«يأتي حاملًا البهجة والأمل».. انتصار السيسي تهنئ الشعب المصري ب«شم النسيم»    جامعة أسيوط تنظيم أول مسابقة للتحكيم الصوري باللغة الإنجليزية على مستوى جامعات الصعيد (AUMT) 2024    تراجع جديد في سعر كرتونة البيض اليوم الاثنين    «الرقابة المالية» تنشر الثقافة المالية في جامعات مصر بندوات توعوية    توريد 58 ألفا و99 طن قمح إلى صوامع وشون القليوبية    الطن يسجل هذا الرقم.. سعر الحديد اليوم الاثنين 6-5-2024 في المصانع المحلية    محافظ المنوفية: 56 مليون جنيه حجم استثمارات مشروعات الخطة الاستثمارية بمركزي شبين الكوم وتلا    استعدادا لحرب محتملة.. روسيا تبدأ في إجراء مناورة بتشكيلات صاروخية    «أونروا»: سنحافظ على وجودنا في رفح الفلسطينية لأطول فترة ممكنة    بمناسبة عيد ميلاده.. كوريا الشمالية تدعم الزعيم كيم جونج أون بقسم الولاء    موعد مباراة باريس سان جيرمان وبوروسيا دورتموند في دوري أبطال أوروبا.. المعلق والقنوات الناقلة    على معلول طرف.. أزمة في الأهلي قبل مواجهة الترجي    منتخب شابات اليد يستعد لبطولة العالم من بورسعيد    «الأرصاد»: أجواء ربعية معتدلة نهارا في معظم الأنحاء (فيديو)    إيرادات السرب تقترب من حاجز ال15 مليون جنيه بعد 5 أيام في دور العرض    4 أفلام تحقق أكثر من 7.5 مليون جنيه في دور العرض خلال 24 ساعة    وسيم السيسي: قصة انشقاق البحر الأحمر المنسوبة لسيدنا موسى غير صحيحة    استشاري تغذية توجّه نصائح لتفادي خطر الأسماك المملحة    في شم النسيم.. هيئة الدواء توجه 7 نصائح ضرورية عند تناول الفسيخ والرنجة    قبل أولمبياد باريس.. زياد السيسي يتوج بذهبية الجائزة الكبرى ل السلاح    طلاب مدرسة «ابدأ» للذكاء الاصطناعي يرون تجاربهم الناجحة    التعليم تختتم بطولة الجمهورية للمدارس للألعاب الجماعية    محافظ المنوفية يعلن جاهزية المراكز التكنولوجية لبدء تلقى طلبات التصالح غدا الثلاثاء    الاتحاد الأوروبي يعتزم إنهاء إجراءاته ضد بولندا منذ عام 2017    ماجدة الصباحي.. نالت التحية العسكرية بسبب دور «جميلة»    بالفيديو.. مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية: شم النسيم عيد مصري بعادات وتقاليد متوارثة منذ آلاف السنين    وفاة شقيق الفنان الراحل محمود ياسين.. ورانيا ياسين تنعيه: مع السلامة عمي الغالي    التعليم العالي: تحديث النظام الإلكتروني لترقية أعضاء هيئة التدريس    كشف ملابسات مقتل عامل بأحد المطاعم في مدينة نصر    «المستشفيات التعليمية» تناقش أحدث أساليب زراعة الكلى بالمؤتمر السنوى لمعهد الكلى    استشاري تغذية ينصح بتناول الفسيخ والرنجة لهذه الأسباب    مفاجأة عاجلة.. الأهلي يتفق مع النجم التونسي على الرحيل بنهاية الموسم الجاري    إزالة 9 حالات تعد على الأراضي الزراعية بمركز سمسطا في بني سويف    فشل في حمايتنا.. متظاهر يطالب باستقالة نتنياهو خلال مراسم إكليل المحرقة| فيديو    مقتل 6 أشخاص في هجوم بطائرة مسيرة أوكرانية على منطقة بيلجورود الروسية    فنان العرب في أزمة.. قصة إصابة محمد عبده بمرض السرطان وتلقيه العلاج بفرنسا    موعد عيد الأضحى لعام 2024: تحديدات الفلك والأهمية الدينية    إصابة أب ونجله في مشاجرة بالشرقية    اتحاد القبائل العربية يحذر من خطورة اجتياح رفح ويطالب مجلس الأمن بالتدخل لوضع حد لهذا العدوان    لاعب نهضة بركان: حظوظنا متساوية مع الزمالك.. ولا يجب الاستهانة به    تعرف على أسعار البيض اليوم الاثنين بشم النسيم (موقع رسمي)    ولو بكلمة أو نظرة.. الإفتاء: السخرية من الغير والإيذاء محرّم شرعًا    إصابة 7 أشخاص في تصادم سيارتين بأسيوط    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الاثنين 6-5-2024    قصر في الجنة لمن واظب على النوافل.. اعرف شروط الحصول على هذا الجزاء العظيم    هل يجوز قراءة القرآن وترديد الأذكار وأنا نائم أو متكئ    طقس إيداع الخميرة المقدسة للميرون الجديد بدير الأنبا بيشوي |صور    أول تعليق من الأزهر على تشكيل مؤسسة تكوين الفكر العربي    مفاضلة بين زيزو وعاشور وعبد المنعم.. من ينضم في القائمة النهائية للأولمبياد من الثلاثي؟    الدخول ب5 جنيه.. استعدادات حديقة الأسماك لاستقبال المواطنين في يوم شم النسيم    محمد هاني يعود إلى تشكيلة الأهلي أمام الاتحاد السكندري    وزيرة الهجرة: نستعد لإطلاق صندوق الطوارئ للمصريين بالخارج    دقة 50 ميجابيكسل.. فيفو تطلق هاتفها الذكي iQOO Z9 Turbo الجديد    البحوث الفلكية تكشف موعد غرة شهر ذي القعدة    طبيب يكشف عن العادات الضارة أثناء الاحتفال بشم النسيم    تعاون مثمر في مجال المياه الإثنين بين مصر والسودان    استشهاد طفلان وسيدتان جراء قصف إسرائيلي استهدف منزلًا في حي الجنينة شرق رفح    الجمهور يغني أغنية "عمري معاك" مع أنغام خلال حفلها بدبي (صور)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عزت القمحاوي: لن أنسي لحظة فراق سامي يعقوب
نشر في أخبار الأدب يوم 06 - 04 - 2019

قبل مولد عزت القمحاوي بقليل فكرت عمًّتُه في حمايته، فقد مات له شقيقان تباعاً. وأمه، التي لا تؤمن بالخزعبلات، تحت ضغط منها، وافقت علي زيارة عرَّافة شهيرة، علي مضض. العرافة انتفضت، وأصدرت صوت رجل، المفروض أنه عفريت، واسمه الشيخ محمد، بدأ في إملاء طلباته، »فرخة وصابونة»‬، وأمه لم يعجبها الكلام، وقالت للعفريت ساخرة: »‬ممكن يا شيخ محمد العفاريت تاكل فراخ، لكن انتم بتغسلوا إيديكم بعد الأكل برضه؟!»، وانتهت الحكاية بثورة العرافة، وسيطرة الخوف علي العمَّة، وعدم اكتراث الأم، وتمسك الطفل عزت بالحياة، رغم غضب العفريت!
لم يأخذ القمحاوي من أمه واقعيتها المفرطة تلك، وإنما كان يطفو دائماً، بحكم تكوينه الخاص، فوق الواقع قليلاً، لمَ لا، وقد رأي مشاهد شديدة السحر والخيال، رغم واقعيتها، ابن أخته مثلاً كان يدخل، فجأة، وسط 100 كلب ضال غاضب، وبدون مقدمات تهز ذيولها، وتهدأ حركتها، وتنام علي الأرض، كما أن معجزة ابنه »‬أحمد»، كانت رؤية النمل من مسافات بعيدة جداً، أو هكذا كانت خرافته الأثيرة في طفولته!
ظل عزت القمحاوي يختزن تلك المشاهد، حتي شعر بحاجته إلي استعارة بعض صفات أبطالها، وبدأ يجمِّعُها في شخص »‬سامي يعقوب» ، الطفل الصغير، صاحب معجزة رؤية النمل فوق جدران العمارات البعيدة، الطفل الذي يُحدِّث الحشرات والطيور والحيوانات، ويري الوقائع قبل أن تحدث، الطفل الذي صار شاباً لا تفارقه ابتسامته، رغم الكوارث المتتابعة. نجح القمحاوي، في رسم بطل مثالي، ليِّن، لا تكسره الظروف، والأهم أنه نجح كذلك في إشعارنا بأن هذا »‬النموذج الغريب» قابل للتصديق، وأنه يمثل الإنسانية في صورتها النقية، التي لم نعد نعرفها، لكن الروائي الكبير الآن متهم باقتباس شخصية ابنه أحمد، الذي لا يكف عن تذكيره بأنه »‬نحته»!
كان القمحاوي يعيش شراكة كاملة مع سامي يعقوب. الكاتب والبطل يبدو أنهما احتاجا إلي بعضهما أثناء الكتابة، عزت منح سامي امرأة فاتنة، بينما أحاط البطل كاتبه ب»‬طاقة صافية من البراءة» ، وهكذا تبادل الاثنان الأدوار، ف»‬ما رآه سامي يعقوب» ، هو نفسه »‬ما رآه عزت القمحاوي»، وهكذا أيضاً كانت لحظة تسليم الرواية، إلي الناشر، صعبة جداً. يقول القمحاوي بتأثر حقيقي: »‬كان فراقاً مؤلماً لن أنساه أبداً».
في آخر ثلاث سنوات أصدرت ثلاثة أعمال، »‬السماء علي نحو وشيك»، »‬يكفي أننا معاً»، و»‬ما رآه سامي يعقوب» التي صدرت مؤخراً عن »‬المصرية اللبنانية».. هل هذه الكثافة المفاجئة في النشر تشير إلي صراع مع الزمن، أو إحساس بالتقدم في العمر، يتطلب مزيداً من الإنجاز وأنت تقترب من الستين؟
لا، نهائياً، لا يوجد عندي إحساس بالسن، لدرجة أنني كلما دخلت مكاناً أتنحي عن المقدمة وأفسح الطريق لأي مرافق لي، ثم أكتشف أنه ابني أو شخص من عمره، وأمام إصراره علي أن أتقدمه أجد أنني مضطراً لتذكير نفسي أنني الأكبر من ابني، بالمنطق، حتي حينما أقدم كُتَّاباً أصغر مني، باعتبار أني لست كبيراً، أو هكذا أضبط نفسي، وأيضاً.. حينما يشير أحدهم إليَّ ب»‬الكاتب الكبير» لا أعرف نفسي.
علاقتي بالكتابة علاقة روح، هناك أمور داخل تلك الروح تفرض نفسها، وتحاول الخروج إلي النور، لكن بدون حسابات الإنجاز، وطبعاً أي عمل يتعثر أو أشعر أن هناك حسابات عقلية تحكمه أنصرف عنه فوراً، وعلي سبيل المثال »‬ما رآه سامي يعقوب» فرضت نفسها علي رواية أخري، كنت قد بدأتها وأغلقتها بسبب عوامل خارجية. حاولت »‬محايلة» الكتابة في الإسكندرية، ذهبت إلي هناك لإعادة الانسجام بيني وبينها، وحدث أنني صوَّرت مكاناً وتعرضت لمشاكل، وخرجت بإحساس »‬جرح» كانت نتيجته إغلاق الرواية، وبدأت كتابة »‬سامي يعقوب» بجنون، لدرجة أنني أنهيتها في أيام معدودة، في أسبوعين تحديداً، غير أن مراجعتها احتاجت إلي عام كامل، علي الأقل، لكن فكرة إصدار كتاب كل عام غير مطروحة ولا أخطط لها أبداً.
»‬يعقوب».. هل يشير ذلك الاسم إلي اختبارات صعبة ستواجهها تلك العائلة، ابتداء من الجد سالم، مروراً بالابن صبري، وانتهاء بالحفيدين سامي ويوسف.. هل كان اختيار الاسم للتأكيد علي رحلة الصبر التي ستحتاجها هذا العائلة؟
فكرت أن يكون الاسم منسجماً فقط مع اسم سامي، بعد القراءة تكون لك تأويلات بالطبع، لكن، والحق يُقال، لم يكن في ذهني سوي اسم سامي، وكانت عندي رغبة أن أكتب شخصاً بهذه المواصفات، نبي، يري الوقائع قبل حدوثها، تقريباً فكرت في اسم سامي قبل أن أبحث عن اسم للعائلة، وأستقر علي »‬يعقوب».
حينما قفز اسم سامي إلي ذهني تأكدت أنه الاختيار الصحيح، بمنطق أن هناك »‬ناس راكبة مع أسمائها وناس لا»، لقد رأيت سامي تمثالاً داخل الحجر، وسيطرت عليَّ رغبة في نحته، أو إخراجه من الحجر، إذ كانت ملامحه الجلية تسيطر علي عقلي، أنا أختار أسماء لا تكون لها مرجعية في عائلات موجودة في الواقع، ولكن عليَّ الاعتراف بأنه حينما تفكر في بعض الأسماء ستجد أن لها دلالات، »‬صبري» مثلاً صبر 30 عاماً، محاولاً رد شرف أبيه »‬سالم» من خلال المحاكم، لكن اختيار الاسم حدث صدفة، سامي نفسه لم أفكر في سوي تمتعه بحالة سلام مع النفس، وهو من الممكن أن يكون ابناً جيداً لعيسي، بطل روايتي »‬غرفة تري النيل»، حيث يتمتع بقدرة خاصة علي رؤية الوقائع قبل حدوثها، وقد تصوَّر أن الحياة عرض يمكن أن يتكرر دائماً، وكانت فكرته عن الزمن والحب والناس مختلفة تماماً عن تصورات البشر.
علي ذكر عيسي كان التحدي في روايتك »‬غرفة تري النيل» هو إجبارنا، نحن القراء، علي إكمال الرواية رغم معرفتنا منذ اللحظات الأولي بموت البطل، لا تزال تمارس لعبتك، صناعة عقدة ضخمة لنفسك ككاتب، ثم كأنك تنهي العمل بفرح من اجتاز سباقاً طويلاً بدون أن يعرق.. في الرواية الجديدة لا يتحرك البطل سامي يعقوب أمتاراً من مكانه، يبدأ الرواية أمام ذلك القصر الغامض في إمبابة وبالقرب من مسكن حبيبته فريدة، وتنتهي الرواية في نفس المكان، وهكذا كان التحدي تلك المرة هو عدم إشعارنا بالملل، والرواية تصحبنا من جاردن سيتي إلي إمبابة ومن الماضي إلي الحاضر وبالعكس.. لماذا تتعمد ذلك دائماً في بناء أعمالك؟ هل تستمتع بالألعاب الكتابية الصعبة؟
حتي روايتي الضخمة، »‬بيت الديب» بدأت بنفس ما انتهت إليه، مباركة الفولي جالسة تطلب من أحفادها أن يرفعوا دعاء لله لتذكيره بها، إذ عاشت طويلاً، وتنتهي الرواية بنفس الجلسة، والمائة عام التي تسردها الرواية تأتي بعد ذلك، أنا لا أتعمد كثيراً مما يحدث في كتابتي، ولكن عندي رؤية لموضوع الكتابة، الرواية ليست نشرة أخبار، لا يجب أن يكون الخبر المؤجل هو سبب ارتباط القارئ بي، أنا أعتبر الكتابة العظيمة أحد النشاطات الإنسانية غير المجدية، هي لعب محض، لعب مع شريك آخر هو القارئ، والكتاب الذي يُطبع ولا يجد من يفتحه هو كتاب لم يوجد في الحياة، نعم الكتابة شراكة مع القارئ، مثل اثنين يلعبان الشطرنج، وكل منهما يعرف تحركات الآخر بجلاء شديد، لكن المتعة التي يشعران بها تتولد من الرفقة، لا من الفوز، وهكذا الكتابة، متعتها ليست في الخبر الذي تؤجله الرواية كعقدة.
لكن هناك إدراك بكل تأكيد لما يحدث؟
نعم، الإدراك توصيف أفضل من القول إنك تتعمد صناعة الرواية الدائرية، دعنا نقول إن الإدراك هو ما يعطيني الأمان أو الجرأة علي بدء اللعبة بأوراق مكشوفة، انطلاقاً من رؤية للأدب، أن هذه الجلسة بيني وبين القارئ كما قلت لك.
بطل روايتك »‬الحارس» اسمه وحيد، معظم أشخاصك وحيدون، هل لأن أزمة الإنسان المعاصر هي الوحدة، سامي يعقوب كذلك شخص أجبر نفسه علي العزلة، ولم يسمح سوي لقليلين باختراق أسوارها، هل تلك الأزمة هي سؤالك الأساسي؟
لا، الوحدة ليست سؤال كتابة، وإنما طبع الكاتب نفسه، أكون في أفضل حالاتي حينما أكون وحيداً، لو تركت نفسي علي سجيتي لن أري أحداً، أعاني لكي أكون مع الناس، وأكون معهم بهدف معين، أنا لا أحب أن أكون موضوعاً لحديث شخصي، موضوعاً لحديث عن أن عزت القمحاوي يصنع أسطورة الاختفاء، أنا غير مختف، أنا موجود، لكن الوحدة هي الوضع الذي يريحني، هي الحالة الأقرب إلي روحي، وهكذا تُخرِج من لاوعيي، أشخاصي فيهم شيء مني، فيهم من روحي وفيهم مما يريحني، لكن لو تحدثنا عن الأسئلة التي تشغلني، سأقول إنها القمع، الموت، وحرية الجسد.
يبدو سامي يعقوب أقرب إلي نبي، يري ما لا نراه، أو يري ما نراه ولا نلتفت إليه، يلاعب الحيوانات والطيور والحشرات، ويسلي نفسه بمراقبة النمل علي جدران المباني البعيدة، نبي لطالما أقلقت ابتسامته الآخرين. ما معجزة سامي يعقوب علي وجه التحديد؟ هل حفاظه علي فطرته ومحبته للناس وإن اختزلها في فريدة فقط؟ هل قدرته غير العادية علي التسامح؟ هل قدرته علي الإكمال رغم المحاولات المستمرة لكسره؟ هل احتفاظه بالابتسامة حتي آخر سطر من الرواية؟
أحب أن أسمع منك، ومن آخرين أن سامي عنده معجزات، وحتي الآن غير مطمئن لما فعلته والرواية حديثة النشر، ولا أستطيع أن أحلل ما قام به سامي يعقوب، لكن فعلاً وأنا أبنيه كنت أشعر أنني في صحبة ند، عزيز جداً، ويوم تسليم الرواية كان يوم فراق حقيقي، كان من الممكن أن تكون الرواية جاهزة في أكتوبر 2017، ولكنها ظلت معي حتي أكتوبر 2018، ولكن ما تغير خلال هذا العام، لا يتعدي عدة جمل، يمكنك أن تكون أقدر علي تحليل شخصيته، لكني دعني أشير إلي هذا الحب غير المشروط للحياة وهذه الفطرة النقية وهذه الإمكانيات العقلية، أنا كتبته من خلال شوقي لبشر أتمني يكونوا موجودين، لكن لا يوجد أحد حولي مثل سامي، أنا جمعت بعض السمات الواقعية من أشخاص أعرفهم، واللحمة التي ربطتها ببعضها هي شوقي إلي هذا الشخص، النقي، الذي يمتلك إرادة كبيرة، وهنا بالمناسبة لا بد أن أشير إلي أنه ليس شخصاً ضعيفاً، وإنما يساير الحياة، ويجد لنفسه طريقاً، وفيه من نزوعنا، نحن المصريين، طوال التاريخ، إلي الاطمئنان للزمن، تصبر علي الجار السو، لأنك تري الزمن طويلاً، وهكذا سامي، فيه ليونة تساعده علي مقاومة الانكسار.
كل الأحداث المتشابكة، بدأت من اللحظة التي أُهدرت فيها كرامة الجد »‬سالم يعقوب»، وبالتالي بدأ الابن »‬صبري يعقوب» معركة استرداد الكرامة، وبالتالي خسر زوجته وحياته، وبالتالي كذلك عاش »‬سامي يعقوب» إحساساً دائماً بالفجيعة، علي الأقل لأنه لن يستطيع أخذ حق أبيه من قتلته، هل تريد الرواية القول إن الإنسان لا يستطيع الفكاك من قبضة الماضي مهما حاول، أو أن الحاضر دائماً يفسره الماضي؟
سؤال صعب فعلاً، لكن في الأساس أسرد حكاية، ولا يكون عندي كثير من المرامي أثناءها، الكتابة مثل الرسم والنحت. عندما رسم دافنشي عيني الموناليزا لم يقصد أن تكون نظرتها ملغزة هكذا، لكنه رسمها بشغف فخرجت النظرة محمَّلة بهذا الغموض الذي رآه الناس فيما بعد، هكذا فإن قيمة الإبداع تأتي من سر يولد معه وليس من قصد يتقصده الفنان.
ربما كانت حياة عائلة سامي يعقوب ضرورية لرسم شخصيته علي هذا النحو، وربما كان من الممكن أن يكون هكذا بالضبط لو وُلد في عائلة أخري ليس لها هذا التاريخ.
الإضاءات كانت ضرورية علي ما جري لعائلته، ومع هذا كان يمكن أن يكون لسامي نفس التكوين، لو لم يكن لدي أبيه هذه القضية، لكن سيرة هذه العائلة، بالطبع، تنتج هذا التكوين، تزاوج بين والدين في آخر فرص الزواج، والدين ينتميان إلي ثقافتين مختلفتين، وقد صنع ضجر الأم من هذا النضال العبثي وحدة سامي في النهاية، ولكن بعد الكتابة وجدت أن الخوف والانكسار أصعب كثيراً من البطش، في سيرة الأب علي الأقل هناك شيء أقل عبثية مما حدث لسامي، الذي تعرض لعبث أكبر بسبب تصويره لقطين، إنه يؤمن بقضية ولديه رضا تام عما يؤديه وهناك روح تحد تتملكه، وهذه الروح كانت موجودة في الميدان كذلك، كانت روح الناس عالية للغاية، لكن أن تُصفَّي معنوياً بالإرهاب والخوف لأنك صوَّرت صورة، فهذا لغز الرواية، والسوء الحقيقي، الذي يتعرض له الأبطال، هو الخوف، أعتقد أنه شعور أكثر سوءاً من الحزن، فالحزن شعور سامٍ، وتحصيل حاصل في مرحلة اطمئنان، من دفن ميتاً عنده حزن لكن عنده سكينة كذلك، لأنه مطمئن علي شيء، أما الخوف فهو المؤذي، والمجهول أكثر صعوبة من المعلوم، من يصل إلي السجن هو أفضل حالاً من الموجود خارجه.
هل الكوارث المتتالية في حياة سامي يعقوب، قسوة الأم، قتل الأب، وقتل الأخ، جرت لتأكيد فكرة النبوة؟
الامتحان يحضر، الأب المناضل يحضر، لصالح رسم بطل »‬النوفيلا»، كل التفاصيل ساهمت في تكوين سامي، فالشخصية تُبني من خلال الأحداث وليس من خلال وصفها بالكلمات، وأنت حينما ستلتقي به، ستجده صامداً، وقادراً علي الابتسامة رغم هذه البلوي أو غيرها.
هل من الممكن وأنت تكتب أن يفلت منك شخص، مثل سامي، ويختط لنفسه مساراً آخر؟
السنة الزيادة التي احتجتها لإنهاء الرواية كانت بسبب هذا الزوغان، كان سامي يريد الذهاب في اتجاه يخصه، لكن كنت أري التمثال داخل الحجر، أي شخص غيري سيراه حجراً لكنني كنت أري ملامحه وتكوينه داخل هذا الحجر، كان عام مفاوضة بيني وبين الشخصية والوقائع، في الفن لا بد أن تسيطر، الشخصية قد تطلب الانطلاق إلي مكان معين، لكن يكون في ذهني أشياء أخري، وعلي رأسها الموسيقي، موسيقي الإيقاع، الذي يفرض عليك عدم الإطالة في شيء، كالحزن مثلاً، أو الابتسام، لا بد أن تكسر لحظة كئيبة جداً بطُرفة مثلاً، أو سخرية ما، سامي خرج من التحقيق مصفي معنوياً، ولكن سائق التاكسي يخاف منه، أصبحنا أمام خائف يرتعد من خائف، كنت سعيداً حينما أنهيت هذا المشهد، سائق التاكسي نافقه باعتباره شخصية مهمة، ثم طلب منه إلحاق أولاده بوظائف، كان عندي تحدي كثافة، كيف تكتب عُمراً في هذا العدد القليل من الصفحات، سائق التاكسي أضاف أبعاداً، فهو يمثل الرجل المنافق، الذي يبدي رضاءه ثم تكتشف أنه يتزلف ليطلب شيئاً ما في النهاية لصالح أبنائه، كان عندي تحدٍ آخر، أن تكون كل لحظة في الرواية مشغولة بحكاياتها وكل حكاية يكون لها جمالها وإضافتها للنص.
تعبر الرواية إلي الميدان بدون أن تتورط في السياسة، هل كنت قلقاً أثناء الكتابة وأنت تقترب من حدث بحجم ثورة؟
حقيقي، أنا أدخلت سامي الميدان لأنه يحب الفراشات، وتصورت أن يهاجمني أحد المهمومين بالسياسة بسبب ذلك، لأني أدخلته الميدان صدفة، وأثناء مطاردته لفراشة الطاووس التي تشبه العلم المصري، حينما وجد الفراشات وقد ملأت البلكونات والسماء نزل يطاردها ووجد نفسه في الميدان، وأحبَّ الحالة، وعلي فكرة إذا كان هذا تخييلاً، فأنا ابن الميدان، ولمست ذلك، أقصد دخول الصدفة الذي استهوي العامة فيما بعد، لكن إذا كان هناك تخطيط للعمل فعلاً فخلاله أفكر في تجنب السياسة أو محاولة خفض صوتها وأعتبر نفسي محظوظاً أنني أكتب مقالات سياسية لأنني أدفع ضريبتي خارج النص الروائي، بحيث أخلص من الهم السياسي وأنشغل بمتعة الكتابة وتصور ما سيكون عليه اللقاء مع القارئ.
هذه الرواية تجبرنا علي النظر بطريقة أخري إلي جاردن سيتي، المنطقة المنعزلة التي تكتفي بنفسها وسكانها خلف أسوار الجرانيت العالية، المنطقة الثابتة، التي لا تتطور، ولا تتأخر، فجأة.. علينا أن نصدق أن بها من يشعر بالناس في الميدان .. ما رأيك؟
أثناء الثورة ذهبت للزمالك وشعرت أن سكانها لم يأخذوا خبراً، كان يمكن أن تكون الرواية في الزمالك أو جاردن سيتي، هذان الحيَّان كانت علاقتهما بالثورة محدودة جداً، وقد أحببت أن أبدأ بأحدهما، لماذا جاردن سيتي وليس الزمالك؟ لأن قيادات الوفد تاريخياً من سكان جاردن سيتي، وكان من الطبيعي أن يكون بيت صبري يعقوب هناك، الأمر كان بالنسبة لي يلبي نفس حالة الزمالك، حتي حينما ساءت أحوال البلاد ظل الحيان علي ما هما عليه من نظافة وأمان، وحياة اجتماعية شبه مستقرة. عمارة جاردن سيتي لم تزل متناغمة ومستقرة تشبه حياة سكانها، وانت تعرف اهتمامي بالعمارة منذ كتاب »‬الأيك»، وفي السفر أكون مثل الدارس، حينما أذهب إلي متحف تهمني معروضاته مثل عمارته وأسأل إلي أي عصر تنتمي؟ القوطي، الكلاسيك، الباروك؟ العمارة هي البرهان الصلب والتأريخ الذي لا يمكن تزويره لحالة مجتمع ما في زمن ما، هي تدل علي الحالة السياسية والاقتصادية والذوق والكثير من الأشياء.
تفسِّر»‬الخلود» لميلان كونديرا كل تصرفات بطلتها »‬أجنس» بموقف بسيط جري لأبيها في الغابة، حيث نهره صبيان، وطلبا منه أن يدفع مقابل أن يمر من هذا الطريق، هل كان بإمكان سامي أن يعيش حياة أخري لو تخلي الأب عن نضاله لإعادة الاحترام إلي الجد؟
قد تكون أمثولة الرواية النهائية هي ذلك الألم الكبير الذي يتبقي لسامي، أن من يريد العيش بسلام لا يستطيع، لم يعد شرطاً أن تكون سياسياً لتجد نفسك في مشكلة، لو تخلي الأب عن النضال ولو لم تغادر الأم بالأخ ربما كانت هناك حياة أخري يمكن أن يقترحها القراء لسامي. سامي هو جوهر العمل، وكان علي الرواية أن تسلك هذا الاتجاه لنري كيف أن هذا الشخص المسالم قد حُرم من أول لقاء حب في بيت حبيبته لمجرد أنه صوَّر قطين.
هناك مزاوجة بين الاستبطان المستمر لشخصيات العمل، علي قلَّتها، ووصف العالم الخارجي، هل ذلك الحرص علي المراوحة بين الداخل والخارج، محاولة لسبغ الألوان، علي عقولنا المجردة؟
أحببت تيار الوعي وكتابه، تقريباً منذ التكوين. أنت ذكرت ميلان كونديرا، الذي أحببته في البداية ثم نفرت منه، وأحسست أن ما يقوله في رواياته يمكن أن يقوله في كتاب فكري ويحقق نجاحاً كبيراً، واكتشفت أنني لا أتذكر نماذجه البشرية، فقلت فيما يشبه حالة الاستنارة، إن هذا ليس الروائي، وليس النموذج الذي ينبغي أن تكون عليه الرواية، إنها تشخيص، وبقدر ما تحاكي الحياة تكون جيدة، وتستطيع أن تقول بقدر ما تشبه الكتابة الحياة تكون جيدة، لكن الكتابة لا بد أن تكون أكثر كثافة من الواقع، وأكثر شفافية منه، وهذه الشفافية تأتي من الشيء العميق الذي بداخل كل منا، وأنا حين أكتب أزاوج بين الداخل والخارج، الحسي والروحي والعقلي، حالات الشبق عندي، فيها هذا وذاك، مارسيل بروست رغم عزلته، فعل ذلك أيضاً، وصف سقوط ظل برج الكنيسة خلال فترة الضحي في أكثر من صفحة، وهكذا فإن الطبيعة فكرة وموضوع للتأمل.
علي ذكر الأيروتيكا، أنت تكتبها بحساسية بالغة، تجعلنا نري كل شيء دون أن تتورط في حسية مفرطة.. وهذا دأبك في معظم أعمالك، بخلاف الدافع الفني بالتأكيد.. هل تقلل الإيروتيكا الزاعقة من الفن؟
الأيروتيكا هي جزء من الحب، الجنس هو لحظة خاصة بين اثنين يحبان بعضهما، الفضل في تكوين هذه الرؤية عندي يعود للحالة الفطرية التي وجدتها في القرية، ويعود كذلك إلي الأفلام الأجنبية، الراقية، ذات المستوي، وليست الأمريكية التجارية، اكتشفت أنني أستطيع أن أشاهد مع أطفالي مبكراً مشهداً إيروتيكياً في فيلم أجنبي لأن مقدمات العشق والصدق تبرر هذا اللقاء، وأخجل حتي الآن، حتي بعد أن كبر أبنائي، أن أري معهم فيلماً، تركز فيه حركة الكاميرا القوادة علي ساق ممثلة مصرية تطلع سلماً، وبالتالي فإن الصدق مهم في الأيروتيكا.
هل خسر سامي يعقوب معركته في النهاية بالسقوط في الخوف؟
الرواية انتهت بأنه يغلق الباب علي نفسه، ويخاف من الرد علي تليفونه لأنه يخشي علي حبيبته، أن يتنصتوا عليها، ويعرفوا قصتها معه، هي ليست حرة، لكنها خاضعة لسلطة عائلة الزوج المتوفي، وقد تكلفها فضيحة إقامة علاقة مع سامي انتزاع ابنتيها منها، وأنا مندهش لأن بعض القراء الذين عبَّروا لي عن حبهم للرواية نقلوا إليَّ أيضاً انزعاجهم من النهاية، واعتبروها مبتورة، هناك نوع من القراء يحب الراحة، قالوا لي إن النهاية مبتورة للمرة الثانية بعد »‬يكفي أننا معاً»، طيب.. لماذا تريد أن ترتاح؟ عليك أن تكمل معي، ولننظر سوياً هل سيتعافي سامي آخر النهار أم ستزداد حالته سوءاً؟ هل فريدة بجمالها في الحياة ستأتي إليه لتخرجه من ورطته أم أنها لن تفعل؟ لقد فضلت ترك الرواية مفتوحة علي جميع الاحتمالات.
هل ما يجمع سامي بطلك، وميرسول »‬الغريب» بطل ألبير كامو، هو غرابة الاثنين، وتعاملهما المدهش والبسيط والصادق مع ما يجري حولهما في الواقع؟
الغريب حالة أخري، لأن ألبير كامو مُنظِّر للوجودية بكتابه »‬سيزيف»، سامي من منطقة أخري، أقرب للتصوف من الوجودية، إذا أردنا أن نمنحهما كينونات فكرية، سلامه ناتج من حب الحياة وليس من كراهيتها أو عدم الاكتراث بها، ولكن مداخله إلي الحياة كانت بسيطة، ولذلك رأيناه يتحول إلي مهووس جنس حينما وجد فريدة، البطل الوجودي لا يكون لديه هذا الشبق ولا هذا الفرح بالفعل الجسدي، سامي قوة فرح مؤجلة أو لم تجد مسارها، وقوة حب للحياة لم تصادف الحياة، »‬الغريب» وأنا أحبها جداً هي حالة ذهنية لمفكر.
جربت الأعمال الضخمة، رواية الأجيال، في »‬بيت الديب»، والنوفيلا مثل »‬يكفي أننا معاً»، و»‬ما رآه سامي يعقوب»، ما المختلف بين هذين النوعين؟
أضف إليك القصة القصيرة كذلك، لماذا أكتب قصة، أو نوفيلا، أو رواية كبيرة؟ هناك اختلافات كبيرة، القصة حالة شعر، النوفيلا قريبة كذلك من حالة الشعر، رواية الأجيال رواية فيها معمار بنائي، ما يجعلني أختار نوعاً من هذه الأنواع تساهم فيها حالتي الداخلية والظرف الخارجي، أكون جانحاً للشعر فأكتب مجموعة قصص، وعلي سبيل المثال »‬السماء علي نحو وشيك» لم تأخذ حظها، ربما، بسبب صدورها بين عملين، روائيين، لكن كتبتها بحب وسلطنة غير عادية وكانت روحي طالبة ده وكذلك الظرف الخارجي، القصيدة والقصة تُكتبَان في أي مكان، الرواية الكبيرة بنت العمران، بنت المجتمع الثابت المستقر، بنت اشتغالاتي في العمل، أنا لمَّحت لرواية في مقدمة »‬الأيك»، حيث قلت ساخراً إنه لا يجب أن تنتهي الألفية الثانية، بدون عمل، فبدأت رواية ثم وُلدت نصوص »‬الأيك» وأصبحتُ مثل الزوج سيئ الحظ الذي يجد عشيقة جميلة في أفضل فترات استقراره الزوجي، فأغلقت الرواية. كانت هذه الرواية هي »‬بيت الديب» وكنت قد أنهيت منها مساحة كبيرة، وظلت مركونة عشر سنوات بسبب حالتي النفسية السيئة، هذه العمارة المركبة اتضح أنها كانت تحتاج إلي وقت لا يقطعه العمل الصحفي، فكرة تخفيض التزاماتي الصحفية السبب الحاسم في أن تُكتب »‬بيت الديب»، وهكذا فإن الظروف والمكان يكتبان معنا.
أنت واحد من قلائل يملكون قدرة علي طرح أفكار، فما الذي أضافه المفكر إلي الروائي وبالعكس؟
هي فكرة التأمل، والفلسفة التي أحببتها، الظاهراتية، الشخص الذي يحب العزلة يحب التأمل، لا أتعمد صناعة أفكار ولكن أيضاً لا أحب أن أقرأ لآخرين يقدمون الحكاية بلا عمق..
الحكاية دون عمق غير قادرة علي البقاء، ولا تصلح إلا لقراءة واحدة، ثم تزيحها حكاية أخري للكاتب نفسه، أو للكتاب الآخرين، هذا النوع من الكتابة التي لا تترك ظلالاً في النفس والعقل يناقض مفهوم الأدب.
كيف احتفظت لنفسك بلغتك الفنية، بينما تنتظم في الكتابة الصحفية علي مدار أربعين عاماً تقريباً؟
أحد الأصدقاء كان يقول لي »‬أنا خايف عليك، أنت تبذل مجهوداً إبداعياً في الصحافة»، كان ردي أن لغتي هي طينة صلصال مرنة في يدي يمكن أن أشكل منها عروساً، ثم أقوضها وأشكل منها حصاناً، لكن هذا كان إحساسي فعلاً، لكن أنا لجأت للعكس، بدلاً من أن أنزل من لغة الرواية إلي الصحافة، رفعت لغة الصحافة إلي الفن، وكنت محظوظاً بمنابر تستوعب هذه الرفعة اللغوية، وكانت هذه المقالات بذوراً لكتب فيما بعد، جعلت الصحافة رقم اثنين، لكنها أعطتني أيضاً ميزة الاختصار بسبب صراعي مع محررين آخرين علي المساحات، كان كل منا يختصر ليجد لنفسه مساحة، تعلمت أن أقول ما أريد بإيجاز ووضوح، ليس وضوح الخفة، طموحي أيضاً أن يكون عندي لغات أو أساليب، الروائي يجب أن يكون عنده أكثر من أسلوب، وهذا متحقق علي ما أعتقد، عمل فيه فانتازيا مثل »‬مدينة اللذة»، غير آخر فيه أريحية مثل »‬بيت الديب»، كنت واعياً بأن لغة »‬الحارس» يجب أن تكون حادة كلغة الأوامر، »‬ما رآه سامي يعقوب» و»‬يكفي أننا معاً» قصص الحب شيء أساسي فيها، ولذلك فإن الشخصية تردد ألفاظاً فيها طفولية، العالم الذي تتناوله لا بد أن يكون لها أثره علي اللغة، وكذلك الأشخاص، سامي يعقوب كان يجب أن يقول: »‬أصبحت أحبها جداً جداً»، عيسي في »‬غرفة تري النيل» تُظهٍرُ لغته طريقته في التفكير وسلامه النفسي، حتي وهو يموت كان كوب شاي بالنسبة له بالدنيا وما فيها، يقول: »‬يا سلام.. مملكة.. عظمة»، ضروري أن تكون اللغة جميلة ومتنوعة، ولهذا فإن مسؤولية الروائي أكبر من مسؤولية الشاعر بكثير.
هل تعتبر كتابتك امتداداً لأعمال سابقة عليك؟ هل أباؤك عرب أم غربيون؟ وهل توافق علي القول إنك كاتب بدون جيل؟
أبائي غربيون، ونجيب محفوظ داخل في تكويني بشكل جيد جداً هو ويوسف إدريس، لكن القدر الأعظم من قراءاتي لكتَّاب غربيين ويابانيين، عدم الانتماء للجيل حقيقة تسعدني، وقد كان سببها ولادتي في الستينيات، حيث أصبحت صديقاً لكتاب تلك الحقبة، وليس لأبناء جيلي، وجدت نفسي جاراً لمحمد البساطي وصرنا أصدقاء، وعملت مع جمال الغيطاني وصرنا أصدقاء، كان إدوار الخراط، علي الجانب الآخر رائداً أو حريصاً علي ريادته لجيل، وسلك في مسبحته عدداً من كتَّاب ظهروا معي في نفس التوقيت، لكنه لم يذكرني بحرف واحد، كان »‬جيل التسعينيات» ومعظم أبنائه بدأوا الكتابة معي تعبيراً صكه الخراط، بينما كنت أعيش باعتبار أني قريب من كتاب الستينيات، ثم إن المعني الأجمل والذي يجب أن يسعي إليه كل كاتب هو الفردية، لا أكتب مثل شخص ولد في نفس الجيل، كتبت »‬الأيك» قبل أن تكتب إيزابيل أليندي »‬أفروديت»، وهذا يُظهِر بجلاء أن هناك كتابة متوازية في العالم تشبه بعضها، كأن هناك إيقاعاً في الهواء خلق هذه النصوص، ورويداً رويداً كنت أنفتح علي العالم وأجد أن النص الذي أكتبه مشابه لنصوص في لغات لا أعرفها، أحب التفاصيل، أحتفي بالحواس، أطبخ، أتأمل العمارة، كل هذه الأشياء صنعت »‬الأيك» الذي كتب رياض أبوعواد في وكالة الأنباء الفرنسية أنه »‬كتاب غير مسبوق في العربية» ثم كرر من بعده كثيرون تلك المقولة، ليس شرطاً أن تكون ابن جيل واحد في مدينة واحدة لكي تصبح كاتباً في هذا الجيل، ممكن كاتب أصغر منك ولا تعرف لغته ولم تلتق به أبداً يكتب بنفس الروح، لأنكما تعرضتما لمؤثرات عالمية أوصلتكم في نفس التوقيت لهذا الشكل، وهذا موجود دائماً في العلم أيضاً، انظر إلي بدايات السينما والتلغراف، ستجد أن هناك صراعاً علي من ابتكرها دائماً، ستجد طرفين دائماً يقول كل منهما: أنا من اخترعت السينما أو التلغراف، وهكذا فهناك عقلان في مكانين مختلفين يتوصلان لنفس الشيء، دائماً!
المرأة عندك تعتز بنفسها دائماً، ولديها كبرياء خاص.. ما السبب في ذلك؟
نعم.. المرأة عندي أقوي من الرجل في كل الروايات تقريباً، وتقرر مصيرها بيدها، حتي بالنسبة لفريدة حبيبة سامي، كان وضعها ضاغطاً ومع هذا تتحمل، عامود رواية الأجيال »‬بيت الديب» هي مباركة الفولي، وكل الشخصيات النسائية عموماً في هذه الرواية أكثر لمعاناً، لا يوجد رجل في »‬بيت الديب» يوازي أنثي في القوة، في التحكم بالمصير، في التحايل علي شروط المجتمع، وهو أيضاً ما مارسته فريدة مع سامي يعقوب، لقد رأينا ذلك الحس التضامني النسائي الذي يشبه حس الأقلية، فقد هيأت صديقات فريدة الجو لها لتقابل سامي. احترامي للمرأة من احترامي لأمي، أمي وجودية، مؤمنة وتصلي، ولكن كل ما لا يقبله عقلها ترفضه، ولا يلزمها.
منذ متي بدأت تشعر بالتحقق؟
منذ لحظتي الأولي في الكتابة وأنا أشعر بالتحقق، وأشفق علي أي شخص يجري علي الندوات وغيرها، مع الاعتراف أنني بدأت أستجيب لنصائح أصدقاء وناشرين، قالوا لي إنني لا أساعد أعمالي، كان أحد المحاذير أنني كنت فاعلاً في الصحافة الثقافية، وهناك أمر آخر يتعلق بطبيعتي، حيث لا أخرج كثيراً وأقتصد الوقت، إنها خياراتي، لكن لحسن الحظ أنني معروف ومقروء، وأشعر أن هناك أشخاصاً يحبونني، ومع هذا كل ما يشغلني حينما أكون في مواجهة شاشة الكمبيوتر هي الكتابة ولا شيء غيرها، لكن من حيث الرضا أنا راض جداً.
هل تعرض مخطوطاتك علي الأصدقاء؟
أعرض مخطوطاتي منذ سنوات طويلة علي صديقي الشاعر وليد خازندار، كان مقيماً في القاهرة وانتقل للإقامة بأكسفورد والتدريس بجامعتها، إنه يشكل أول قارئ لكل أعمالي، وهو الوحيد الذي يقرأ فصلاً واحداً، أو مشهداً أولياً، ومعه اثنان أو ثلاثة ممن أجد لديهم الوقت والرغبة في المناقشة وليس مجرد تطييب الخاطر.
وما طموحك؟ هل ضبطت نفسك مرة في حلم يقظة وأنت تقرأ خطاب نوبل؟
ضاحكاً: الحمد لله ربنا حماني، كل من فكَّر في خطاب نوبل وقع شر وقعة، حتي من حصل عليها فعلاً وألقي الخطاب انتهي تقريباً، لكن اللعنة الأكثر قسوة هي لعنة الشوق لنوبل، عندي مقال ساخر »‬متعة ألا تنتظر نوبل» كتبت فيه إنني أجلس الآن ولا أشعر بالقلق الذي يشعر به أدونيس، وأتلصص علي قصة تدور حولي، قصة رجل يحاول إغواء امرأة، ومن الواضح أنه يكذب عليها، وكتبت أنني سعيد أن هذا اليوم يوم عادي بالنسبة لي، وطبعاً خطاب نوبل جنون، لكن الجوائز بشكل عام سواء من الدولة أو غيرها أمر جيد، بشرط ألا تؤثر علي روح الكاتب، وألا تعشش في خياله أو تشوش عليه، علي الكاتب أن يحرر خياله لمصلحة نصه، وهناك رواية بدأتها في 2012 تعاندني مثل »‬بيت الديب»، لأن الواقع الذي تطمح إلي تصويره لم يستقر بعد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.