يحدث في بروكلين: محاولة لحل كلمات متقاطعة هي: ست عجوزة؛ هو: رجل عجوز. يجلسان وجهاً لوجه. "مع بعض"؟ أم مجرد أصدقاء، رفقة نهاية العمر التي طلّقت الجسد ونداءاته؟ كلٌ منهما يجرب يده في كلمات متقاطعة. أجلس جوارهما. أشغل نفسي، كالعادة، بأشياء لا أهمية لها. العجوز: هو إيه معني "شارع" بالفرنساوي؟ تلات حروف. العجوزة: وأنا إيه عرفنّي! أنا مش فرنساويه! شيخ مسن، ذو شغف يسري به لأرض أجنبية. لابد أنه. لألسنة أجنبية. في المرة القادمة عليه أن يُحضر معه قاموساً فرنسياً: هداية البرنس إلي لسان الفرنس. يضيع مني حديثهما، وأغوص فيما شغلت نفسي به. أتنبه علي صوتها: العجوزة (بنفاد صبر): إنتَ فاكرني يونانيه! إنتَ فاكرني فرنساويه! مش عارف ااااااا ه! صوت: عجوز؛ ودافئ؛ وغاضب. يمر أتوبيس. في الخارج. أراه عبر الزجاج: تجري امرأة كي تلحق به في المحطة القريبة التي لا أراها؛ لكنني أؤمن، لسبب ما، أنها هناك! كلبان، ورجل عجوز، وأغنية في الخارج: "الدنيا ربيع والجو بديع ، قفل لي علي كل المواضيع ، قفل ، قفل ، قفل". وجه، باسم فمه وعيناه، متصل بجسد عجوز. ناسك عاميّ، من الشعب، خرج في تمشية مسائية. يرتدي شورت وفانلة قديمة. إنه زاهدٌ في الحياة الأمريكية، وفي أي حياة أخري، لكنه لم يعرف غيرها، أي الأمريكية، حياة. يجرّ وراءه كلبة، بحب. ينظر للكلب المربوط. بني اللون، مقطب الجبين، متوحد. ويبتسم له. "أهلاً، أهلاً، إزيك؟" يكش الكلب مبتعداً، نافراً، ليس منه فقط، بل من العالم أيضاً، بكلابه، وبشره، بكائناته غير المرئية. "إنتَ قلقان مني شويه، مش كدا؟ متقلقش، متقلقش. أنا شفتك قبل كدا." زاهد سليماني؟ يفهم لغة الطير، والحيوان؟ أم ممثل كوميدي في مونولوج مع كلب يمر بأزمة وجودية؟ "بس أنا مش فاكر اسمك. معلش. يلا يا بيجي، يلا يا حلوه، سلمي." تقترب الكلبة منه، تمد خطمها، تهوهو شيئاً ما، خافتا، متودداً، لابد. ربما: يا عاقد الحاجبين، علي الجبين اللجين. لكنه لا يستجيب حتي لها، بنت جنسه. لا يتنازل لسطوة الجنس، لفصاحة لسانها، للجمال. يتباعد بجسده، وعقله، ربما، في مكان آخر. مكان، ربما، لا يربطون فيه الكلاب، مكان يعدو فيه فوق خضرة لا نهاية لها، مكان بعيد. "طيب، الأستاذ دا مش عايز يتكلم معانا، باي باي، قولي باي باي، يا بيجي." ينصرفان. "مافيناش كاني، مافيناش ماني، دي الدنيا ربيع والجو بديع." ذات يوم، دخلت المقهي فوجدتهم قد اجتمعوا في مجلس علم. كانوا عشراً أو يزيد، يجلسون في أحد الأركان البعيدة، ورأيت نانسي في وسط الحلقة، فقلت لنفسي: لم ترني، وكدت أعود من حيث أتيت، لكنها أشارت إليَّ أن أقبل، فحزنت لأنني عدت إلي حالتي المرئية، وقلت في نفسي: ليتها لم ترني، مالي أنا ومجالس العلم! لكنني ذهبت إليهم، وجلست علي هامش حلقتهم. ثم إن أحدهم بدأ يتلو شعراً له، فجعلت أتظاهر أنني أسمع، ولا أنصت، لكن رنة صوته، ولكنته الشمالية كانتا تصلان إليَّ وتملآن نفسي حزناً غامضاً، ولما انتهي، قالت نانسي: أحسنت! حينها تنحنح رجل من الجالسين لم أره من قبل، فنظرتْ إليه، وقالت: مَن الرجل؟ قال: غريب من سياتل. فقالت: أراك أيها السياتلي كأنك تريد أن تقول شيئاً. فقال: صدق من قال الفطنة لم تخرج من نيويورك. قالت: هات ما عندك. فقال: كيف بالله عليكِ، تقولين له أحسنت وفي شعره بيت مسروق؟ فوجم كل من في المجلس، وقالت نانسي: أي بيت تقصد؟ فقال السياتلي: هيتهري شِعري كأنه لمون ومش هزعل، ألم تسمعي ببيت فؤاد حداد: هيتقري شعري كأنه لمون ومش هزعل؟ فتبسمت نانسي من كلامه، وقالت، وهي تنظر نحوي: هل ترد عليه؟ فهززت رأسي بما يعني لا، وقلت لها: أنا جائع، ولا أستطيع أن أتكلم، فقالت: ألم تنهي صيامك بعد؟ قلت: لا. ثم إنها قالت للرجل: أيها السياتلي، ما السرقة؟ قال: أن يأخذ المرء ما يخص غيره. قالت: إذن لا تسرق المرأة؟ قال: بل تسرق. فقالت: وهل المرأةُ امرؤٌ إذن؟ قال: لا، سأقول إذن: السرقة هي أن يأخذ المرء ما يخص غيره أو تأخذ المرأة ما يخص غيرها. قالت: ومتي ستقول هذا كي نكمل حديثنا وقتها؟ قال: سبحان الله، أقصد أقول هذا الآن. قالت: حسناً، إذا كان المرء يسرق والمرأة تسرق، ما الذي يُسرق؟ قال: الشيء يُسرق. قالت: وما الشيء؟ قال: الشيء هو ما كان له حال الشيئية. قالت: وما حال الشيئية؟ فلما رأيت الرجل السياتلي يتصبب عرقاً، ووجدت اللعبة قد أعجبتني، قلت بصوت ضعيف: الشيئية، جُعلت فداكِ يا أم فرانك، هي كون الشي شيئاً، أي هي حال الشيء كونه شيئاً، فالشيئية ليست حال الشيء في طور العدم أو في طور اللاشيء، وهما، أعني العدم واللاشيئية، حالتان مختلفتان، أما إن سألتِ: وما هو اللاشيء؟ قلت: هو الشيء مع إضافة لا إلي أوله، وبهذا يكون بيت حداد: هيتقري شعري كأنه لمون ومش هزعل، شيئاً، أما: لا هيتقري شعري كأنه لمون ومش هزعل، فلا شيء، وعليه يكون بيت فؤاد حداد شيئاً يمكن سرقته. فتبسمت نانسي وقالت: صدق من قال إن وجدته صامتاً فلا تدعوه للكلام! قلت: إذن ننتقل للخطوة التالية. ورأيت السياتلي يبتسم لي وكأنه عرفني. قالت: حسناً! إذا كان الشيء يُسرق، وإذا كان أحد جهابذتنا قد أثبت لنا أن بيت فؤاد حداد شيئاً، فلتقل لي أيها السيد هل الشيء شيء بما هو هو أم بما هو غيره؟ قال: بما هو هو طبعاً. قالت: إذن لا يُسرق الشيء إلا إذا سُرق هو هو، وليس غيره؟ قال: طبعاً. قالت: هل حرف القاف هو هو حرف الهاء؟ قال: لا. قالت: وهل لفظة "هيتقري" هي هي لفظة "هيتهري"؟ قال: لا. قالت: وهل فعل القراءة هو هو فعل الاهتراء؟ فحوقل الرجل، ثم قال: لا والله. قالت: قل لي إذن هل هيتقري شعري كأنه لمون هو هو هيتهري شعري كأنه لمون؟ قال: لا. فقالت: لك الشكر يا سيدي، ولتكن إقامتك في نيويورك سعيدة، ولا يفوتنك زيارة مبني الإمباير ستيت فهو مقصد السياح! ثم تحولت عنه كأنها تتوقع منه أن ينصرف. وبينما كنت أهم بالقيام أنا الآخر قالت: هل عندك من جديد تتلوه علينا؟ فقلت: لا، هل لكِ في بعض النثر القديم؟ قالت: هات ما عندك، فقلت: وإنما أشرت بهذا إلي غيرك لأنك تبسط من العذر ما لا يجود به سواك، وذاك لعلمك بحالي، واطلاعك علي دخلتي، واستمراري علي هذا الإنقاض والعوز اللذين قد نقضا قوتي، ونكثا مرتي، وأفسدا حياتي، وقرناني بالأسي، وحجباني عن الأسي، لأني فقدت كل مؤنس، وصاحب، ومرفق، ومشفق، والله! لربما جلست في المقهي فلا أري إلي جنبي من أشرب معه القهوة، فقد أمسيت غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنساً بالوحشة، قانعاً بالوحدة، معتاداً للصمت، يائساً من جميع من تري، متوقعاً لما لابد من حلوله، فشمس العمر علي شفا، وماء الحياة إلي نضوب، ونجم العيش إلي أفول. فعبست، ثم تبسمت، ثم تبعسمت، وسمعتها تقول، بينما أبتعد عنهم: ما تلاه عليكم هذا الذي اشتد ساعده من التوحيدي، والتوحيدي هو... في الخارج، رأيت السياتلي يقف وحده، ويتمتم: الله الله فيكم أيها النيويوركيون، الله الله فيكم. الرجل الأكثر حزناً ... نظرت للكتاب يرفعه كي يريها إياه، كي يعلن لها عن صورة الكاتب. وخلفه، وراء الزجاج، رأيت الكاتب ذاته، أو شبحه، أؤكد لكم ليس ثمة فرق. خمنت أنه يضع ساقاً علي ساق، ورأيته يجلس علي المقعد اليساري، بوحدته، بمعطفه الموحي بالتوحد. جسده في اتجاه الشارع الذي أقفر فجأة من قاطنيه ومن أبناء السبيل. وجهه ملتفت كي أراه: موظف كتابي، مترجم ربما، في أحد مصالح المدينة، مدينة يمكن أن نأتي لها باسم مبتكر: القاهرة. ماكومبي. لشبونة. بوينس أيرس. تشيكوماتا. قلت لنفسي إن شعره قصير رغم أن قبعة توحي باللاطمأنينة تغطي رأسه. ها هو يرفعها في تحية مترفعة، تنأي به عن أي تورط، كأن ذلك السيد الأكثر تهذبا ما رفعها إلا عرضاً، كأنه يقول: هل تري؟ الشاب يريد أن يثير إعجابها بكتابي! كأنه يتلو عليَّ نثر الجاحظ: كنت أتعجب من كل فعل خرج من العادة، فلما خرجت الأفعال بأسرها من العادة صارت بأسرها عجباً، فبدخول كلها في باب التعجب خرجت بأجمعها من باب العجب. من سيكتب فينا قصيدة لا تلتزم بقواعد الشعر توحشتيني. بينما الليل يهبط هنا، ونحن في انتظار هجومهم مع طلوع شمس الصباح، ونحن نقضي ليلنا الأخير ننتظر، بوفاء لا يُضاهي، هزيمتنا الأخيرة، لا أستطيع أن أفكر سوي فيكِ، وسوي أنكِ، في هذه اللحظة، توحشتيني، هكذا بتلك اللكنة الأجنبية، أكثر من أي وقت آخر، وأنني قد أقول لكِ، إن تقابلنا الآن، الآن بالذات، وليس بعد ثانية، إنني غيرت رأيي، أن الحب يوجد أيضاً، وأن هذا لا يجعل العالم أفضل أو أسوأ. كنت أريد أن أكتب إليكِ كي أخبركِ أن بروكلين ستسقط في الصباح، أن العالم سيصبح بعد عدة ساعات أقل جمالاً، أنكم يجب أن تُعلنوا الحداد لذلك بالرقص في شوارع الأحياء التي هي لنا، أنكِ يجب أن تستمعي، من أجلي، لأغاني الهجاء المتبادل بين عمرو حاحا وفيجو، أنني لا أشعر في هذه اللحظة بأي اغتراب، رغم لكنتي الأجنبية، وسط المدافعين الخاسرين عن هذا المعقل الأخير، أن لغتي الأم أصبحت لغة أجنبية لهذا مروّق منها الآن أكثر، أننا كنا دائماً أوفياء لقضايا خاسرة، أن في ذلك كمنت دائماً قوتنا، وهشاشتنا أيضاً، أن اسمي لم يكن أبداً أجنبياً بما يكفي، أن أصدقاءنا الأعداء سوف يحتفلون بعد ساعات بما سيظنونه انكسارنا، أنهم سيستمعون للأغاني الخطأ، لكنني أدرك أن كل هذا سيكون أخباراً قديمة حين تصلك هذه الرسالة. ربما لن تصلكم التفاصيل، لهذا سأخبرك بها: جاء الجنرال بنفسه. جاء بكتابين، نسختين نادرتين من عوليس وتلال ماكومبي، وأعطاهما هدية لسمانثا التي لم ينادها سوي بابنة دينلسون. قال: لقد حاصرناكم شهوراً، قال: أتيت لكم بنفسي كي، بكل تواضع، أعبر لكم عن احترامي. قال: سنأتيكم في الصباح، ونهزمكم بكل الحب الذي نحمله لكم، قال: ليتكم تستسلمون الليلة فتتجنبون الغد، قال إن أحد أبنائه كان في فرقة شيكاجو، أنه انضم إليها بعد أن آمن بأفكارنا، وأنه مات هناك مع من ماتوا، قال بحزن إن الأوامر تأتيه، إن الأوامر أوامر. قالت سامنثا: لا عليك، لكنها وجهت الفرقة لعزف "شرف المستعمرات الحزين"، وفهم الجنرال أنها تود أن تقول إن هناك دائما طريقاً آخر، إن الفرقة الأيرلندية التي ألّف موسيقيوها "شرف ..." رفضت، في عام 1919، ضرب كميونة شبرا، وانسحبت، وأخبرنا من كانوا بجواره أنهم رأوا الدموع تملأ عينيه، إنه انصرف بعد أن صافح سامنثا، وقبّل جبهتها، وناداها بابنة السيد، وقال: سيذكرنا التاريخ بكل سوء ونستحق ذلك، أخبرونا أنها قالت: غداً في الصباح ستكون هزيمة أفضل ما في هذه البلاد. ثم خرجت إلينا وخطبت فينا جميعاً خطبة لا أتذكر منها سوي: من سيكتب قصتنا؟ من سيكتب فينا قصيدة أخيرة لا تلتزم بقواعد الشعر؟ وبعدين غبت عن كلامها، فقد توحشتيني. والآن، والظلام تقل كثافته، بجواري شاب يسجل أغنية لحبيبته: يا عمدة الخطارة يا عمده، خد الجنيه لاخضر وهاتلي حبيبي، حبيبي أنا وياه. أري امرأة تقرأ بمساعدة ضوء كشافها، أري حلقة من الشباب والشابات بيلعبوا أفلام، وأسمع صوت بكاء، عواء كلاب تعاطفت معنا، ضحكات غير مبالية، أبيات من شعر جورجينا دي فيلي وناسكروف وچاكو تُتلا، بينما يغني البعض، ارتجالاً: أتي الجنرال إلينا ليلة السقوط، أتي الجنرال إلينا يرجونا الاستسلام، أتي الجنرال إلينا كي يبكينا، غداً صباحاً سيكون الموت لنا صاحبا، لكن لدينا الآن من الوقت ما يكفي كي نغني أتي الجنرال إلينا. آخر ما أريد أن أذكره لكِ، فقط لأنني أتذكره الآن، هو ليلة كنا فيها معاً في مدينة أجنبية، كنا وحدنا، كلانا متوحد، سوياً، في أحد المقاهي المحلية، نجلس فوق أحد الأرصفة التي صفوا عليها كراسيهم ومناضدهم، صامتين، لأن الود مفقود بين الحب والكلام، وهمهمات بلغة لا نعرفها تحيط بنا، مثل فيلم لتاركوفسكي، أو لبرجمان علي أقل تقدير، فوق شريطه ترجمة بأبجدية لا نعرفها، والضوء يأتي من خلفنا مثل رائحة المشروبات الأجنبية التي نشربها. ثم، بينما أنتِ غارقة في أفكارك التي لم نتشارك ليلتها فيها، وبينما تنفد أفكاري، لاحظت أن خيال المنضدة يتراقص، والتفت لأري كرة الضوء المدلاة من أسفل شرفة الطابق الثاني تهتز، وأعجبني جداً الاكتشاف لكنني لم ألفت انتباهك لذلك. سأتوقف هنا: أسمع تحية بروكلين تُعزف لثلاثة منا اختاروا الرحيل. سيأخذ أحدهم الرسالة. أعلم أنها ستصلك يوماً ما، لهذا أريد لها أن تنتهي كما بدأتها، وأن تكون هذه الكلمة آخر ما يصلك مني: توحشتيني. من "الإغراء قبل الأخير للسيد أندرسون"، مجموعة قصصية تصدر قريباً عن الكتب خان.