لم أكن أتخيل أن ما أراه في أفلام السينما من مشاهد وحكايات يمكن للواقع أن يحمل ما هو أكثر منها فنتازيةً وإدهاشاً، وكنت كلما رأيت "صلاح منتصر" المحامي في "ضد الحكومة، وهو يلقي ب "فَرْش الحشيش" من نافذة القطار قائلاً للضابط الذي اكتفي بمشاهدته: "وحتة الحشيش دي مالناش دعوة بيها"؛ تعجبني الحركة المباغتة التي تخلص فيها المحامي "العُقْر" من التلبُّس والحِرز.. إعجابٌ لم يكن يماثله سوي مشهد "الهَرَم" في "الكيت كات" وهو يبدّل ملابسه داخل "التخشيبة" مغيّراً تفاصيل المعاينة المكتوبة في محضر الضبط، قائلاً فيما بعد لوكيل النيابة: "أنا يا سعادة البيه راجل قوي.. يعني ما حدش يقدر يقلعني هدومي.. عدم المؤاخذة يعني.. حتي لو كان أحد أفراد الحكومة". واقعٌ أكثر إدهاشا وغرابة، متهمٌ في أكثر من أربعين قضية، حصل في معظمها علي البراءة، شابٌ لا يتجاوز عمره السابعة والعشرين، وجهٌ دائم الابتسام بخبث، ولسانٌ لا تفارقه السخرية والألفاظ النابية، تفاخرٌ بقائمة جرائم في شتي مجالات الشقاوة، تُضاعف سنوات عمره أضعافاً مضاعفة، صحيفة سوابق - رغم كل ذلك-خاليةٌ تماماً من أية أحكامٍ أو إدانات، "هاني صبري ميخائيل". هكذا نادي رئيس المأمورية صباحاً علي أحد المساجين المرحّلين لجلسة محاكمة من زنزانة الحبس المجاورة لزنزانتنا تماماً، خرج مبتسماً وعلي وجهه آثار نومٍ طويل، لا يناله هنا إلا من اعتاد علي نومة "البرش" ورطوبته.. "صباح البراءة يا عم محمد.. كَلبِش كلبِش يا عم الحاج خلينا نلحق نروّح بدري" هكذا قال "هاني" بينما كانت أشعة الشمس الصباحية تشاكس عينيّ بعد خمسة عشر يوماً علي ذمة التحقيق في غرفةٍ يشتبه فيها الليل والنهار، جاهدت في فتح عيني قليلا ثم انشغلت بالبحث عن حزامي الذي سلمته للأمانات يوم دخولي الحبس لأنه "ممنوعات!!"، هنكلبشك مع البيه يا هاني" هكذا خاطبَه "عم محمد" رئيس المأمورية ليلقي "هاني" نظرةً ساخرةً متفحصة عليّ، "ولما هو بيه إيه اللي جايبه مع أشكالنا ؟!"، داعبتُهُ "سياسة"؛ فأطلق "هاني" ضحكةً عالية: "يا نهار أسود.. هي الثورة لسه ما وصلتش المنوفية ولا إيه ؟!!". لم يمر وقتٌ طويل حتي كانت المأمورية تستعد للتحرك إلي محكمة الاستئناف الواقعة في عاصمة المحافظة، والتي تستغرق الرحلة إليها قرابة الساعة والنصف، كان هاني يتحرك بخفة وترقُّب، وكنت مشغولاً باستعارة موبايل أحد أفراد الشرطة للاتصال بالمحامي والاطمئنان إلي إمكانية إخلاء السبيل اليوم في جلسة استشكال التجديد، وقبل أن نصعد عربة الترحيلات بلحظات سمعنا من يهرول ويصرخ من بعيد "يا هاني.. يا هاني"، كان شاباٌ في أوائل العشرينات قد اقترب من رئيس المأمورية لاهثاً وهو يقول:"والنبي يا باشا أدي علبة السجاير دي لأخويا ربنا ما يوقعك ف مصيبة"، احتضن هاني شقيقه مبتسماً "ربنا ما يحرمني منك يا شقيق". ظلَّ "هاني ميخائيل" طوال الرحلة متندراً بمغامراته ومطاردات رجال الشرطة له في الحملات والكمائن، منذ أن كان "حجيزاً" لعمِّه النشّال، ثم "هجّاماً" مستقلاً، وتحوله فيما بعد إلي تجارة الصنف "سريحاً" ثم "فوريجي" إلي أن أصبح "رئيس دولاب بحالُه". حكاياتٌ تخللتها مغامراته النسائية التي لم تعوّضه حبه الأول "نوسة" التي ترك ذكر اسمها علي وجهه مسحةً من الحزن والبراءة.. لكن الغريب أن "هاني" طوال حديثه لم يذكر اسماً واحداً من أسماء "المِعلمين" الكبار ولا حتي الصغار الذين عملَ أو تعامل معهم، وكلما حاول أحد المخبرين المرافقين للقوة القتالية التي تؤمّن المأمورية استدراجه في الحديث؛ غمز "هاني" بعينه اليسري ساخراً وهو يقول: "مش انتوا الحكومة وعارفين كل الكلام"، فتنفجر العربة بالضحك. كانت قاعة المحكمة تعج بحركةٍ دائبة، المتَّهَمون من كافة المراكز والأقسام يبحثون عن أرقام قضاياهم في "الرول"، وغرفة المحامين تمتلئ عن آخرها بلابسي الأرواب السوداء ورابطات العنق، بينما يحيط بهم الأهالي والموكِّلون في لهفةٍ وتوتر، أكواب الشاي لا تنقطع عن التحرك بين الزحام، صوت الزغاريد يأتي من الطابق الثاني؛ فيخبرونك أن اليوم هو السبت وقاضي دائرة الجنايات "إيده فِرْطَة ف البراءة حبتين". دخلنا جميعاً قفص الاتهام الذي بالكاد تستطيع أن تجد فيه مكاناً لقدم، وصل المحامي الذي أوكله والدي لي متأخراً، بينما طمأنني محامٍ صديق بكلماتٍ باهتة عن إخلاء السبيل دونما أية ضمانات مادية، سألت هاني "معاك محامي ؟" فقال لي: "المحامي ربنا يا باشا". بدأ حاجب الجلسة في النداء علي أرقام القضايا وأسماء المتهمين للمثول أمام القضاة، بينما كان "هاني" مشغولاً بمراقبة حركة محامية صغيرة السن في قاعة المحكمة، صاح الحاجب أكثر من مرة: "قضية 46 هاني صبري ميخائيل.. قضية 46 هاني صبري ميخائيل"، أسرَعَتْْ الحراسة المرافقة لنا بالاقتراب من القفص وعنّف أحدُهم "هاني" بإشارةٍ عصبيّة "ما ترد يا ابني"، نظر "هاني" إلي الحارس في فتور وبلادة "هاني.. هاني مين ؟!!"، حينها نادي القاضي علي رئيس المأمورية "فين يا جماعة هاني صبري ميخائيل ؟"، ردَّ "عم محمد" "هو ده يا باشا"، "ما بتردش ليه يا ابني ؟!" نظر "هاني" بهدوءٍ واستنكار إلي القاضي ثم قال: "أنا مش هاني صبري ميخائيل يا باشا .. أنا مؤمن وموحِّد بالله"، فتح هاني علبة السجائر التي أعطاها له شقيقه صبيحة هذا اليوم، وأخرج منها بطاقته الشخصية التي ناولها لأحد حراس المحكمة من بين القضبان "إتفضل يا باشا".. نظر القاضي في البطاقة وقرأ بصوتٍ خفيض سمعه جميع الحضور بعد أن خيّم الصمت علي المكان للحظات "هاني محمد سعد الدين"، أصيب كلّ من في القاعة بالدهشة والذهول، عقَّب القاضي معنِّفاً رئيس المأمورية "فين المتَّهم يا ابني.. فين المتّهم.. مش عارفين تشوفوا شغلكم؟"، ارتَبَك الرجل "والله هو ده يا باشا"، صمَتَ القاضي للحظات ثم قال: "براءة .. براءة يا هاني"، ابتسم هاني ابتسامةً خفيّة ملؤها الخبث والثقة، ثم مال علي أذني هامساً: "شفت بقه اِسم الشهرة بينفع ازاي يا زميلي ؟!!".