بلاشك وبلغة الأرقام، استطاع جناح هيئة قصور الثقافة في معرض الكتاب، أن يحقق نجاحا يوصف بأنه »استثنائي» فقد أصبحت مساحة ال 72 مترا الواقعة في صالة واحد بمركز مصر للمؤتمرات بالتجمع، مركزا لزوار المعرض، الذين وقفوا صفوفا، وانتظروا بعضهم البعض من أجل الحصول علي كتب، تعد هي الأرخص، في كافة أرجاء المعرض، ولا ينافسها في هذا الأمر، جناح آخر، فجميع الإصدارات يتراوح ثمنها ما بين جنيهين و22 جنيها، والغالب لإصدارات تصل لأقل من عشرة جنيهات. لكن هل الأسعار القليلة، هي الدافع الوحيد للشراء، ولهذا الإقبال الاستثنائي، الذي جعل هناك ربطا كبيرا بين مخازن الهيئة وكذلك الأماكن التي تطبع فيها إصداراتها وبين المعرض، ولا أبالغ إذا قلت إن هذه الحركة تكاد تكون مقصورة علي جناح الهيئة، الذي ما يلبث أن تنتهي بعض عناوينه، لكي يمتليء المكان من جديد، بذات العناوين أو بعناوين جديدة. مرة أخري هل السعر هو فقط السبب، بالتأكيد لا، فهواة القراءة يعرفون جيدا، أن السعر في أحيان كثيرة لا يقف عائقا أمام شراء هذا الكتاب أو ذاك، كما أن عددا لا بأس به من جمهور المعرض، يستعد لهذا الحدث السنوي، بتوفير ميزانية تسمح له بالشراء، وهذا لا يمنع أن يكون السعر المنخفض دافعا للمزيد من الاقتناء، إذن السعر ليس هو فقط سر التكالب علي جناح الثقافة الجماهيرية. في رأيي أن السبب الرئيسي هو »الرؤية» التي حكمت مشروع النشر في الفترة السابقة، هذه الرؤية التي راعت الإجابة عن سؤال رئيسي »لماذا تمتعت مصر في فترات كبيرة ومؤثرة بكونها قوة ناعمة»، أعتقد أننا انطلاقا من هذا التساؤل ممكن أن نقدم إجابات عما استرعي الانتباه من قبل محبي القراءة لجناح الهيئة، منها أنها استطاعت أن تقيم أول احتفالية شعبية بثورة 1919، بمناسبة قرب مئويتها، هذه الاحتفالية اعتمدت علي تقديم تسعة كتب دفعة واحدة وفي لحظة واحدة وفي مكان واحد، لحدث هو الأكبر تأثيرا في حياة المصريين علي كافة الأصعدة، تنوعت هذه الإصدارات ما بين تقديم يوميات هذه الثورة، ودوافعها، ورموزها والسياق التاريخي الحاكم لها، وتجارب ذاتية لمن عايشوها لحظة بلحظة، من هنا مثلت هذه المجموعة كاملة رؤية واضحة لنضال شعب وعدم استكانته، وسعيه نحو الاستقلال، فضلا عن رصد التداعيات التي حدثت لمواجهة هذا الحلم من قبل بريطانيا، نحن هنا أمام إتاحة أرشيف وطني كامل لحدث فريد، ويكفي تأمل هذه العناوين لنتأكد من أن »الرؤية» هي التي أدت إلي أن تقيم الهيئة هذه الاحتفالية الشعبية، وأن الاقبال علي شراء هذه المجموعة يؤكد نجاحها، لتميزها وثرائها، فعناوين هذه المجموعة: » بريطانيا وثورة 1919» د. مكي الطيب شبيكة، »سجين ثورة 1919» د. محمد مظهر سعيد، »تأملات في ثورة 1919» محمد عبد الفتاح أبو الفضل، »ثورة 1919 تاريخ مصر القومي من سنة 1914 إلي سنة 1921» عبد الرحمن الرافعي، »في أعقاب ثورة 1919» للرافعي في جزءين، »ثورة مصر 1919 دراسة تاريخية تحليلية » د. عبد العزيز الرفاعي، »سعد زغلول وثورة 1919» د. عبد الخالق لاشين، و »دراسات في ثورة 1919» د. حسين مؤنس. هنا نحن لا نستعيد فقط حدثا تاريخيا، وإنما نستعيد معه » قوة مصر الناعمة » لأننا حينما نقرأ هذه الكتب نتعرف علي مصدر من هذه المصادر، وهو التكوين رفيع المستوي لهذه الأجيال التي أرخت لمصر في كافة المجالات، واللغة الراقية التي كانت مصدر لتعلم الكثير، فقد وقعت في أسر لغة حسين مؤنس، لاسيما في مقدمته التي يبرر فيها لماذا يكتب في التاريخ الحديث وهو المتخصص في التاريخ الإسلامي: » كثيرون من إخوتي من أهل التاريخ الذين أنكروا عليّ إقدامي علي الكلام في موضوع هو من صميم اختصاصاتهم، ورأوا في ذلك لونا من التدخل غير المقبول، في عصر يقوم فيه العلم علي التخصص.. ومادام للتاريخ الحديثه أربابه، فما شأن مؤرخ الإسلام هذا وتاريخ مصر الحديث يوغل فيه، وعلي مدي سطور كثيرة يبرر ذلك بأن المتخصص في فرع في التاريخ، لابد أن يكون ملما إلماما كبيرا بالفروع الأخري. هذه هي قيمة مثل هذه الإصدارات، أنها نعرفنا علي المناخ السائد والقضايا المثارة، وعن قيمة هؤلاء الاستثنائية، التي حققت لهذا الجناح » الاستثناء » النجاح الكبير. أعود مرة أخري إلي فكرة قوة مصر الناعمة المتحققة في هذا الجناح، ويظهر ذلك جليا من كون هذا المكان، يجمع ولأول مرة مشروعا فريدا في تاريخ الثقافة المصرية، وهو » روائع المسرح العالمي » وهو مشروع أخذ وقتا وجهداً كبيرين، لكي نصل إلي هذه النتيجة المبهرة، بعرض 25 كتابا دفعة واحدة، تم فيه مراعاة حقوق الملكية الفكرية، فلم يطبع كتاب دون مراعاة هذه الحقوق، هذا المشروع أعاد لنا مرة ثانية قمما كبيرة، بعضهم كان في بداية مشواره الإبداعي والتكويني والبعض الآخر كان قد تجاوز ذلك، نري هنا أسماء مجتمعة قامت بجهد كبير في نقل عيون المسرح العالمي للقارئ العربي، هذه السلسلة التي كانت دافعة ومشجعة لدول أخري في أن تحذو حذو مصر، وهذا ما أقصده من أن هذا الجناح أعاد لنا أسباب »قوة مصر الناعمة»، لكي نتأملها لعلنا نستفيد. أعود إلي الأسماء التي شعرت بسعادة كبيرة وأنا أقتني أعمالها في لحظة واحدة: د. عبد الغفار مكاوي، أنيس منصور، سعد مكاوي، جلال العشري، مصطفي ماهر، محمد غنيمي هلال، مفيد الشوباشي، عبد الفتاح الديدي، علي جمال الدين، وحيد النقاش، الذين ترجموا مسرحيات من لغات مختلفة: الإنجليزية، الأسبانية، الألمانية، وغيرها. الأهمية في إعادة الحياة إلي هذا المشروع، ليس فقط في الترجمات، لكن ما يمكن أن نتعلمه من تأسيس المشروعات الكبري، ففي ترجمة » بيكيت» ..و »شرف الله » ل جان أنوي، ترجمة سعد مكاوي، نجد قبل مقدمة الترجمة، صفحتين بعنوان » شكر واعتذار » ، يسرد فيها المشرف علي هذه السلسلة د. محمد إسماعيل الموافي، كيف أنهم لم يستطيعوا تحقيق ما وعدوا به بأن يقدم هذه الترجمة محمود أمين العالم، وأن مشاغله قد حالت دون ذلك، لكنهم لا يستطيعون حبس هذه الترجمة أكثر من الوقت الماضي، ونتج عن اعتذار العالم أن قدموا وجها جديدا تولي تقديم عمل ترجمته شخصية في حجم سعد مكاوي: » وهنا قدم الدكتور ريمون فرنسيس للجنة تلميذته النجيبة الدكتورة سامية أحمد أسعد، وقد عادت لتوها من باريس محملة بذخيرة من أحدث النصوص والدراسات المسرحية، وأهم من ذلك عادت وهي مزودة بشحنة من الحماس الذكي وطاقة عذراء علي العمل وواصلت فيه الليل بالنهار، فكانت هذه الدراسة المركزة التي يجدها القارئ بين يديه.. واللجنة تود بهذا أن تسجل شكرها للأستاذ المترجم وامتنانها للدكتورة كاتبة المقدمة وتعتذر عن الأستاذ محمود أمين أمين العالم، وتأمل أن يتسع وقته للتعاون مع سلسلة مسرحيات عالمية في المستقبل ». هذه الطاقات التي نعيد اكتشافها اليوم، بفضل مشروع النشر في الثقافة الجماهيرية هي التي حققت لنا التواجد الثقافي المتميز والفعال علي الخريطة الإنسانية، كل واحد من الأسماء السابقة جديرة بالتوقف عندها طويلا. أعتقد أنه ربما نكون قدمنا إجابة عن لماذا نحن أمام جناح استثنائي في معرض الكتاب، لكن الأهم من وجهة نظري ألا يكون حدثا عابرا في تاريخ الثقافة الجماهيرية، وأن يتم المحافظة علي هذا المشروع، الذي لابد أن ينطلق بخطوات أوسع في الفترة القادمة، وأن يتم بشفافية كبيرة التعرف علي إيجابياته وسلبياته، وما المشروعات التي يمكن أن يقدمها، والوحيد الذي بيده أن يحافظ علي هذا المشروع هو د. أحمد عواض رئيس هيئة قصور الثقافة، الذي دفعه خطوات للأمام، تحية له وللزميل جرجس شكري أمين عام النشر، ولهيئات التحرير وأظن أنني لابد أن أعود مرة أخري للحديث عن مشروع النشر بتفصيلات أكبر وأوسع.