تتكون هذه المجموعة أولي ما نشر الأديب أحمد حمدان من تسع قصص قصيرة تتراوح صفحاتها من القطع المتوسط ما بين ست صفحات (قصة العميد) و24 صفحة (قصة الإعدام خنقاً) وواضح أن مبدعنا قد أدرك أن أفضل نبع يمتح منه هو بيئته المنياوية ، فهو أدري بها عن غيره ، وهي التي أمدته أو استخدمها- مسرح أحداث قصصه ، كما كانت من قبل البيئة القصصية لمبدعين مصريين سابقين من البيئة نفسها بيئة الصعيد الأوسط مثل طه حسين في «دعاء الكروان» الذي استوحي مسرح أحداثها من قرية بني وركان (بين الوركين كما ينطقها قاطنوها) من ضواحي مدينة العدوة بمحافظة المنيا ، ويحيي حقي في «خليها علي الله» التي استوحاها من عمله معاونا للإدارة في ديروط أول مدن محافظة أسيوط التالية لمحافظة المنيا . فمبدعنا علي سبيل المثال يستوحي من هذه البيئة الهيكل العام لأولي قصص مجموعته حين يقول : بلدنا معروفة جدا بالقدر الذي يمكن به اعتبار عواصم العالم القديم معروفة ومشهورة - كانت بلدنا عاصمة لمصر في عصر التوحيد . التاريخ يعشقها وعلم الديانات يهيم بها ( لعله يقصد ما كان يُعرف بتل العمارنة والآن بني عمران القريبة من مدينة المنيا) وقد سعدت بقراءة هذه المجموعة ضعف ما يسعد به الآخرون لأنها أمتعتني متعة مزدوجة : متعة إبداع واعد ، ومتعة إثارة ذكريات شخصية لبيئة عشتها في شهور إجازاتي المدرسية الصيفية في طفولتي وصباي حيث كان يعيش جدي وجدتي والدتي في المنطقة نفسها واستوحيت منها كما استوحي منها أخي يعقوب كاتب الأطفال بعض قصصنا . وتتميز مجموعتنا بالسمات الآتية : - لعل أبرز سمة في هذه المجموعة أنها تقدم لنا المجتمع المصري في أواسط الصعيد في مستهل القرن الواحد والعشرين ، وسأشير إلي القصتين الأوليين في المجموعة مثالا علي ذلك : - البعثة الأمريكية منذ عقود وهي عندنا مقيمة تنقب عن الآثار (أحمد حمدان، البعثة ، المجلس الأعلي للثقافة، الكتاب الأول ،2009 ، ص11 )، وعلاقاتها الإيجابية والسلبية بالأهالي ممثلة في علاقة الدكتور الأمريكي رئيسها بلا اسم بعبد الله الصياد الذي «لا يعرف الألف من كوز الذرة» (ص18) بينما تعلم الدكتور العربية لدرجة أنه أصبح بوسعه أن يردح ويغني ويكيل السباب البذئ بدقة وحرفنة منقطعتيْ النظير ، وحين يشرع في تعلم شيء يمضي فيه حتي يتقنه (ص13) فالقصة تعلن تفوق الأمريكي الغريب علي ابن البلد رغم الانتصار الظاهري الذي تنتهي به قصتنا حين خلق الدكتور لبطلنا عبد الله وظيفة لا عمل له فيها سوي قبض مرتب آخر كل شهر . - أما قصة «الفوانيس» وإن كنت لا تعرفها فهي فخاخ سميكة تشبه البراميل لتصبح أدوات صيد بدائية تُحشر فيها الأسماك لتُجمع في جردل ثم تُباع إن بلغت قدرا يستاهل الانتقال إلي السوق وإلا يتم قليها أو تسبيكها في طاجن محترم عامر بالتقلية» (ص30) ، ثم تنتهي جملتنا بهاتين الكلمتين «بالهنا والشفا» وهي كلمات تتناثر أمثالها في مجموعتنا لتميز أسلوبها . وبطل القصة عم عمران حارس نادي هيئة التدريس بالمدينة ، لكنه يقوم بعمل إضافي هو صيد السمك من النيل الذي يطل عليه النادي ليبيعه لأعضاء النادي ، وتتلخص حركة القصة في نقل وحدة الإنقاذ النهري إلي جوار النادي ، وإقامة غرزة لجنودها (تصور غرزة للجنود) علي هامش بوفيه النادي مما أدي إلي ضعف إنتاج الفانوس. وتنتهي قصتنا بحل وسط : فلتعمل الغرزة يوما وتغلق يوما . فإذا عملت الغرزة يوما أنتج الفانوس (أيام المد) وإذا وقفت أجدب (أيام الجزر) وصار الواحد من أعضاء هيئة التدريس إذا جاء إلي النادي يسأل عم عمران : النهاردة مد ولا جزر يا عم عمران؟ (ص38). - ثقافة الراوي أو المؤلف تطل في أكثر من قصة حيث تعلو علي ثقافة شخصياته القصصية ومعظمهم من البسطاء ، تطل معظمها من خلال التشبيهات : فضوء الشمس يتساقط من ثنايا أوراق أشجار دقن الباشا ليقع علي الثياب في بقع ضوء متلألئة متراقصة كدنانير المتنبي في شعب بوان (ص30) (وأنا لا أعرف من هو أو ما هو بوان) . ويتحدث الراوي عن السيارة ربع نقل التي تأتي بعم عمران بطل قصة الفوانيس كل صباح من بني محمد توصله ثم تعود لتنقل بعض رؤوس الماشية لبيعها في سوق البندر وترجع إلي البلد محملة بجهاز لعروس جديدة ... كل هذا في نفس السيارة : الجماد والنبات والحيوان والإنسان، ثم يعلق الرواي بثقافته «ديموقراطية تزري بأكذوبة أثينا ، ووحدة وجود دونها بكثير شطحات الحلاج» (ص 36). وفي قصة «الحفرة» نقرأ أن مدرس اللغة العربية الوحيدالذي كان يثق فيه الناظر مات «رحمه الله « والفاتحة علي روحه ، أما باقي المدرسين فاستشارتهم فضيحة ألعن من جرسة نيكسون ص 47 (وكان رئيسا للولايات المتحدة وأقيل من منصبه بسبب إحدي الفضائح). وفي قصة زوجة المناضل ش ، نقرأ أن أم أشرف سيدة شهمة فعلاً ... وفوق ذلك فهي جميلة من ذلك الجمال الذي تجده في لوحات جيرار وماتيس ... نزهات واسترخاء ، وغباء ورحرجة (ص 61) . كما نقرأ أن بطل القصة الأستاذ مشهور فيه كارزما (أي جاذبية) « كدة يا أخي سبحان الله» (ص63) . ونلاحظ هنا إحدي الصفات الأسلوبية في المجموعة حين يطعِّم كلماته الفصحي بكلمة أجنبية وأخري عامية . وفي قصة «سباق الحواجز» يعلننا الراوي كاشفا عن ثقافته الفلسفية أن من لا يرضي بالقليل كما يقول أبيقور (أحد فلاسفة الأغريق) لا يرضي أبدا (ص100) . وأن أمين الشرطة الكهل هتف (المؤلف هنا كاشفا عن ثقافته الموسيقية) بصوت باص منفر لا ودّ فيه مخاطبا أيمن( ص 101) . وعن ثقافته التوراتية حين نقرأ أن نقيب المرور احتفظ بنظارته الشمسية السوداء العريضة التي لم يكن بحاجة إليها لأن النور الذي دعاه الله نهاراً كان قد ولّي ... والظلمة التي دعاها ليلا كانت قد بدأت تزحف (راجع سفر التكوين العدد 5 : ودعا الله النور نهارا، والظلمة دعاها ليلاً). وعن ثقافته في علم الحيوان والتي نسبها إلي الضابط الشاب حين نقرأ أن النقيب كان يحب أن يشبه سنوات عمره بأصابع الشمبانزي ، لأنها طويلة سوداء حدباء عاشت آلاف السنين فلم تصنع حضارة (ص102). أتبعها بمعلومات عن الشعراء في صدر الإسلام حين يستطرد في تقديم هذا النقيب قائلا إن « سيادته ممن يحبون نقد ذواتهم بتشبيهات مماثلة لا عن تواضع بل هكذا كهجاء الخطيئة» (شاعر من شعراء صدر الإسلام توفي عام 93ه - 678م) لله في الله (ص103) وفي نهاية هذه القصة نقرأ عندما أفلت بطلها أيمن الطالب بكلية الصيدلة من اتهام ضابط المرور بإحرازه الحشيش لمجرد أنه توعده رداً علي سبابه له ، نقرأ تعليق رواي القصة بالمثل العربي « أحشفا وسوء كيل» (ص109) يقال عمن يلقي خسارتين : إفلات فرصة العمر علي حد تعبير راوي القصة- بالفشل في القبض علي الطالب ، وخسارة السيجارة المحشوة بالحشيش أيضا «موت وخراب ديار» (ص109) . وهكذا فك أمين الشرطة الذي ليس أمينا علي الإطلاق - فك «الزر النحاسي الأصفر وأخرج السيجارة وقدمها لسيادة النقيب الذي أشعلها وطفق يدخنها» (ص109) وهكذا تعلن القصة أن الاتهام والبراءة توجهان في مجتمع فاسد توجيها عكسيا بحيث يصبح البرئ متهما لأنه « تحت» ومرتكب الجريمة تبرئه سلطته لمجرد أنه «فوق» إنها قصة مخيفة تدين المسئولين عن الانضباط معلنة أنهم هم أنفسهم في الطرف الآخر من عدم الانضباط . نهايتها الاستثنائية تصيب قارئها بالفزع خشية علي نفسه وأحيانا وبلده . إنها إدانة حرجة لبعض من عُهِد إليهم حمايتنا من الجرائم فإذا هم يرتكبونها مطمئنين إلي إفلاتهم من العقاب مطبقين المثل «حاميهم حراميهم» بل « ظالميهم « . أسلوب السرد يتسم بعدة سمات أولها الجمل الاستفهامية علي نحو ما نقرأ في قصة الحفرة . فالراوي يثير حب استطلاعنا بهاتين الجملتين الاستفهاميتين : هل يمكن أن تكون جوادث التاريخ مضحكة إلي هذه الدرجة ؟ لا أظن ... لكن إذا كان ظني صحيحاً فلماذا يضحك طلبة ثانية ثالث علي هذا النحو الصاخب ؟( ص71). - في جملة واحدة يقدم لنا المبدع سمات شخصية بطله الأستاذ مشهور بطل قصة «زوجة المناضل شين» فيقول إنه يستعين علي الرؤساء بالنفاق ،وعلي الشقاء بالفلاسين (وأنا لا أعرف ما الفلاسين ولم أجدها فيما لدي من قواميس) وعلي المعاشرة بالحشيش وعلينا بخفة الدم ، أي في تعامله الرباعي : الوظيفي والمناخي والجنسي والزمالة . - الانتقال من ضمير إلي آخر في الجملة الواحدة مما يهبها طابع الحيوية مثال ذلك قول الرواي في القصة نفسها : علي أم أشرف أن تحمد ربها ، وتبوس يدها علي الوجهين أن زارتها عفاف زوجة مأمور الضرائب وشقيقة ضابط المرافق الذي خدم أبا أشرف ألف مرة من قبل ولا انتي ناسية ؟ (ص67). - تطعيم الأسلوب بتعبيرات شعبية ... ففي قصة البعثة أي البعثة الأمريكية للتنقيب عن الآثار ، نقرأ أن قوارب الهيئة تلقي في قاع النهر أمام باب الفيلا بأجولة العلف . وبالأسلوب الاستفهامي - إحدي سمات الأسلوب الروائي - يتساءل الروائي : فهل تتمرغ أسراب السمك أمام الفيلا حبا في شعر الدكتور الأحمر أم تراه قطبا ؟ والسمك الكثير كرامة ... مدد سيدنا الدكتور مدد (ص14). أما عبدالله الصياد فهو لا يعرف الألف من كوز الذرة (ص28) . وعندما كان يصطاد السمك يشتريه منه أساتذة الجامعة أعضاء النادي الذي يطل علي نيل المنيا ويعمل به عبدالله جاد في مقابل ثمن معقول يُقدر هكذا بالتقريب دون وزن ، والدفع دون معارضة، فالفصال يقل البركة (ص34) . وفي قصة سباق الحواجز يصف الراوي المنادين الذي يحتكرون تنظيم إحلال السيارات المنتظرة علي الأرصفة يصفهم بأنهم ممن يخاف ولا يختشي (ص99). بل إن المؤلف يوظف من حين لآخر كلمة عامية يراها أفضل أو أوقع تعبيراً مثل يحبس بالشاي الكشري (ص 32) أي يختم . وغطرش (ص62) أي لم يستجب ... وحتي الذين لسَّنوا علي مشهور (ص66) أي شهّروا به ... ولم يلبث الخلاف حول مرجلة (أي جدعنه) مشهور (ص 66) . ويوارب (ص102) أي لا يغلقه ولا يفتحه تماماً . - بل إن مؤلفنا يصك بعض الألفاظ مثل قوله : قال مشهور متبالها أي مصطنعا البله (ص64) . وفي المجموعة بعض الأخطاء اللغوية التي نرجو تصحيحها في الطبعات التالية مثل : هذا نوعا (ص34) وصحنها نوع . لكن يقينه بأن في اليأس فضول زائد (وصحتها فضولا زائدا) (ص75) تتسأل، تتساءل (ص76) لأ لا (لئلا) (ص134) فستجدوا (فستجدون) (ص136). واضح أن هذه المجموعة القصصية تكشف عن موهبة أدبية لو واصل صاحبها الإبداع فلن يقل تميزا عن إبداع مواهب أجداده وآبائه السابقين من الحقوقيين المتميزين في تاريخ أدبنا المصري المعاصر ابتداءاً من محمد حسين هيكل ومروراً بتوفيق الحكيم ويحيي حقي حتي معاصرنا وصديقنا الدكتور كمال رحيم . كما تطمئننا هذه المجموعة أن مصر ولادة ، وأنه ما يزال فيها أحد عشر مبدعا، إشارة إلي القصة التوراتية أن سيدنا إبراهيم حين علم أن الله سيحرق عاداً وثمود (سدوم وعمورة في التوراة) توسط حتي لا يحرقهما إذا كان فيها خمسون صالحا ، لكن الله أعلن أن هذا العدد غير متوفر ، فظل إبراهيم ينقص لعدد حتي العشرة ، لكن الله أنبأه أنه حتي العشرة الصالحين غير موجودين ، فتخلي إبراهيم عن وساطته وتم إحراق المدينتين . وأنا أقول إنه ما يزال في مصر أحد عشر صالحا ، وما يزال فيها أحد عشر ممن يحفظون لمصر تواصلها رغم ما يبدو من سلبيات ربما تثير اليأس .