ولذا كان لزاما علي- أنا المؤلف- أن أكر راجعا إلي زمان ومكان »الزيني«.. وأن أركب قطار الصعيد (القشاش) إليه.. وأن أحتمل الدهس والرفس وبخر الأفواه.. وأن أغير (القشاش) إلي (قشاش).. و(القشاش) إلي عربة للنقل.. وعربة النقل إلي حمار.. والحمار له (تابع) أوصلني- بعد لأي- إلي نجع »الزيني«. ومضي بي- والحمار والعيال خلفي في زفة- إلي دار »الزيني«. ودققت الباب فخرج لي »الزيني«: شاب أسود.. قصير القامة.. ضئيل. فأخبرته أنني (المؤلف).. وأنني ما جئت من (زماني) (الحاضر) إلي (زمانه) (الماضي) إلا من أجل سيرته هو: »الزيني«. فرحب بي.. وأدخلني إلي باحة الدار.. وقدمني إلي »شيخ« طاعن جالس فوق دكة في الصدارة وقال: إنه أبوه »الشيخ« »سماعين«. ثم قدمني إلي إخوته الخمسة: »الفالح« و»الصالح« و»المالح« و»عدنان« و»رضوان«. ثم انثني يشرح لي كيف أنهم ظلوا لآلاف السنين يعملون أجراء في الحقول.. ويسيحون في الأرض.. من أجل جنيهات جمعوها واشتروا بها ستة قراريط.. أصبحت لهم مثل وتد قيدهم إليه.. فزرعوها وحمدوا الله علي نعمائه.. لكن »البك« »عبدالمجيد« أراد أن يسرق القراريط الستة ويضمها إلي أرضه.. فوقف له »الشيخ« سماعين« والأولاد الستة مثل »لقمة« في »الزور«.. فلما تعذر عليه ابتلاعها.. قطع المياه التي تمر علي أرضه عن القراريط الستة.. فذهب إليه »الشيخ« »سماعين« في قصره معاتبا فما كان إلا أن أخرج »طبنجته« المرخصة وأطلق منها عليه رصاصة أردته قتيلا. وتلفت- أنا المؤلف- في الباحة فلم أجد »الشيخ« سماعين« فوق دكته. وحلف »المالح«- أشرس الأولاد وأقواهم- برأس أبيه المقتول ليأخذن بثأره.. فتربص للمستشار »عبدالمجيد« العائد بعربته من »مصر« في المساء إلي قصر أبيه واطلق عليه من »مقروطته« رصاصه أردته قتيلا. فقتل أولاد »عبدالمجيد« الأخوين: »الفالح« و»الصالح«. وتلفت- أنا المؤلف- في الباحة فلم أجد الأخوين: »الفالح« و»الصالح«. وعاد »المالح«- أشرس الأولاد وأقواهم- إلي حلفانه.. وتربص- في عز الظهيرة- لطفل الهانم- البيضاء البضة المتأودة والتي تزوجها »البك« الكبير المتصابي أخيرا- والعائد بعربة من حضانته بالمركز.. وأطلق عليه من مقروطته« رصاصة »فشفشت« رأسه. فزحف أولاد »عبدالمجيد« وخفراؤهم وقتلتهم إلي دار »الشيخ« »سماعين« وقتلوا الأولاد: »المالح« و»عدنان« و»رضوان«. بينما انزلق »الزيني«- لضآلته- مختبئا بداخل »الفرن«. وتلفت- أنا المؤلف- في الباحة فلم أجد الأولاد: »المالح« و»عدنان« و»رضوان«.. وانتظرت- أنا المؤلف- أن يخرج »الزيني« من داخل »الفرن«.. فلقد مضي أولاد »عبدالمجيد« وخفراؤهم وقتلتهم واقترب الفجر.. لكنه ظل كامنا بداخل »الفرن«.. ساكنا.. وقاطعا للنفس.. معتقدا- لطول الصمت والانتظار- أن »المؤلف« قد قتل. وأنه- الآن- بلا »مؤلف«. وأنه- من الآن- الذي سيتولي- وحده- سيرته. وجهل- قصير القامة والفهم- أن (المؤلف) لاتجري عليه وقائع القتل. وأنه- »المؤلف«- الذي يقرر (المصائر). وإنني- »المؤلف«- الذي قررت له (المصير) منذ البداية.. وأدخلته في جوف (الفرن) لأنجو به.. وليظل لي- »الزيني«- لأروي- من بعد- سيرته. وأنني- »المؤلف« -لن أتركه- هو- »الزيني«- ليؤلف سيرته. ولن أجعله- هو- »المؤلف«. وسأجعله- الآن- برغمه- يطل من فتحة »الفرن« ملطخا بالخوف و»الهباب«. وسأجعله- الآن- برغمه- ينزلق من فتحة »الفرن« مثل »عرسة«.. يتلوي إلي باب الدار.. ينفلت منه إلي حقل »الذرة« المجاور.. يتخبط بين عيدانه.. حتي يلفظه الحقل إلي المقابر.. فينط فيها مثل عفريت خائف.. ويلقي بنفسه إلي بحر الظلام »يطربش« فيه.. يغطس فيه ويطلع.. إلي أن يطلع- هناك- بعيدا- علي شاطيء النهر.. فأجعله- أنا المؤلف- يمسك بشاطيء النهر.. بعينيه.. موليا ظهره للجنوب.. ووجهه للشمال.. يزحف فوق الشاطيء مثل ثعبان »مقطوش« الذيل.. ينط.. ويسكن.. ويوغل. والنهار يتساقط.. والليل.. حتي وصل إلي نهاية النهر- هناك- عند قرية »الحوراني« قبل دمياط..فجلس فوق شاطيء النهر ليستريح.. وليشرب من ماء النهر.. وليأكل ثمرة طماطم خضراء.. حين رأي أسرابا من الأولاد والبنات يتكالبون- في زحام- علي مركب خشبي.. ليعبر بهم النهر للعمل في »وسية« »الخواجة« »ألبرت«.. فجعلته يلقي بجسده الضئيل إلي الزحام.. وجعلت الزحام يحمله إلي المركب. وجعلته- الزحام- يخرجه من المركب إلي شاطيء »الوسية«. ثم جعلته يمضي مع الأولاد والبنات إلي حدائق الفاكهة.. وأوقفته في طابور يقيد اسمه لدي »الخولي« »حسونة« »العايق«. ثم جعلته ينطلق مع الأولاد والبنات إلي حدائق البرتقال.. يجمع البرتقال- مثلهم- في حجره.. ويدلقه- مثلهم- في أقفاص الجريد حتي تمتليء.. فيحملها إلي رأس الجسر ليغلفها العمال... ولتحملها عربات »الكارو« العالية التي تجرها البغال إلي مكاتب الادارة.. ليزنها »الوزان« فوق »الطبالي« الخشبية ويقيد الأوزان في دفتره.. ثم يحملها الأجراء- من بعد- إلي عربات النقل العالية.. يرصونها بها حتي تمتليء.. فيغلقون عليها البابين.. من الناحيتين.. ثم »تزمجر« العربات وتنطلق معفرة إلي البعيد. و.. وينتيه موسم جمع البرتقال.. ليبدأ- من بعد- مواسم جمع الكمثري والعنب والمانجو. و.. وتنتهي مواسم جمع الفاكهة.. فأدفعه- أنا المؤلف- مع الأولاد والبنات -إلي حقول القطن الشاسعة.. وأجعله يربط وسطه- فوق جلبابه- بحبل رفيع.. يعمل منه »عبا«.. يجمع فيه القطن حتي يمتليء.. فيفرغه في جوال حتي يمتليء..فيحمله إلي رأس الجسر ليزنه له »العايق« فوق »القباني«.. ويقيد له الوزن في »نوته«.. في حسابه. ثم يحمله- جوال القطن الممتليء- ليفرغه في الأكياس الكبيرة العالية يقف بداخلها رجال يدوسون بأرجلهم فوق القطن »النافش«.. يكبسونه.. حتي تندك الأكياس.. فيخيطون أفواه الأكياس.. لتحملها عربات »الكارو« العالية التي تجرها البغال إلي مكاتب الإدارة.. ليجري عليها ما جري علي ثمار الفاكهة. و.. وينتهي موسم جمع الأقطان.. ويزحف الأولاد والبنات عائدين إلي المركب الخشبي.. يتكالبون عليه- في زحام- لتحملهم إلي الشاطيء الآخر.. إلي حيث دورهم المتناثرة هناك. ويتبقي »الزيني« وحده.. واقفا يلتفت.. لا يعرف ماذا يفعل.. فأوحي إليه -أنا المؤلف- أن يطلب العون من »العايق« الجالس- هناك- تحت شجرة الكافور.. يمشط بمشط صغير في شعره »الأكرت«.. الغارق في »الفازلين«.. وفي شاربه.. ويتأمل صوته في مرآة صغيرة مكسورة.. ويبتسم -في بلاهة- للصورة.. وهو يردد كلمات أغنية حب ركيكة.. تتردد من »راديو« صغير إلي جواره.. ويصفر اللحن معها في سعادة. ومضي إلي »العايق« كما أوحيت له.. لكنه وقف أمامه صامتا.. فاتحا فمه.. فرشقه »العايق« بنظرة.. فظل علي حاله صامتا.. فاتحا فمه.. فأسرعت إليه- أنا المؤلف- أدس الكلمات في فمه: »إنني غريب ياسيدي وأطلب عملا دائما بالوسية.. هلا ساعدتني جزاك الله خيرا. فاحتواه »العايق« في نظرة.. ثم نهض وقال: اتبعني. فتبعه مثل جرو.. حتي وصل به إلي »زريبة« البهائم وعرفه علي البهائم وقال: إنه سيعمل »كلاف« للبهائم.. وإنه سيعيش معها- هنا- البهائم- في »الزريبة«.. وينام معها- هنا- البهائم في الزريبة«.. فوق كومة التبن هذه. وأشار إلي كومة التبن في آخر »الزريبة«. فاندفع »الزيني«- بوحي مني- يلهج بشكره.. وزاد أن قبل يده. وأصبح »الزيني« »كلاف« في »الزريبة«. ما أن تفتح الشمس عينيها حتي يسرع إلي البهائم.. يطعمها ويسقيها ويحممها.. و»يجلط« الروث من أسفل أرجل البهائم.. يحمله في جرادل صدئة ليدلقه- هناك- بعيدا- فوق حافة المصرف. ثم »يترب« أسفل أرجل البهائم. ويظل طيلة النهار دائرا في طاحونة البهائم.. لا تفلته.. ولا يفلتها.. إلا عند المساء.. فيرتمي بجسده الضئيل المنهك فوق كومة التبين.. ويحرك جسده الضئيل المنهك في كومة التبن حتي يغطس فيها (بكله) ولايتبقي ظاهرا غير رأسه.. فيسهل عليه- غول النوم- حينها- أن يقبض علي رأسه.. ويظل قابضا عليه.. لايفلته إلا عند الصباح. لكنه ذات ليلة وهو يسبح حالما في نهر التبن.. سمع صوت »العايق« ينادي عليه.. فحسبه في الحلم.. لكن صوت »العايق« تعالي.. فأدرك أن »العايق«- بنفسه -في »الزريبة«.. فخلص جسده.. وجمع أعضاءه.. وانزلق فوق كومة التبن نازلا أمام »العايق«. فسمع »العايق« يقول: اتبعني. فتبعه- ثانية- مثل جرو.. حتي وصل به إلي مساكن الأجراء- هناك- عند نهاية المصرف.. ففتح بمفتاح باب مسكن ودخل إليه و »الزيني« خلفه.. وأشعل مصباحا دار به- تحت بصر »الزيني«- في الباحة الصغيرة للمسكن.. ثم دخل بهما- المصباح و »الزيني«- إلي الحجرة الوحيدة الصغيرة بالمسكن.. ثم خرج بهما ووقف علي عتبة المرحاض وأضاءه من الداخل وقال للزيني: هذا مسكنك. فاندفع »الزيني«- بلا وحي مني- يغمغم ويصرخ ويقبل في يده.. وزاد أن أجهش بالبكاء. وأصبح ل »الزيني«مسكنا.. يئوب إليه- في المساء- ملطخا بالروث والتراب.. فيخلع عنه- في المحاض- ملابس الروث والتراب.. وينتصب- عاريا- في »الطشت«.. يدلق عليه الماء بالكوز من الصفيحة الممتلئة.. ويدعك في بدنه مرة ومرات وتشهد مرة ومرات.. ويدخل إلي ملابسه النظيفة.. وينزلق- حافيا- إلي الحصيرة- المصلاة- في ركن الباحة.. فينوي للصلاة بصوت عال.. مؤديا كل الفروض التي فاتته- لنجاسة الروث- طيلة النهار. وأصبح الاستحمام المسائي طقسة الذي لايفلته.. والذي أعاده- رغم المؤلف- إلي طقسه- هناك- في مرحاض دارهم في النجع.. حين كان يتلصص من نافذة المرحاض علي جارته البيضاء وهي تستحم.. فلم (يحصل) منها إلا علي ذراع بيضاء.. رفعتها ذات مرة أمام نافذة المرحاض.. وأكمل هو- من عنده- بقية الجسد. وظل يحلم به طويلا- الجسد الأبيض العاري. والليلة لايعرف كيف زاره- الجسد الأبيض العاري- فضمه إليه.. وانطلق به فوق حصانه الأشهب إلي فضاء بلا حد.. حتي وصل به إلي جوار النجم.. وقبل أن يطرح الجسد الأبيض العاري فوق سحابة بيضاء وينطرح عليه.. سمع صوت »العايق« ينادي عليه.. فكر راجعا.. و»تكركب« في أرض المرحاض.. ودخل إلي جلبابه »علي اللحم« والماء يتقاطر منه.. وزحف حافيا وفتح باب الدار للعايق الذي دخل ورمقه وابتسم وقال: حمام »العروسة«. وغمغم الزيني ولم يبن. وجلس العايق فوق الدكة الخشبية.. وتربع.. وأشعل سيجارة أطلق منها نفسا عليه وتمتم: »عروستك« لدي. وفتح الزيني فمه في تساؤل.. فأطلق عليه نفسا ثانيا: »وجيدة«. وانخلع الزيني. وجيدة!. وجيدة تلك معشوقة »العايق« رآه بعينيه- هاتين- وهم يجمعون البرتقال.. يمد يده إلي حديقة صدرها ويجمع »برتقاله«. وجيدة! لكن العايق« قال: إنها التي تناسبه.. فهي مثله مقطوعة من »سجرة«.. غرق والدها في النهر وهما يعبرانه للعمل في الوسية. ثم إن زواجه من »وجيدة« لن يكلفه شيئا.. ف »الزيني«- ويعلم الله- مثل أخيه.. وعليه ألا يحمل هما للنقود. وضربه فوق فخذه: ماذا قلت؟. وارتبك الزيني والتفت إليّ- أنا المؤلف- فذكرته- علي الفور- بتلك الليلة التي رأي فيها »وجيدة« تتسلل خارجة من باب دار العايق.. وعليه أن يحزم أمره ويرفض تلك الزيجة. لكنه لوي وجهه بعيدا عني.. وسمعته- أنا المؤلف- يصرخ بالموافقة.. وبعدها سمعته- أنا المؤلف- يشيد بأخلاق »وجيدة«.