»جزء مؤلم من حكاية» رواية حديثة للروائي السوداني المبدع د.أمير تاج السر، صدرت عن دار هاشيت أنطوان ببيروت 2018؛ ويواصل د.أمير تاج السر مشروعه الروائي الممتد الذي يحتفي الخطاب السردي فيه بالشخصيات، والأحداث المختلفة، والفريدة؛ فصيرورة السرد »في كتابة د.أمير» تكشف عن كينونة الشخصية، وحضورها الشعري النسبي، وتحولاتها الجمالية المحتملة في النص من جهة، وعلاقتها بالبني الثقافية، والتاريخية، والاجتماعية الكامنة في الخطاب من جهة أخري؛ وإن ارتكز نص جزء مؤلم من حكاية بدرجة أكبر علي الرعب الكامن فيما وراء تجسد الذات، وتشكل صوتها الملتبس بالفراغ، والتباس بنية القتل، أو تفكيكها في حياة النماذج، والأطياف في فضاء فانتازي، أو أسطوري، والتجريب في بنية الحكي عبر توليد متوالية قصصية مغايرة للمتوالية الأولي التي تجلي فيها البطل كقاتل، أو فاعل؛ ليصير في المتوالية السردية الأخري من الخطاب كضحية لقتل عبثي تختلط فيه بنيتا الخير، والشر، كما يستشرف النص عوالم الحلم التي تنحو إلي القسوة، والآلية أحيانا، وكذلك يستشرف فضاءات ما وراء الواقع التي تذكرنا بأخيلة الجحيم كما تصورها نورثروب فراي في تحليله لنماذج الأدب الخيالية، وتجددها. ويقوم النص الروائي علي توافقية مؤجلة، تحمل نوعا من الاختلاف، والشيزوفرينيا حول الشر بين كل من شخصيتي البطل/ مرحلي، والساحر ديباج الفارسي؛ وأري أن تلك التوافقية المؤجلة تؤكد التناقض الداخلي، والاختلاف؛ لثلاثة أمور: الأول: لا معقولية الشر في العالم الداخلي لكل من الشخصيتين؛ فالقسوة التي اقترنت بطفولة ديباج؛ ومشاهدته لقتل أبيه لأمه، لا تبرر – منطقيا – دائرية التحريض علي القتل العبثي؛ أما مرحلي/ البطل فيستسلم لنموذج الشر غير المبرر بداخله، والذي يقترن برغبة غير معقولة ملحة في إيذاء الآخر، أو الأشجار مثلا، كما يكرر إجابة عدم معرفته بسبب القتل لأطياف ضحاياه في أحلامه المتكررة. الثاني: رعب التجسد في الكينونة، وتفكيكه لبنية القتل نفسها في العالم الداخلي للشخصيتين؛ فكل منهما يعاني من التشتت الداخلي الذي يتمركز حول لا معقولية الرعب الذي يستنزف القتل العبثي الدائري، ويطور الشخصية تطويرا فنيا جدليا باتجاه موقع الضحية المضاعف، والمتكرر، أو الأبدي، والذي يفكك موقعها الأول كفاعل، ويستبدله. الثالث: تفكيك النص لبنية توافقية الشر بين الشخصيتين من داخلها؛ إذ إن لامعقولية الشر لا تحتمل التوافقية، أو التناغم بين الذات، والآخر؛ وكأنها تؤدي إلي الفراغ، وتلاشي الكينونة؛ فقد قدم ديباج صديقه البطل/ مرحلي كقربان لقبيلة من الوثنيين كانت تبحث عن ابن لإبليس؛ كي تدفع عن نفسها الشرور. يسائل النص – إذا – نموذج الشر، ويبحث عن تناقضاته الداخلية في الشخصية، وارتباطه غير المباشر برعب التجسد، والفراغ المحتمل، أو العقاب الإلهي في العوالم الحلمية، أو في صور ما وراء الواقع الصاخبة التي تضاعف من حالة التفكك الأولي في اتجاه مضاد للفاعلية، والحضور الذاتي للشخصية الفنية. وأري أن عتبة العنوان/ جزء مؤلم من حكاية تشير إلي التمزق الداخلي في الشخصيتين، ولا معقوليته، وتفكيكه لبنيتي الصوت، والتجسد في كينونة فيما وراء الانحياز لنموذج الشر، أو القتل، والذي يبدو مهيمنا علي التجلي النسبي المحتمل للكينونة؛ وكأنه يؤجل وجودها الخاص، وتحققها. ورغم امتداد الشر الميكانيكي/ العبثي في شخصية الصبي/ خفير الذي قتل خطيبته/ مبروكة قبل إتمام الزواج بإيحاء من ديباج؛ فإن تأجيل الكينونة يظل مهيمنا في تناقضات الشر، ودائرية القسوة التي تستنزف مدلولها، وتحولها إلي نوع من الفراغ الشبحي الصاخب في النص. ويبدو المكان أفريقيا، ويشير السارد إلي وقوع أحداث الحكي في القرن الثامن عشر؛ وقد تجلي ذلك في بعض التفاصيل؛ مثل استخدام الحمير في النقل، وشخصيات المريدين التي كانت تعرض للأخبار والجرائم في السوق؛ مثل المريد مرجان، فضلا عن بنية الإخفاء، أو العتمة التي تسمح بالجريمة، وبتجلي الظواهر، والعلامات الطيفية، والسحرية بوفرة في الوعي، واللاوعي؛ وهو ما يذكرنا بعوالم رولفو، وإيزابيل الليندي، وكورتاثر، وإن ارتبط السياق الروائي هنا بالانشقاق النفسي الداخلي في الشخصية، وتطورها الجدلي باتجاه السلب، والتفكك المضاعف. ويتضمن النص بعض جماليات ما بعد الحداثية؛ مثل تجاوز مركزية الشر، واستنزافه في حالات الرعب، والفراغ، والألم، والتداخل بين الهامشي، والمهيمن في بنية الشخصيات، واتخاذ الهامشي موقع الأصل في فعل الحكي؛ فالبطل/ مرحلي يبدو – في النص – كفاعل هامشي مستلب باتجاه الآخر/ ديباج الذي يحرض، ويخطط باتجاه دوافع غير عقلانية شريرة؛ ورغم هيمنة ديباج، فإننا نستبين خطابه الداخلي المباشر في فعل الحكي في النهاية، بينما نعاين تجربة مرحلي، وأخيلته علي امتداد النص؛ فالسارد يرتكز علي التبئير الداخلي المتنوع طبقا لتعبير جينيت، وإن كانت رؤية مرحلي، وذاكرته، وأحلامه كانت تحتل الموقع الرئيسي رغم هامشيته في سياق فعل القتل الذي يعود إلي عالم ديباج النفسي، وتشتته، وانشقاقاته الداخلية التي تحققت أيضا في مرحلي، ولكن الأخير كان يمثل موقع التابع؛ كما يصل النص بين الواقع الفيزيقي، والواقع الظاهراتي كما يتجلي في وعي الشخصية؛ ومن ثم تسخر صيرورة السرد من مركزية الواقع عبر تعدديته، وظواهره التي تتجاوز بنيته الأولي. *تحول الشخصية من الفاعلية المحتملة إلي الفراغ: يومئ السارد إلي لحظات الرعب، وتشتت الأصوات في العالم الداخلي للشخصية في خطاب كل من ديباج، ومرحلي؛ ومن ثم يؤجل الفاعلية المحتملة في فعل القتل الذي ينطوي علي نوع من الجنون، أو الشيزوفرينيا التي تقع بين قطبي الفاعلية، والرعب المضاعف. ويشير د. يحيي الرخاوي – في تناوله لاختيارات المجنون – إلي إشكالية زحمة الأنوات، وتصارعها بداخله؛ فهو يري نفسه سلبا، أو مثل النيغاتيف، ويقع بين اختياري أتجمد/ أطفر، أي بين السكون، والاندفاع. (راجع، د.يحيي الرخاوي، مستويات توجه حركية الوجود بين حالات الجنون، والإبداع، والعادية، فصول ع 2 ، أبريل 1992، ص-ص 203، 204). يؤكد د.يحيي الرخاوي – إذا – جانب السلب، أو تأجيل الكينونة في صراع الأصوات في الشخصية؛ ونعاين مثل هذا التقاطب في شخصية مرحلي حين يتوتر بين فاعلية الهيمنة علي ضحيته، وتكراره لإجابة لا أعرف حين يسأله طيف المقتول في الحلم بصورة آلية عن سبب القتل؛ فهو مستلب في نموذج الشر الذي يؤجل حضوره النسبي، وكينونته، ويصل التقاطب بين الرعب، والفاعلية إلي ذروته حين تجتمع أصوات الضحايا وتتنافر بداخله وتسأله هل قتلتني؟ لماذا؟؛ فضلا عن تصاعد الكوابيس بين الداخل، والخارج؛ وكأنها تعزف سيمفونية مضادة للنشوء، وحين احتضانه لصقر محنط ذي عينين منزعجتين، وبكائه. لقد اتخذ مرحلي هنا موقع الضحية بصورة مضاعفة، وتطور جدليا باتجاه الفراغ الذي يؤكد إشكالية صراع الأصوات المتباينة بداخله. ونعاين مثل هذا التقاطب في الخطاب الداخلي لديباج، وإن جاء بصورة مضاعفة، وعبثية إذ يقر بأنه كان يبكي الضحايا بنشوة معذبه، وهو من حرض علي قتلهم، دون مبرر؛ إنه يتخذ موقع الضحية أيضا، ويستبدل بنيتها بصورة متناقضة تجمع بين الرعب، والقسوة، ولكن بصورة ممتدة، وشبه أبدية. إننا أمام تطور سردي للشخصيتين باتجاه تأجيل أصالة الفاعلية، والغياب في فراغ صاخب ملتبس بآلام التشتت، والتفكك. ورغم تواتر حالات التناقض الداخلي في بعض الشخصيات الفنية، والأدبية؛ مثل ماكبث لشكسبير، وراسكولينكوف عند دوستويفسكي؛ فإن التشتت الذاتي هنا يبدو في حالة استباق للكينونة، وأقرب لتكرار النموذج، واتجاهه المضاد لتشكل الذات، وقد تجلي ذلك جزئيا في بعض تجارب آرتو، وسارة كين، ولكن في سياق ثقافي مغاير؛ فالتجربة الروائية هنا تؤكد التكرار الذي يجمع بين البساطة، والتعقيد في بني الشر، والقسوة، والتجسد المؤجل. دائرية القسوة في فضاءات الحلم، والواقع، وما وراء الواقع: يراوح نص د. أمير بين القسوة الميكانيكية العبثية التي تجلت في أسئلة الضحايا عن سبب قتلهم في أحلام البطل/ مرحلي، والقسوة الصاخبة التي تحققت في لحظات ما قبل قتل مرحلي علي يد قبيلة تقدمه قربانا بوصفه ابنا لإبليس، وفي عوالم ما وراء الواقع، تمثلت – في النسق السيميائي للسرد - في الأخيلة الجحيمية الدائرية، وفي علامة المرأة البشعة التي وضع وشم سلحفاة علي فخذها، وقد قامت بلطمه وضربه علي بطنه، أو في عودة طيف شخصية سلاملي الكذاب من عالم الموتي في وعي، ولا وعي مرحلي، وإقامته بجواره، واحتمالية أن يكون نبوءة بموته ، أو بغيابه المحتمل ضمن حياته اليومية نفسها؛ وأري أن شخصية سلاملي الفنية بالغة التركيب، وتدل علي انحياز النص للتجريب، وتداخل الأصوات، وتفكيك العلاقة بين الفن، والسياق التاريخي للحكاية، وبنية الواقع المؤجلة. وثمة قسوة دائرية أخري تتعلق بهيمنة نموذج الشر علي الشخصية، واستنزافه لبنيتها، وخصوصيتها المحتملة، وتكراره في صيرورتها السردية التي تنتهي إلي فراغ صاخب. ويري نورثروب فراي – في كتابه الخيال الأدبي – أن النماذج الأدبية قد تصير كونية وتتداخل مع حياتنا الخاصة؛ مثل نموذج أخيل، أو شخصيات بيكيت الشبحية التي تشبه الأساطير في الواقع، وتعقيدات الحياة. (راجع، فراي، الخيال الأدبي، ترجمة: حنا عبود، منشورات وزارة الثقافة بدمشق، 1995، ص 36، 39). هكذا يكرر نموذج الشر بنيته في ديباج، ومرحلي، ويمتد في الصبي خفير؛ ليوحي بتجدد القسوة في ذلك الفراغ الصاخب الذي يستبق نشوء الشخصية الفنية، ويستبدلها بحالات حلمية، وفوق واقعية من الرعب الشبحي المحتمل. الحضور الظاهراتي للموتي: يشير السارد إلي الحضور الظاهراتي – في وعي مرحلي – لشخصية سلاملي الكذاب؛ وهو شخصية تجمع بين الحضور الظاهراتي، وتعددية طبقاته الثقافية، والفنية التي تذكرنا بحديث فريزر عن رهبة عودة الموتي، فضلا عن تعلقه الفني بالبحر، وأخيلته، وعائلته الشبحية، ومنزله الشبحي، ومراوحته بين التجلي الطيفي، والاختفاء في وعي، ولا وعي مرحلي؛ ويدل حضوره علي أمرين: الأول: الحضور المجازي، والتشبيهي للموت، وتفكيك مركزيته؛ وكأنه يفكك بنية التجسد الأولي؛ ومن ثم القتل في وعي مرحلي. الثاني: إغواء النهايات، وامتزاجها – في النص – باللعب، ومراوحة الظهور، والغياب التي تستنزف الواقع، والفاعلية التي تبدو هنا في حالة تأجيل مضاعف. ويشير النص أيضا إلي التكرار الجمالي التمثيلي، والتحريفي لمشهد دفن الياطور حسن، وكان مرحلي قد قتله، وتم دفنه فعلا منذ مدة؛ وكأن طقس الدفن ينبعث – في الوعي – بصورة جمالية سحرية، تؤكد تعدد الفضاءات، والأطياف المجازية التي قد تتجاوز دائرية القسوة.