بشائر هذا الاتجاه أن مصر عادت لاحتلال موقعها القيادي علي رأس المسيرة العربية باتجاه وحدة الهدف والمصير وتعزيز العمل المشترك بين أقطارنا العربية كان النداء الذي يتصاعد من باعة الصحف عبر شوارع وسط القاهرة، يتواصل طوال ساعات الصباح، يحمل أسماء الصحف القومية الثلاث الكبري، الأخبار، الأهرام، الجمهورية، وكنت قد وصلت القاهرة أتابع الدراسة مطلع ستينيات القرن الماضي، وأسمع النداء فيبعث في نفسي أبهج المشاعر وأكثرها إثارة وانفعالا، بسبب العلاقة التي ربطتني بهذه الصحف منذ أن كنت في مدينتي طرابلس أتلقاها بعد يومين أو ثلاثة من صدورها، أما الآن فها أنا ألتقي بهذه الصحف لقاء يوميا وأقرؤها وقد خرجت ساخنة من المطابع، ما زال حبرها نديا ورائحته فائحة كأنها أجمل عبير، بل أحصل أحيانا علي الطبعة الأولي في الليلة السابقة لموعد الصدور، وكان ما يهمني في هذه الصحف ليس الأخبار والأحداث المحلية والدولية وإنما شيء آخر هو اليوميات التي يكتبها أصحاب الأقلام ممن أحبهم وأتابع ما يكتبون، ففي كل يوم هناك في كل صحيفة من هذه الصحف أكثر من كاتب شهير أتطلع لقراءة اليوميات أو الأعمدة أو مقالات الرأي التي يكتبونها، كان عميد كتاب الأخبار في يوميات الصفحة الأخيرة، القلم الجبار، عباس محمود العقاد، ومحمد زكي عبد القادر، وأحمد الصاوي محمد، وقبل هؤلاء كان سلامة موسي حتي رحيله، مع ما يكتبه صاحبا الدار الأستاذان الكبيران علي ومصطفي أمين من أعمدة ومساهمات. بالنسبة لصحيفة الجمهورية فقد كان عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين هو عميد كتابها، كما كان رئيسا من رؤساء تحريرها، يرافقه كوكبة من أساطين القلم مثل كامل الشناوي والخميسي والشرقاوي ويوسف إدريس وسعد الدين وهبه وأحمد عباس صالح، وعرب من خارج مصرمثل ناصر الدين النشاشيبي وعميد الإمام. أما الأهرام فأشهر كتابها وأشهر أبوابها باب بصراحة الذي يكتبه يوم الجمعة رئيس تحريرها الأستاذ محمد حسنين هيكل، وقد ضم إلي صحيفته أيقونة الأدب العربي الأستاذ توفيق الحكيم، يصحبه في إثراء أعمدة الأهرام الدكتور لويس عوض والأستاذ لطفي الخولي، قبل أن ينضم إليهم الأساتذة نجيب محفوظ وعبد القادر القط وزكي نجيب محمود ورجاء النقاش وعلي الراعي، وكانت قراءة ما يكتبه هؤلاء الأعلام ادمانا جميلا لا أبحث عن شفاء منه، وأعتبر الالتقاء بأي كاتب من هؤلاء الكتاب عيدا يتجدد أصحو للقائه كل يوم، لأنني علي موعد مع لحظات مترعة بالسعادة والغبطة وإثراء الوجدان بعبق وعبير الفكر والإبداع. ووفقا لسنن الحياة فقد رحل كل من ذكرت من أدباء ولكن الإبداع لا يرحل، وصناع الحرف الجميل لا ينتهون من الدنيا، وهناك دائما جيل جديد يستلم الراية من الجيل الذي مضي، وأيضا لا أستطيع أن أقول إن أعياد القراءة قد انتهت بالنسبة لي ولكنها لم تعد بنفس التواتر، ونفس القوة ولا الإشباع ظل كما كان في سالف الأزمنة، وربما السبب أن لمرحلة الفتوة وصبواتها اعتبارات غير اعتبارات المراحل المتقدمة من العمر، فهي قضية تلقي أكثر مما هي قضية تتصل بعطاء المبدعين وقوة أساليبهم وقدرتهم علي استقطاب القراء، وإذا كان هناك عامل آخر صنع تلك الحالة من التفاعل بين الكاتب والمتلقي وبين النصوص والقراء، فهي المرحلة التاريخية التي تكلمت عنها، أي مرحلة الستينيات وسنوات هذا العقد التي سبقت العام 1967، فهي سنوات مفعمة بالأمل، وسطوع المشروع الحضاري التاريخي الذي لاح في الأفق وكان يملك قوة استقطاب جعلت طلائع المجتمع وقواه المثقفة ينخرطون في هذا المشروع ويجتمعون علي أجندة واحدة، ويتطلعون إلي شروق فجر جديد هو فجر النهضة والتطور والتحرر وقيام دولة الوحدة العربية. لقد تم إجهاض المشروع وجاءت المؤامرة إذا صحت تسميتها كذلك والمغامرة التي دعمت المؤامرة، وساد الإحباط محل الأمل وانتهت الأجندة التي اجتمع عليها الناس، وتوزع العرب شراذم وسط المتاهة التي ابتلعتهم وابتلعت أحلامهم المشتركة، وكان لابد أن تمضي عدة عقود لتحصل الصحوة ويعود الوعي وتبدأ مسيرة الانطلاق باتجاه مشروع نهضوي حضاري عربي جديد نأمل أن نري ملامحه وقد بدأت تتضح أمام أبصارنا وتحدد لنا الهدف والطريق، وبشائر هذا الاتجاه أن مصر عادت لاحتلال موقعها القيادي علي رأس المسيرة العربية باتجاه وحدة الهدف والمصير وتعزيز العمل المشترك بين أقطارنا العربية بإذن الله. لا بديل عن الديمقراطية حالة الفوضي التي تعيشها بعض الأقطار العربية مثل ليبيا أنتجت حالة من التشويش الفكري وأدت إلي ظهور أصوات تظن أن خروج الناس علي السيطرة سببه غياب السلطة التي تضرب بيد من حديد علي المارقين، فصارت هذه الأصوات تدعو إلي الديكتاتور القادر علي الضبط والربط والسلطة التي تمسك بالعصا تحقق بها النظام والتزام الناس به، ويتخلل هذه الدعاوي هجوم علي النظم الديمقراطية واستهزاء بها وأنها هي التي تخلق الفوضي وتصنع الخروج علي الحاكم، ولا يملك أمثالي إلا الرد بأسلوب ساخر هازئ علي هذه الدعاوي قائلا لأصحاب هذه الأصوات أهلا وسهلا بما تريدون ولكن أخبرونا كيف ستعثرون لنا علي هذا الطاغية الذي سيسوقنا بالعصا، ومن أي مصدر سوف تجلبونه، فهل نقيم انتخابات يكون شرطها أن لا يدخلها إلا صاحب شخصية تتوفر له مؤهلات الطاغية الذي يملك القدرة علي القمع والكبت والقهر، ويجيد استخدام العصا سجونا وتعذيبا وربما شنقا وضربا بالرصاص للمعارضين. هناك قول شهير للزعيم البريطاني وينستون تشرشل هو أن النظام الديمقراطي نظام مليء بالعيوب عامر بالأخطاء ولكنه مازال هو الأفضل بين بقية الأنظمة الحاكمة في العالم لأنها أكثر عيوبا، وحافلة بأخطاء أكثر من النظام الديمقراطي، ولهذا نقول لأصحاب هذه الأصوات لا علاج للفوضي ولا للأزمة ولا إنقاذ البلاد من خصوماتها واحترابها إلا بالاتفاق علي نظام حكم ديمقراطي يعتمد علي صندوق الاقتراع وتأسيس الكيانات السياسية أي الأحزاب التي لا تعتمد علي أيديولوجية دينية أو غير دينية وإنما أحزاب مدنية سياسية تتباري في رسم السياسات التي تستهدف خدمة الوطن ورفعته ونهضته وحل مشاكل المواطن وحل أزماته ورفع مستواه المعيشي، وتقديم هذه البرامج والسياسات إلي المواطن ليختار الكيان الذي يقتنع ببرامجه وسياسته ليكون له حق إدارة البلاد. أبو حديد في ليبيا جاء الرائد الأدبي الكبير الأستاذ محمد فريد أبو حديد إلي ليبيا معارا من الحكومة المصرية للمساهمة في وضع أساس للتعليم العالي ووضع لبنات الجامعة الليبية، وأعتقد أنه غادر بعد أن استقرت الدراسة في الجامعة في ذلك العام الذي لاقيته فيه وهو عام 1958، وقد قادني إلي اللقاء زميلي نجم الدين الكيب الذي عرف الكاتب المصري الكبير أثناء عمله الإداري وربما ساعده في رقن بعض الأوراق وتنظيمها، ولم أر عندما دخلت المقهي إلا ذلك الرجل بهالة العظماء تحيط به، مشرقا، مهيبا، وسيما، يرتدي البذلة الكاملة ذات القطع الثلاث، مع ربطة العنق، والطربوش فوق رأسه وابتسامة تغطي كامل الوجه، ولا أذكر أنني قلت كلاما مفهوما فقد أردت أن أعبر له عن إعجابي بما قرأت له ولكن الكلمات تأبي أن تخرج سليمة بمداخلها ومخارجها فكان كلامي أشبه بالفأفأة والتأتأة ثم جلست أتأمل الرجل في انبهار وأنا لا أكاد أصدق أنني في حضرة رجل من سلالة المؤلهين القادمين من جبال الاولومب الذي قرأت له بانبهار كتابه الصغير الجميل جحا في جانبولاد، وكان ذلك اللقاء الأول والأخير، بداية متابعة للرجل في ما كتب وأعتقد أنه بعد عام من اللقاء قرأت له مقالا في الهلال يستهله بحديث عن كورنيش طرابلس الجميل، ولأول مرة أسمع حديثا عن جمال الكورنيش، وقررت أن أحاول إعادة اكتشاف الكورنيش وأري الجمال الذي شاهده عميد من عمداء الإبداع الأدبي بذائقته العالية وحسه الجمالي المتفرد، لأنني لم أكن قد سافرت خارج طرابلس ولا أستطيع المقارنة لأعرف مواطن الجمال وفعلا صرت أتأمل وأتجول ببصري لأهتدي إلي جماليات الكورنيش وبدأت أري السيمترية التي تتوزع بها أشجار النخيل وجمال السياج وروعة التماثيل التي يجلس بعضها فوق الأعمدة وبعضها مثل تمثال الغزالة والنافورة فوق الأرض ثم خلفية المشهد بتلك الحدائق ووجود الكورنيش بين السرايا وبين جامع سيدي الشعاب ومداخل الميناء ومناراته وشكل الهلال الذي رسمه المصممون لميناء طرابلس، أما أجمل كتابات هذا الرائد الكبير عن ليبيا وذكرياته التي نشرت بعد وفاته والتي لم أقرأها إلا بعد أربعين عاما من ذلك اللقاء، فقد نشرت مجلة تصدرها وزارة الثقافة في مصر في التسعينيات بعنوان القاهرة مادة من تراث الرائد الكبير وكانت انطباعات ويوميات عن حياته في ليبيا نشرتها المجلة في عهد رئيس تحريرها غالي شكري ولا أدري إن كنت ما زلت احتفظ بالعدد ولكن المجلة موجودة لمن يريد البحث وكان العدد يحمل في غلافه الأخير صورة بالريشة لوجه الكاتب المصري العملاق كذلك فإن هناك كاتبة تحرس تراث الرجل هي السيدة صافيناز كاظم وتحتفظ بأعماله لأنه خالها الذي تعزه وتحبه. قاعدة العروي الإعلامية الإعلامي التونسي المرحوم عبد العزيز العروي، رائد في هذا المجال، بدأ مذيعا وانتهي في الستينيات صاحب برامج وحديث يومي تنصت له قاعدة كبيرة من المستمعين التونسيين، لما يحتويه حديثه من خبرة وحكمة ومعارف ولما يستطيع الحصول عليه من معلومات واعتماده علي اللهجة الدارجة يخاطب بها المستويات المختلفة من أبناء وبنات الشعب التونسي، ولأنه كان موجودا في الإذاعة قبل الاستقلال، حيث كانت تخضع للسياسة الاستعمارية، وكان الإعلام، وفي المقدمة إذاعة تونس تروج لسياسات دولة الاحتلال التي يتولي إذاعتها مذيعون مثل عبد العزيز العروي، ثم جاء الاستقلال واختلف الخطاب الذي جاء مستجيبا لأطروحات دولة الاستقلال مناقضا ومهاجما للسياسات الاستعمارية السابقة، فقد وجد السيد العروي من جمهور المستمعين من يتهمه بالتلون والتقلب في المواقف والتدليس علي الناس، فقال قولته التي أكد بها حقيقة من حقائق الإعلام، هي أن العمل الذي يقوم به المذيع لا يتغير، ولكن الذي يتغير ويتبدل هو الورق الذي أمامه، والمطلوب باعتباره مذيعا أن يتولي قراءة هذا الورق في حالة وافق رأيه وفكره أو لم يوافقه وتناقض معه، وسواء نال رضا الناس أو لم ينل. آخر كلام ننشد الحرية من الاستعمار بالكفاح المسلح وبذل الأرواح والدماء وننشد الحرية داخل الدولة الوطنية بالصراع السياسي والتنافس علي مواقع السلطة بالطرق السلمية. وننشد الحرية داخل مؤسساتنا السياسية وأحزابنا بالحوار واضعين في الاعتبار أن الحرية مسيرة تبدأ ولا تنتهي، وآفاق تنفتح علي آفاق أخري كلما قطعنا شوطاً لاحت لنا أشواط أخري نحث الخطي كي نقطعها حتي نصل إلي حلم البشرية بالمدينة الموعودة. • روائي ليبي