أقسمنا نحن الماكرين الثلاثة بالشمس وضحاها وبالأنهار وبمن أجراها أن نتعاون بلا حدود مع عزرائيل. لم يكن اتفاقاً مكتوباً. كان ضمنيًّا وهو الأخطر. أنكون مثل البوعزيزي الذي أحرق نفسه غيظاً. كلا ثم كلا ثم كلا. نريد الحياة. ليموتوا هم.. ولتحرقهم نار حامية. يقول التونسي الخمسيني الذي رأيناه علي التليفزيون في شارع خال من الناس مساء يمسح شعره الأشيب » لقد هرمنا».أما نحن فقد هرمنا ونحن دون العشرين. مللنا الجرائد والفضائيات والفيس بوك، مللنا النفاق والتمجيد والادعاء والكذب.مللنا ترامب. منذ ستة أشهر نخطط لجريمتنا. نريدها جريمة شافية. لم نخترع شيئاً. كل الأساليب رأيناها علي شاشة التليفزيون أو قرأنا عنها في الصحف، سحق الأسري المصريين في سيناء بالدبابات الإسرائيلية، الطائرات بدون طيار التي يديرها تقنيون مهرة يقتلون أطفالاً وبهائم وبني آدميين دون رحمة أو ندم. رأينا كل ذلك وسمعنا مثله الكثير. ذهبنا بالسيارة النيسان الخضراء بعيداً إلي الأطراف العشوائية القذرة. هناك عند جسر الحور، منتهي شارع الحور. تحت السدرة المنيفة التي لا يعرف لها تاريخ وقلنا لشعبان السكران صاحب الكراج الشهير برائحة الخمر والعفونة. أشعث أغبر ذو وجه طويل وجينز أزرق وقميص واسع مهلهل مخطط باللونين الأحمر والأسود وبقع زيت التشحيم ونظارة سميكة تغطي عيوناً يغشاها الدخان وشاربٍ كثًّ مخلوطٍ سواده بالبياض. قلنا يا شعبان: نريد أن تصقل هذه السكين. نظر للسكين مبهوراً.. قلنا له إنها من تنجانيقا. أخذ يتملي بها. لم يرَ مثلها من قبل. ولم يسمع بتنجانيقا. سألنا أين تكون هذه التنجانيقا؟. قلنا: في أفريقيا. أخذ يقلب السكين التي يزيد طولها علي أربعين سنتيمتراً وسماكتها حوالي نصف سنتيمتر وطرفها غليظ غير مصقول. يقلبها ويهرش رأسه ويمسح شاربه ويكرر تنجانيقا.. تنجانيقا. منذ سبع سنوات طردته زوجته من بيته وصار يعيش في هذا الكراج وحيداً. طردته من بيتها لأنها لا تريد لأبنائها أن يتعودوا رائحة الخمر التي تفوح من فمه وملابسه وجسده. أعطانا سجائر. قلنا له: لا ندخن. قام واقفاً وهز بجسده الهزيل شجرة السدر الوارفة فتساقط نبق أصفر وأخضر وبعضه محمر. مسحنا النبق بأيدينا وأكلنا حتي شبعنا. وحين عدنا بعد أسبوعين لأخذ السكين المصقولة أخبرنا أنه لا يستطيع أن يعمل مثلها أبداً. قال يمكن أن تذبحوا أسداً. أكلنا عنده النبق وأخذنا كمية ورحنا نأكلها بالسيارة ونغني. منذ ثلاثة أشهر بل أكثر درسنا كافة الاحتمالات وناقشنا كافة التفاصيل. الهم بالهم والدم بالدم. لماذا نموت نحن؟. لا نريد مفرقعات ولا سموماً ولا مسدسات. توصلنا بالخيال الجامح إلي أسهل وأقسي طريقة للتخلص منه بالضربة القاضية الشافية. بالشمس الحارقة. سم زعاف. مخزن السيارة نظفناه تماماً لا بلاستيك ولا خيش ولا أوراق. لا شيء سوي الحديد الذي تحيله شمس ضحي يوليو بعد ساعة أو ساعتين إلي نار موقدة. وسعدون حفر من الكرسي الخلفي ممراً لأنبوب صغير نمرر به المخدر. اشترينا كفوفاً بلاستيكية حتي لا يبقي أثر لأيدينا. وفكرنا بشراء منشار كهربائي لتقطيعه قطعة قطعة ثم استبعدنا الفكرة. قال سعدون إنها قد لا تنفع مع اللحم الطري. في اليوم المشهود بعد أن لعبنا كرة القدم أخذناه معنا إلي سدرة النبق في منتهي شارع الحور ودون أن يرانا شعبان السكران قطعنا نبقاً ثم طلعنا إلي تلال الرمل الأحمر حيث تسبح الكثبان الناعمة موجة بعد أخري بعد أخري. رذاذ يدمي العينين. قلنا سنتجول قليلاً وهو معنا كما اعتدنا من زمان وغنينا مع أم كلثوم »عودت عيني علي رؤياك» وهو يلعلع ويصفق مثلنا. وإذ صعدنا التل بالنيسان الخضراء أوقفنا السيارة بين تلين حتي لا تظهر من بعيد. فتحنا مخزنها الخلفي وجاء كالنعجة البلهاء ينظر داخل المخزن ليري ما نفعل. أريناه البلاء الذي لا رجاء بعده. أوردناه الردي. نحن الثلاثة أنا وبشارة وسعدون دفعناه معاً مثل »قتلة قيصر» إلي داخل مخزن السيارة الذي هبت منه حرارة ولهيب كما في فرن البيتزا وقفلنا باب السيارة. سمعناه يرفس ويضرب سقف المخزن ونحن نضحك مفعمين. ثم أخرج سعدون رشاشاً مملوءًا DDT قاتل الحشرات ومد يده من المقعد الخلفي للأنبوب ورش المخزن بزجاجة كاملة. انتظرنا أكثر من عشر دقائق حتي خمد. الموت بالشمس أسلوب جديد للتخلص من النفايات تعلمناه من قطار الموت العراقي. بعد ذلك ذهبنا إلي مقهي السعادة وسط السوق ولعبنا دورين طاولة وشربنا كوكاكولا وقبل أن يعسعس الليل اتجهنا لبيتهم وسألنا عن محمد. قالوا : ذهب يلعب الكرة..انتظروا سيأتي بعد قليل. لم ننتظر كنا نعرف أنه لن يعود. في الغد إذ تنفس الصباح وذهبنا للمدرسة لم يأت محمد. وفي الأسابيع التالية كثرت الحكايات من يقول إنه اختطف، ومن يقول إنه هاجر. ولم تستطع الشرطة أن تحصل علي أي دليل. حين سألونا مثل بقية التلاميذ قلنا لهم الحقيقة كاملة: قلنا إننا لم نره بعد المباراة. أذاعوا بالتليفزيون ونشروا بالجرائد صورة القتيل وخصصوا مالاً لمن يدلي بمعلومات عنه. قرأ شعبان السكران في الصحف أو سمع من الإذاعة والتليفزيون عن الحادث فسحب رجليه وروحه الوطنية ودخل مخموراً مخفراً للشرطة وأخبرهم أن شابين أتيا له منذ شهر أو أكثر معهما سكين غريبة من تنجانيقا. أتيا به للمدرسة ووقف كافة فريق كرة القدم صفاً واحداً وهو يتفرس بنا ورائحة الخمر تنبعث من فمه وخياشيمه. لكنه لم يتعرف علي القتلة. مسح النظارة وأعادوه يتفحص الوجوه لكنه لم يتعرف علي أحد منا. حجزوه يومين في المخفر حتي تخرج منه الخمرة نهائيًّا. وحين تنظف جسده من الخمر أعادوا الأسئلة عليه فوجوده لا يتذكر شيئاً. تبخر الخمر وتبخرت الذاكرة. ضربوه علي ظهره وأخرجوه من المخفر يمسح نظارته ويجرجر جسده النحيل يبحث عن بيرة ويهمهم »تنجانيقا». فما الذي حدث علي وجه الدقة؟ سأختصر لأن التفاصيل مؤذية تقشعر لها الأبدان. أخرجناه من السيارة وقد تبلل جسده عرقاً وغيره. هناك بين الرمال التي تسح علي الكثبان الحمراء والحفر المتلاصقة قطعناه قطعاً صغيرة يسهل رميها باليد. انطلقنا بالسيارة مسرعين نقذف الأجزاء الطرية في الهواء بين كثبان الرمل الحمراء السريعة تلتهمها وتنطلق بها في السماء لمسافات بعيدة. لم نترك قطعة ظاهرة للعين يمكن أن تدوسها الدببة أو تلتقطها النسور أو تشتم الشرطة منها رائحة. لا أثر إطلاقاً. منذ البداية استبعدنا الطريقة الهوليودية السخيفة بحفر حفرة ودفن الجثة. وفي البدء قام بشارة بقطع بنصره بحرفية شديدة تدرب عليها كثيراً ومسح الخاتم ذا الفص الأحمر واسمه مكتوب داخله مع تاريخ مولده وغطاهما بورق كلينكس ووضعهما في جيبه ليس للذكري بل لإكمال الخطة التي رسمنا. والآن يا سيد عزرائيل ألن تكمل المطلوب؟!!. من لنا غير عزرائيل!!. نحن نفذنا ما علينا وجاء دورك. بلا مماطلة أو تسويف. أوَ تريد مساعدتنا. أوَ ليس لكل أمر سبب!!. الوالد المنكوب ليس له من الأبناء غير محمد. أحبه وخاف عليه كما يخشي صاحب العين الواحدة علي عينه السليمة خاصة بعد وفاة أمة الجميلة التي أعطته الحضن الدافئ وأعطته محمداً. لم يتزوج بعدها. عاش ينظر لمحمد صباح مساء بهجة وأمنيات. يجلب له الشعراء الكبار يقرأ عليهم قصائده الرومانسية والوطنية المحمومة فيهزون رؤوسهم مشجعين. الوالد المنكوب يتسمع الأخبار، ينتظر وينتظر ستة أشهر وعزرائيل يماطل. نحل الجسد وزاد الشيب وأصيبت اليد اليسري بالاهتزاز، والأذنان تهدلتا وامتدتا أميالا في كل صوب. الأب المنكوب الذي خططنا لإزاحته من الدنيا سيصلي ناراً ذات لهب. الطاغية. وفي شمس ضحي بعد أشهر وصله ظرف به إصبع محمد وبه الخاتم ذو الفص الأحمر. تفحصه ونظر داخله بيد مرتجفة وجد الاسم وتاريخ الميلاد. تفحصه ثانية وثالثة. بقبضته الغليظة ضغط علي البنصر وراح يضرب جبهته العريضة. احمرت وتشققت وسال منها الدم والحراس الضخام لا يجرؤون علي الاقتراب منه أو إيقافه عن إيذاء نفسه. لم يقم بعد ذلك من جلسته علي المقعد المريح في الصالون الواسع ذي الستائر العالية المذهبة. عُتَلّ زنيم. قطعنا نسله.