يدهشني حقا الكاتب الصحفي الكبير والمؤرخ العسكري القدير د.عبده مباشر بإصراره الفولاذي علي استنقاذ اللحظات الفارقة المفعمة بالدلالات من أنياب الضياع »المسنونة»، وهاوية التلاشي الرهيبة، ويبدو أنه قد نذر قلمه المغموس في مداد المواقف النادرة والتجارب الثمينة التي قلما تتيحها الأقدار مجتمعة لشخص بعينه، ورحلة هذا الرجل الذي درس الفلسفة، وتعمق في العلوم العسكرية، فجمع مزايا الحقلين، مكنته من النجاح في مهامه التي تتبدي وكأنها »مستحيلة»، فآلاف التفاصيل الدقيقة التي يحرص هو علي استنقاذها منفلتة للأسف، وشهودها ورواتها يتخطفهم القضاء المحتم، ولا يمكن حصر المواقف المصيرية التي يصر »مباشر» علي توثيقها حتي لا تتبخر في محيط الزمن »اللانهائي»، ولكنه كمقاتل عاش معظم سني حياته بين المحاربين دفاعا عن الشرف والعرض والأرض، بدا مثابرا دؤوبا في مهامه لاستعادة الحقائق الهاربة، والأسرار المولية، وثوثيق التفاصيل المزدحمة بالمعاني الكاشفة، والدلالات المفسرة، وقد استقبل مؤرخنا الكبير معرض الكتاب بإحدي ثمرات رحلته المضنية، إذ أصدر كتابه »ٍسنوات في قلب الصراع.. مذكرات الفريق أول محمد صادق وزير الحربية الأسبق، وفيه يواصل مهمته الشاقة الأثيرة لديه في الحفاظ علي الحقائق الحاسمة، والأسرار الشارحة، والتفاصيل بالغة الأهمية عبر توثيق شهادة قائد عسكري كبير شارك في صنع الأحداث المصيرية، وقد خاض العديد من المعارك البارزة في تاريخنا المعاصر، واقترب من دوائر صنع القرار في بلادنا، فكان شاهدا علي حشد من الأسرار السياسية التي كشف عنها مباشر في كتابه بعد أن اختاره صادق لتسجيلها، وأولاه ثقته فأفضي له بتفاصيل خطيرة لا تستطيع هذه العجالة ذكر بعضها فضلا عن حصرها، وقد شرح »مباشر» في مقدمة الكتاب الصادر عن المكتب المصري الحديث، لماذا اختاره القائد العسكري البارز لتلك المهمة الوطنية الجليلة، أن توثيق »مباشر» لمذكرات »صادق» خطوة جديدة علي طريق مجموعة من المؤلفات مثل كتاب »تاريخ البحرية المصرية» الذي ألفه بالتعاون مع العميد إسلام توفيق، والكتاب محطة في رحلة شاقة ارتضاها مؤرخنا العسكري القدير، فهل يواصلها رغم الأشواك الجارحة المنتشرة علي الطريق الذي لم يشهد تمهيدا يروض وعورته وقسوة فوضاه!