاء عليه خلال ساعات قليلة، ولم تجدي المحاولات المضنية لإنقاذه.
لم ترحم النار أيضا تاريخ »‬قلعة وندسور» الطويل الذي يعود تاريخ بناؤه للقرن الثاني عشر، حيث قضت عليه في حريق كبير عام 1992، وآخر في عام 2015 أضر كثيراً بفندق »‬كالدون بارك» وأضاع ملامح تراثه الذي يعود للقرن الثامن عشر، وغيره بعد عام اغتال هو الآخر فندق كلارنسي الملكي، أقدم فندق في انجلترا حيث شُيد عام 1752، وأحدثها وأكثرها ألماً في القلوب عام 2018 الذي جاء ليكمل عملاً لم يكمله حريق سابق عام 2014؛ »‬مدرسة جلاسجو للفنون» الاسكتلندية التي تأسست عام 1845، وتتفرد بأنها المدرسة الفنية الوحيدة في البلاد التي تمنح شهادات جامعية عليا، ورغم هذا فإن أبناءها يكافحون حتي تظل المدرسة مهما كلفهم هذا ولا تتحول لمتحف يضيع معه تاريخ فني وعلمي هام.
الشكل دون المضمون
لفرنسا كذلك عدة جولات مع ضياع التراث، منها »‬قصر التويليري» الذي كان شاهداً تاريخياً ناطقاً ومفعماً بالحيوية منذ عام 1564 وحتي غزته إحدي حرائق الثورة الفرنسية الرابعة عام 1871، كان الأمر متعمداً، فكاد أن يمتد الحريق إلي متحف اللوفر، وبعد نحو 11 عاماً اكتشفت لجنة من الجمعية الوطنية أن هناك إمكانية لترميم القصر واستعادته، لكنهم اتخذوا قراراً بهدمه، ولقي المصير ذاته أيضاً قصر فرساي عام 1978 الذي بدأ تأسيسه عام 1589 وضاعت تماثيل ولوحات لا تقدر بثمن، وغيرها، وصولا لكاتدرائية نوتردام.
وقد سجلت فرنسا أفضل نجاح ممكن في استعادة بعض الأماكن شكلاً، وحاولت أن تقرب من المضمون والروح دون جدوي، فلم يعد قصر فرساي كما كان، ولم تحظي مكتبة باريس بالمكانة التي كانت عليها قبل الحرب العالمية الثانية، خاصة أنها لم ولن تستطع تعويض ما فقدته من أوعية ومواد.
المساجد تشاطر الكنائس
إذا كانت الحروب والحرائق التي ضربت بقاعاً كثيرة في العالم ونالت من تراثها وتاريخها، ربما تبدو غير متعمدة، لكنَّ هناك بقاعاً أخري تعرضت للتخريب المعاصر عن عمد يبرز بينها ما أصاب البوسنة والهرسك وكرواتيا وكوسوفو أثناء الحرب اليوغسلافية (1991-1999) وكان العبث بالتراث وطمس الهوية متعمداً، وهذا ما أقرته المحكمة الجنائية الدولية، بأنه أكبر تدمير للتراث الثقافي في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، منه التراث الإسلامي والعثماني في البوسنة والهرسك، متضمناً مساجد محمد باشا كوكافيكا وأرنودجا وفرحات باشا، والمكتبات الوطنية العريقة في سراييفو منها مكتبة »‬فيجيسينيكا» التي يعود تاريخ تأسيسها لعام 1896، وعشرات الكنائس والمكتبات في كوسوفو وكرواتيا لاقت حتفها أيضاً ومنها كنيسة »‬القديس نيكولاس» بمدينة كارلوفاتش و»‬دير دراجوفيتش» بمدينة فرليكا.
سوريا والعراق
بحسب ما أكدته العديد من الدراسات ومحاولات ببلوجرافيا التراث فإن الدول العربية أكثر من وقع فريسة التدمير المتعمد، ومنذ أزمنة سحيقة، ففي مصر كانت جريمة حريق مكتبة الإسكندرية التي تسبب فيها يوليوس قيصر المرجح أنها وقعت عام 48 قبل الميلاد، والتي تسببت في تدمير ما يزيد علي 40 ألف مخطوط، ذكرت بعض المصادر أنها تزيد علي 200 ألف مخطوط، ولم تكن مكتبة عادية، لكنها كانت مؤسسة بحثية لا مثيل لها في العالم، لهذا من المتوقع أن من بين كنوزها الضائعة ما هو جديد ومبتكر في الرياضيات والفلك والفيزياء والعلوم الطبيعية وغيرها، وكانت أهم ركيزة في الدولة المصرية، وهو ما يجعل المكتبة الحالية لا تمت بصلة للمكتبة الأصلية من كل الوجوه، بينما ذهب قصر »‬المسافر خانة» بتاريخه الذي يعود لعام 1779 وفُقد كل أثر له باحتراقه عام 1998، ومثله الأوبرا القديمة التي عاشت بين عامي 1869 و1971، والمجمع العلمي المصري الذي ظل شامخاً منذ تأسس عام 1798 وحتي أحرق عام 2011؛ ذهبوا إلي غير رجعة، فأصبح الأول وكراً، والثانية جراجاً والثالث ركاماً مهملاً.
ولكل دولة عربية ذكرياتها القديمة من تدمير تراثها عمداً، لكن لسوريا والعراق واقعهما المعاصر الأليم والمستمر، والفداحة في الأمر أن التخريب يحدث بسرعة شديدة والخسائر ضخمة وبضربات متسارعة ودقيقة يبدو معها الهدف واضحاً، ومنها كمثال يعكس شيئاً من قيمة ما فُقد؛ تدمير سوق حلب الممتد وجوده تاريخياً منذ أربع آلاف عام في سوريا، والمسجد النوري الذي يعود تاريخ تأسيسه لعام 1172.
كما فقد الوطن العربي ملايين الكتب علي مدي تاريخه عبر الحرق والإغراق عمداً علي يد مجموعة من الطغاة والجهلاء، والتي كان من المستحيل تعويضها، تكرر ذلك في عصور العباسي الثاني والعثماني وكذلك في الأندلس وغيرها، فحرقت وأغرقت كتب حسن البصري، داود الطائي، ابن رشد، سفيان الثوري، ومكتبات بو عمار وبن حزم الأندلسي، ويقال أن أكثر من ثلث كتب العالم فُقدت عندما ألقي التتار بها في نهر دجلة، وخلال فترة طويلة ماضية وحتي كتابة هذه السطور؛ فُقد الكثير من المقتنيات الثقافية والتراثية من مخطوطات ولوحات وتماثيل وغيره حيث أتلفت ودُمرت أثناء نهبها من قبل اللصوص، وخلال البحث والرصد سجل عدد من الدراسات من أدقها ورقة بحثية للباحثة »‬ناتالي بوتز» أن نحو 35% مما نُهب من التراث العربي بمختلف أشكاله أهدر ودُمر وشُوه أثناء تهريبه وإخفائه.
العودة إلي الغابة
أصبح الحديث عن التراث الإنساني وقيمته وإمكانية استعادته من عدمه في بؤرة الاهتمام تأثراً بحادثة حريق كاتدرائية نوتردام، ومما يمكن أن نتوقف عنده من آراء خبراء التراث البشري والثقافي وباحثيه ما قاله »‬جان كلود ديفيد»:
»‬إن محاولة استعادة المباني القديمة بتصميم مشابه وليس مطابق أمر صعب ومعقد للغاية، لأن الأجواء المحيطة والروح التي كانت عند تصميم وتنفيذ المبني الأصلي لا يمكن استعادتها، لهذا فمن الأفضل أن يكون القديم إلهاماً لبناء آخر علي غراره ويناسب ما يحتاجه ويتطلبه الوقت الراهن، ولا يعد هذا استعادة للتراث، أما ما فُقد من مقتنيات فريدة وأبحاث لم تُسجل أو تلفت سجلاتها، فهو أمر أقرب للمستحيل، ليس مستحيلاً كلياً، لكنه أكثر صعوبة، حيث يتطلب البحث عن المصادر التي يمكن أن تتيح بعض البدائل، إلا أنها تحتاج لجهد ووقت كبيرين».
وفي شأن آخر تحدث »‬رودريك بيلي»:
»‬إن أشكال فقد التراث البشري والإنساني كثيرة ومتنوعة، وتحدث باستمرار، فهناك قلة قليلة خلال التاريخ البشري يضيفون له ويستكملون البناء، بينما الأغلبية الساحقة تعمل علي هدم كل ما بُني وما هو مفيد بعدما تتمكن الأنا من كل منهم، ولهذا فإن أكثر من 90% من التراث البشري والإنساني فُقد علي مر التاريخ وحتي الآن، ونسبة الفقد في تزايد يومياً».
وتضيف »‬روبن بالينجر»:
»‬يبدو العالم أكثر خطورة، وجميعنا نتساءل »‬لماذا؟ّ»، والإجابة التي يجب أن نعرفها ونعيها جيداً أننا نفقد التراث بسرعة أكبر من إمكانية تعويضه، مما يفقد كل إنسان هويته وقدرته علي الإبداع وسلوكه كإنسان، وقدرته علي التواصل مع غيره، وأخشي أن يأتي وقت لا نجد فيه تراثاً إنسانياً نستند إليه ونرتكز، فنعيد الأرض لسيرتها الأولي كغابة».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.