محافظ الدقهلية يأمر بإحالة المتغيبين عن العمل بمستشفى تمى الأمديد للتحقيق    مؤشرات قبول كليات القمة لطلبة الأزهر 2025    وزير قطاع الأعمال العام يوجه بتكثيف أعمال إنشاء مجمع مدارس فيصل لتجهيزه للعام الدراسي الجديد    محافظ الغربية يترأس اجتماعًا موسعًا لتذليل معوقات مشروعات مياه الشرب والصرف الصحي بزفتى    الرقابة المالية تصدر معايير الملاءة المالية للشركات والجهات العاملة في أنشطة التمويل غير المصرفي    كيف تحصل على شقة بديلة للإيجار القديم؟.. اعرف الخطوات    الاحتلال يصادق على بناء 730 وحدة استيطانية جديدة في سلفيت    السودان يرحب ببيان مجلس الأمن الذي يدين خطط الدعم السريع لتشكيل حكومة موازية    إسرائيل تحذر لبنانيين من الاقتراب إلى مناطقهم الحدودية جنوب البلاد    صحيفة تكشف آخر تطورات مفاوضات مانشستر سيتي مع دوناروما    أسامة نبيه: حققنا مكاسب كثيرة من تجربة المغرب    طالب ينهي حياته بعد رسوبه في امتحانات الثانوية الأزهرية بالشرقية    تخفيض مؤقت لسرعة قطارات وجه قبلي بسبب ارتفاع درجات الحرارة    السجن المؤبد لأفراد تشكيل عصابى تخصص فى الاتجار بالمخدرات بالقناطر الخيرية    ضبط سائق سيارة فارهة حاول الهرب بعد ارتكابه حادثا مروريا بكوبرى أكتوبر.. فيديو    علشان يسرق فلوسه.. قليوبي ينهي حياة جاره المسن داخل منزله    مكتبة القاهرة الكبرى تستقبل فعاليات الملتقى 21 لثقافة وفنون المرأة    أشرف زكي يكشف عن تفاصيل ومواعيد حملة 100 مليون صحة بمقر المهن التمثيلية    احتفالات وفاء النيل تتصدر فعاليات الثقافة في الغربية    محافظ الدقهلية: لا تهاون مع المقصرين وتحقيق فورى للمتغيبين بمستشفى تمى الأمديد    سعر الأسمنت اليوم الخميس 14- 8-2025.. بكم سعر الطن؟    قرار قاسي في انتظاره.. تفاصيل عفو الزمالك عن فتوح وشرط جون إدوارد    انطلاق منافسات نصف نهائى السيدات ببطولة العالم للخماسى الحديث تحت 15 عاما    الأهلي يتحرك مبكرا للحكام الأجانب قبل مواجهة بيراميدز    إي إف جي القابضة تواصل مسيرة النمو الاستثنائية بأداء قوي خلال الربع الثاني من عام 2025    المواد الغذائية: استجابة المنتجين والمستوردين لخفض الأسعار ضرورة وطنية.. ومؤشرات الاقتصاد تؤكد التعافي    3 قرعات علنية لتسكين «توفيق أوضاع» مدن العبور الجديدة    خارطة طريق للمؤسسات الصحفية والإعلامية    عمر الشافعي سكرتيرًا عامًا وإيهاب مكاوي سكرتيرًا مساعدًا بجنوب سيناء    ضوابط دخول امتحانات الدور الثاني للثانوية العامة 2025.. تفاصيل    بسبب خلافات أسرية.. الإعدام شنقاً للمتهم بقتل زوجته وإضرام النيران في مسكنهما بالشرقية    الائتلاف المصري يستعد لمراقبة انتخابات الإعادة: خطط عمل وأدوات رصد للتنافسية داخل 5 محافظات    بيان رسمي.. توتنهام يدين العنصرية ضد تيل بعد خسارة السوبر الأوروبي    شقيقة زعيم كوريا الشمالية: لا نرغب فى تحسين العلاقة مع الجنوب.. وتنفي إزالة مكبرات الصوت    ياسمين صبري تنشر صورًا جديدة من أحدث إطلالاتها    حين امتدّ السيف الورقى من المجلة إلى الجريدة    الليلة.. انطلاق فعاليات الدورة الثالثة من «مسرح الغرفة والفضاءات» بالإسكندرية    السيسي يوجّه بتحويل تراث الإذاعة والتلفزيون المصري إلى وسائط رقمية    تطورات الحالة الصحية للفنانة الكويتية حياة الفهد.. جلطة وممنوع عنها الزيارة    ما حكم اللطم على الوجه.. وهل النبي أوصى بعدم الغضب؟.. أمين الفتوى يوضح    صوت وطنى مهم فى لحظات فارقة    درجة الحرارة اليوم.. احمي نفسك من مضاعفاتها بهذه الطرق    طريقة عمل الفراخ في الفرن في خطوات سريعة    حصول معملي الوراثة الخلوية ووحدة المناعة بالمعهد القومي للأورام على الاعتماد الدولي    موعد مباراة ليفربول وبورنموث في الدوري الإنجليزي    ريبيرو يراجع خطة مواجهة فاركو في المران الختامي للأهلي    فرنسا ترسل تعزيزات لدعم إسبانيا في مكافحة الحرائق    رئيسة القومي للطفولة تزور الوادي الجديد لمتابعة الأنشطة المقدمة للأطفال    ضبط موظف بمستشفى لاختلاسه عقاقير طبية ب1.5 مليون جنيه    منتخب السلة يواجه السنغال في ثاني مبارياته ببطولة الأفروباسكت    قرار جمهوري جديد للرئيس السيسي اليوم الخميس 14 أغسطس 2025    مع اقتراب موعد المولد النبوي 2025.. رسائل وصور تهنئة مميزة ب«المناسبة العطرة»    100 منظمة دولية: إسرائيل رفضت طلباتنا لإدخال المساعدات إلى غزة    خالد الجندي: حببوا الشباب في صلاة الجمعة وهذه الآية رسالة لكل شيخ وداعية    «100 يوم صحة» تُقدم 45 مليونًا و470 ألف خدمة طبية مجانية في 29 يومًا    أدعية مستجابة للأحبة وقت الفجر    التايمز: بريطانيا تتخلى عن فكرة نشر قوات عسكرية فى أوكرانيا    في ميزان حسنات الدكتور علي المصيلحي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كرافت

لا يحب »كرافت»‬ التجديف مع أحد، بل يفضِّل التجديف وحده.
بدأ يعتقد أن سبب أزمته الفكرية هو افتقاده بشدة للإبحار بهدوء في مياه نهر ال »‬نيكار» الألماني في الصباح الباكر كطقس يومي، فهو يفتقد الانسياب السريع الهادف، والشعور بالتقدم بسبب طموحاته. وبدا أن النصف ساعة التي قضاها علي أحد الأجهزة الرياضية البيضاء - بمركز »‬أريلاجا» الرياضي بجامعة »‬ستانفورد» - بديلٌ بائسٌ للإبحار، بل وربما أدت إلي تفاقم أزمته أيضًا. اقترض سيارة »‬إيفان» ال »‬فورد برونكو» القديمة. وذهب بعد الظهر إلي ميناء مدينة »‬ريد وود» حيث يقع نادي التجديف التابع للجامعة علي خليج ضحل.
أعطاه أحد الطلاب قاربًا صغيرًا ذا مجدافين. بعد أن قام الاثنان بإنزال القارب خفيف الوزن - الذي يتسع بالكاد لفرد واحد - في الماء، قام »‬كرافت» بتسخين عضلات ذراعيه وعضلات صدره العريض. برزت عضلات صدره تحت شعار جامعة »‬ستانفورد» المطبوع باللون الأحمر اللافت للنظر علي التيشيرت الرياضي.
كان »‬كرافت» قد اشتري هذا التيشيرت في صباح اليوم نفسه من مكتبة جامعة »‬ستانفورد». لأن ذكري الليلة الماضية ما زالت تلح علي عقله الباطن، وحتي صوت ضوضاء وإزعاج المكنسة لم ينجح في كبح تلك الذكري، خطرت بباله فكرة الهروب من كل ذلك عن طريق التسوُّق. إنها استراتيجية تنفع أحيانًا، لأن شراء الأشياء يتطلب علي الأقل حداً أدني من التفاؤل. لهذا أراد شراء الأعمال الكاملة ل »‬هنري جيمس» في طبعة جديدة فاخرة، علي أمل أن الحياة ستستمر بطريقة أو بأخري.
كان يأمل أنه يستطيع الاعتماد علي هذه الدَفعة من الشعور بالتفاؤل ليتقدم بها خطوة تلو الأخري بصعوبة حتي يصل إلي درجة من التفاؤل لا يبدو عندها أن التفكير في لماذا كل شيء علي ما يرام عبثيًا. لكن عندما وقف في الطابور ليدفع ثمن الثلاثين كتابا المقسمة إلي ست مجموعات، أخذ يتصبب عرقًا علي الرغم من هواء التكييف البارد. وفجأة، بدا له أن شراء تلك المجموعة الكاملة أمرٌ مضحكٌ وبلا مغزي. لأنه سيدفع علي الأقل 80 دولار وزن زائد لتلك الكتب عند العودة، علاوة علي أنه سيحتاج إلي شراء حقيبة جديدة، كما أن التفكير في كونه مضطرًا لقراءة ثلاثين كتابا ل »‬هنري جيمس» جمَّد العرق علي جبهته. واضطر لإعادة الكتب مرة أخري علي عكس رغبته، مع وعيه الكامل أن فشله في شراء تلك الكتب قد تسبب في إفساد يومه تمامًا.
لهذا استغل الفرصة ليبحث في الطابق الخاص بمنتجات جامعة »‬ستانفورد»، عن هدايا تذكارية لابنتيه. تجوَّل بين الأرفف التي تحمل سلاسل المفاتيح وأكواب القهوة وستائر الحمام والملابس الرياضية. شعر بالحيرة وهو يفكر كيف يمكنه إسعاد ابنتيه؟ لا يعرف مقاس ابنتيه في التيشرتات والجاكيتات، ولأن حجم جسدا ابنتيه يتغير باستمرار أمام عينيه مع كل قطعة ملابس يمسكها أمامه ليقارن بين المقاسات. ولهذا لم يعد يستطيع أن يحدد إذا كان طول ابنتيه يصل إلي صدره أم إلي وَسَطِه فقط، أو إذا كانت كتفاهما النحيفتان أصغر من عرض شمَّاعة الملابس أم أكبر. أمسك »‬كرافت» بكاب بيسبول أحمر، وحقيبة ظهر عليهما شعار الجامعة. يمكنهما استخدام حقيبة الظهر علي حد علمه.
في طريقه للخزينة أخذَ تيشرتًا رياضيًا لنفسه. كانت تقف أمامه في الطابور طالبة ترتدي ما يشبه زياً موحداً غير رسمي. وجده »‬كرافت» مزعجًا بطريقة ما. كانت ترتدي حذاءً رياضيًا وتيشرتًا وشورتًا رياضيًا قصيرًا جدًا. لم يستطع تجنب النظر إليها. كان الشورت الرمادي بالكاد يغطي مؤخرتها، ومطبوع عليه من الخلف اسم جامعة »‬ستانفورد» بحروف كبيرة. شعوره بالانزعاج لم يكن لأنه وجد هذا المنظر مثيراً جدًا، بل علي العكس، هو لم يشعر بأدني صدمة حيال تلك الملابس. فهو عادة لا يتذمر بسبب الطالبات اللاتي ترتدين ملابس تكشف أجسادهن، بل سيدع هذا التذمر لغيره. سبب انزعاجه هو أن تلك الملابس تشير إلي الاهتمام بالرياضة أكثر من الاهتمام بإعمال العقل، حتي مع وجود علاقة وثيقة بين الرياضة والدراسة الجامعية في أمريكا.
كان »‬كرافت» شاهدًا علي وعد »‬إيفان» لطلابه في محاضرة بأنهم سيصبحون في نهاية الفصل الدراسي مُدرَبين جيدًا علي فلسفة »‬هايدجر». وجد »‬كرافت» استخدام لفظ »‬مُدرَبين جيدًا» غير مناسب ليُذكر مع المفكِّر الألماني، بل مناسب أكثر لوصف رياضة رمي الرُمح أو قفز الحواجز. لم يكن الشورت القصير هو ما لفت انتباهه في المقام الأول، بل ساقا الفتاة الشبيهتان بسيقان الغزلان. بدتا وكأنهما قد كبرتا فجأة. لابنتيه السيقان نفسها. استدار »‬كرافت» وخرج من طابور الخزينة معتذرًا للواقفين، وعلَّق القبعة وحقيبة الظهر علي أقرب رف وأخذ يبحث عن الشورت القصير. أخذ شورتاً أزرق فاتحاً وآخر رمادياً وذهب عائدًا في اتجاه الخزينة. في منتصف الطريق، استدار مجددًا واستبدل الشورت الرمادي بآخر أزرق فاتح مماثل للشورت الأول. ما اشتراه منحه سعادة أكبر من التي كان ليشعر بها إذا اشتري المجموعة الكاملة ل»‬هنري جيمس».
وبهذا القدر من الحماس جلس »‬كرافت» من جديد في برج »‬هوفر» ليواصل العمل علي إجابة سؤال المسابقة. قام بكتابة فقرة طريفة تعليقًا علي ملاحظة الروائي الفرنسي »‬ستندال» ب »‬أن العذر الوحيد للرب، هو عدم وجوده». ثم انتقل بذكاء إلي بعض الأفكار حول استقلال وتمكين الإنسان. تلك الأفكار التي يجب أن تكون محور فلسفة »‬الثيوديسيا» الحديثة. لكن عند التفكير في أن داء الفشل يتحوَّل في »‬وادي السليكون» إلي ترياق النجاح »‬المقدس»، تعثَّر »‬كرافت». لم يعرف كيف سيستغل تلك الفكرة لتكون سببًا للتفاؤل. ولاحظ أن قدرته علي الإبداع تتلاشي سريعًا، لذلك جمع أشياءه واقترض سيارة »‬إيفان» ذات الدفع الرباعي وبحث عن نادي التجديف الخاص بالجامعة وسط، الفوضي المربكة من المباني ذات الأسقف المسطحة التي تستوطنها شركات التكنولوجيا، والبرمجيات، والمراكز التجارية، والمنشآت الصناعية، والمنازل الرثة. أوقف السيارة في جراچ نادي التجديف. أثناء غلق السيارة خفض رأسه في فزع عندما سمع صوت طائرة صغيرة قادمة من مطار »‬سان كارلوس» القريب تمر فوق رأسه مثل خنفساء طائرة كسولة.
أخذ يتفقد الخليج أو ما تمكن من رؤيته منه. كان عبارة عن قناة مائية مالحة وضيقة. تمتد خلف القناة جزيرة »‬بير»، وهي أرض مسطحة من الرواسب ذات اللونين الأحمر والبني، تمر عبرها العديد من القنوات المائية المتعرجة وعلي أطرافها تظهر أبراج كهرباء الضغط العالي. إن هذا ليس نهر »‬النيكار» بالتأكيد، لكن »‬كرافت» بحالته هذه لا يستطيع ولا يريد أن يعوقه شيء عن خطوته التالية. وعلي الرغم من قيامه بتسخين عضلاته ليحاول أن يثبت مهارته في التجديف، رفض الطالب تزويده بالمجدافين وقال ل »‬كرافت»: »‬لا، إن المجاديف يمكن الحصول عليها من »‬هيرب» فقط. مع شرح تفصيلي لوضع المد والجزر في محيط الجزيرة».
كان »‬هيرب» رجلًا ذا لحية بيضاء صغيرة. كان يرتدي نظارة شمس غريبة وملونة جعلت من عالم فيزياء نحيف متقاعد مثله يبدو مشبوهًا. تسببت تحية الرجل »‬Hey Buddy» في جعل »‬كرافت» يلجأ إلي وضع الدفاع. بذل مجهودًا ليتابع المحاضرة المعقدة عن المد والجزر والتيارات المائية والممرات الضيقة والمجاري المائية. لكنه لا يكون أبدًا في قمة قدراته العقلية وهو في وضع الدفاع ودائمًا ما يميل إلي إسقاط درع الحماية عن عقله، فتستحوذ علي أفكاره »‬هايكا» وابنتاه التوأم و »‬روث» وزهرة »‬الجربيرا» الصفراء، فتدفع تلك الأفكار محاضرة »‬هيرب» إلي الخلفية. كانت المحاضرة تدور الآن حول قناتي »‬كوركسكرو» و»‬شتاينبرجر» وحول مسألة التجديف مع عقارب الساعة أم عكس عقارب الساعة، وهو ما لا ينصح به بسبب حالة المد والجزر الحالية، لكونه خطرًا علي الحياة. هز »‬كرافت» رأسه بالإيجاب ليظهر أنه يفهم ما يُقال.
أكمل »‬هيرب» المحاضرة: »‬ممنوع تمامًا الاقتراب لمسافة معينة من كلاب البحر. فالجزيرة بأكملها محمية طبيعية والسير فيها ممنوع باستثناء بعض الطرق القليلة». حذره »‬هيرب» من أن أمامه خمسين دقيقة فقط لعمل جولة بالقارب، بعدها سيصبح الأمر خطيرًا وسيصبح المرور عبر بعض المناطق مستحيلًا. في النهاية ترك »‬هيرب» المجدافين من يده وأعطي »‬كرافت» حقيبة مقاومة للماء ليضع فيها موبايله، الذي لن يسمح له »‬هيرب» الإبحار بدونه تحت أي ظرف. صعد »‬كرافت» إلي القارب الذي أخذ يتأرجح بشدة. يبدو أنه فقد اتزانه بسبب تذكر نسائه الأربع ومحاضرة »‬هيرب». كان متأكدًا من أن »‬هيرب» يراقبه بنظرات شك من وراء نظارته الغريبة.
شعر »‬كرافت» بعضلاته وهي تتحرك أسفل التيشرت الجديد بعد ضربات قليلة بالمجداف، انطلق القارب ووجد »‬كرافت» أخيرًا الهدوء الذي لطالما اشتاق إليه. عليه الآن أن يعترف أنه قلل من شأن المكان. بعد مئاتٍ من الأمتار، كان قد ترك الميناء خلفه وانعطف بمهارة عبر ممر ضيق ليدخل إلي قناة »‬كروكسكرو» ليجد نفسه مباشرة أمام عالمٍ من طيور شمال »‬كاليفورنيا». شاهد أمام عينيه طيور »‬البلشونيات» تعشش علي الأرض العشبية المسطحة وهي تمد رقابها لتراقبه. والبط بألوانه المختلفة يسير خلف القارب ببطء. وصقر يقف علي عمودٍ خشبي.
توقَّف »‬كرافت» عن التجديف وترك المجدافين. أخذ يبحث عن الحقيبة البلاستيكية التي وضع فيها الموبايل خلف ظهره ليصوِّر هذا التنوع الهائل من الطيور، حتي يستطيع أن يحدد أسمائها بعد ذلك بمساعدة كتاب »‬ماكينزي»؛ »‬كل شيء عن الطيور». ليس لأنه مهتم جدًا بالطيور، بل لأنه ما زال تحت تأثير صدمة خطئه في معرفة طائر »‬شرشور كاسان الأرجواني». أو علي الأقل يمكنه أن يستغل ساعات الأرق - التي يخشي أن تتكرر - في شيء مفيد.
ترك »‬كرافت» للتيار توجيه القارب بينما استخدم ال»‬زووم» محاولًا تقريب رءوس الطيور عن طريق تحريك إصبعيه علي شاشة الموبايل، كما لو أنه يشد جفني الموبايل بعيدًا عن بعضهما ليبحث عن رمشٍ. علمته ابنتاه التوأم تلك الحركة. ولأن »‬كرافت» لم يستطع أن يكبِّر الصورة بالقدر الكافي، مال علي حافة القارب الضيق ممَّا جعل القارب يتأرجح بشدة. صار عليه أن يمسك المجدافين حتي لا ينقلب المركب. علي من يتهم »‬كرافت» بالتهور أن يشرح لنا كيف يمكنه أن يمسك المجدافين بسرعة البرق ويحتفظ بالموبايل بين أصابعه في الوقت نفسه مثلما حاول أن يفعل. وأن يحاولوا الربط بين صوت اصطدام خفيف بسطح الماء وحقيقة أن حركته الفنية تلك لم تنجح حتي بعد أن استعاد توازنه.
انتظر »‬كرافت» حتي تهدأ ضربات قلبه بعد أن زاد إيقاعها بفعل الخوف المضاعف، ثم ألقي باللوم علي نفسه ووصف نفسه بالمجنون وضرب بكف يده علي جبهته ثلاث مرات بقوة. اكتشف سقوط الموبايل وجلس في القارب وألقي نظرة لوم علي بطة تسبح حول قاربه. أمسك بالمجدافين مرة أخري ليبتعد سريعًا عن هذا المكان الذي أصبح يمثِّل له ذكري مؤلمة.
إن قناة »‬كوركسكرو» معروفة بخطورتها. فهي متعرجة وضيقة تمر عبر المستنقعات، كما لو كانت تريد أن توضح ل»‬كرافت» مرة تلو الأخري أنها تختلف تمامًا عن نهر »‬النيكار». بذل »‬كرافت» مجهودًا كبيرًا بشكلٍ منتظم في التجديف حتي أُنهك وأوشك أن يُصاب بالتيبس في الرقبة بسبب التفافه إلي الخلف باستمرار. لم يعد هناك مجال للإبحار ببطء والتأمل. جذب المجداف الأيسر بكل قوته وقام ببضع ضربات ثم أمسك بالمجداف الأيمن وقام ببضع ضربات أخري ليحدث توازن. كانت المنحنيات التي تبدو في البداية سهلة تفسح المجال لطريق متعرج صعب. ولم يستغرق الأمر طويلًا حتي اصطدم القارب بالقاع محدثًا صوت احتكاك.
اهتز »‬كرافت» بفعل الاصطدام، ثم نجح في تحرير القارب من الطين بفضل استخدامه المجدافين بمهارة. في تلك الأثناء، خطر بباله كيف كان يجلس بمكان منخفض بالقارب وبالتالي لا يستطيع أن يري الأرض أسفله. بدأ يري قمم المباني الإدارية المرتفعة وقمة الجبل من خلفها. كان الضباب يتحرك من فوق قمة الجبل - مثل كل مساء - ليصل إلي »‬وادي السليكون». لا بد أن مستوي المياه قد انخفض بشكل ملحوظ. كان »‬هيرب» قد قال له إن مدة الجولة خمسين دقيقة فقط، لكن من أين له أن يعرف كم استغرق في الطريق بدون ساعة يده التي تركها في الخزانة وبدون موبايله؟ إنه يفتقد موبايله الآن بشكل مضاعف؛ لأنه أراد تصوير كلاب البحر التي افترشت فجأة الرمال الرطبة والمسطحات الطينية في خمول تام وتحدِّق في »‬كرافت» بفضول وهو يجدِّف. فكَّر في أن تلك اللحظة كانت مناسبة لالتقاط صور يمكنه أن يبهر بها الفتيات.
توجد هنا بالقرب منه علي مسافة لا تزيد علي ثمانية أمتار مجموعة من كلاب البحر ترقد علي الأرض. وأجسادها ملتصقة ببعضها تشبه الهوت دوج علي الشوَّاية. أخذ »‬كرافت» يحسب هل الثمانية أمتار أكثر أم أقل من 25 قدما؟ وهل قال »‬هيرب» 25 قدمًا أم 35 قدمًا؟ وقد تكون المسافة بينه وبين كلاب البحر اثني عشر مترًا. أمَّا الثمانية أمتار فمصدرها القصة التي اختلقها في رأسه ليرويها لابنتيه. علِق »‬كرافت» في التحويل بين الياردة والقدم والنظام المتري بسبب العلامات العشرية، وتاه في فوضي تلك الاختلافات في المقاييس بين العالمين؛ الأمريكي والأوروبي. »‬في التأني السلامة وفي العجلة الندامة»، هكذا فكر وابتعد بقدرٍ كافٍ عن الأجساد المترهلة بقدر ما يسمح له الممر المائي.
كان من السهل عليه قول هذا، لكن من الصعب التنفيذ، لأن الممر المائي أخذ يضيق بسبب انحسار المد. ارتفع الطين في كل مكان وسط المياه الضحلة، مما أجبر »‬كرافت» علي الإبحار في طريق متعرج يقربه أكثر من كلاب البحر. الأمر الذي كان يريد تجنبه بعد أن شاهد أحد تلك الحيوانات الثقيلة يزحف خارجًا من المياه برشاقة تدعو للدهشة وجلده مجعد في طيات عديدة تشبه الأكورديون. يزحف فوق الأرض ويصعد فوق رفاقه النائمين مما تسبب في صيحة اعتراضية عالية واندلاع العنف وسط القطيع المسالم. دوَّي صوت نباح وعواء وألم. رأي »‬كرافت» الأسنان البارزة في الأفواه المفتوحة عن آخرها، بينما ترتطم الصدور ببعضها. أكبر الحيوانات - كان بلا شك ذكر مثلما يعتقد »‬كرافت» - شعر علي ما يبدو بالضيق بسبب الوافد الجديد الوقح، فنهض بجسده الضخم وأصدر صيحة تهديد لم تؤثر في »‬كرافت» وفي الوافد الجديد. فعاد إلي التجديف.
سمع »‬كرافت» »‬هيرب» يقول »‬خمسون دقيقة فقط». يعرف أن الخمسين دقيقة قد مرت منذ فترة طويلة، لكنه لم يعد يستطيع أن يحدد إذا كان قد خرج في الجولة منذ ساعة أم ساعتين. لقد وصل الضباب إلي »‬وادي السليكون» منذ فترة علي أي حال، حيث قام مطوري البرمجيات وخبراء التسويق بأبراج المكاتب بإضاءة الأنوار، التي تبدو معتمة بفعل الضباب. كان »‬كرافت» يأمل أن يتوقف الضباب عند الخليج، لكنه بعد فترة وجيزة لم يعد يستطيع أن يري كلاب البحر، إلا عندما تتنفس ويصاب بالفزع عندما تطفو فجأة وتصدر أصوات عواء مخيف. علي الأقل كان لديه انطباع أن الممر المائي أصبح أكثر عمقًا من جديد وأقل تعرجًا. وبدا له كذلك أن الطريق الآن يكاد يكون مستقيمًا. وفي اللحظة التي سمع فيها صوت ماء مندفع بقوة، شعر أيضًا بتيار يدفع القارب ويحمله بسرعة أكبر إلي الأمام. حاول »‬كرافت» المقاومة ودفع بالمجدافين في الماء، لكنه تمايل بشدة وأدرك علي الفور أنه لا جدوي من المقاومة. لف رقبته وبذل مجهودًا ليستكشف الطريق وسط الضباب. تحول الماء حول قاربه إلي دوامات صغيرة وموجات راقصة. في ظروف غامضة، فجأة ظهر جدارٌ من وسط الضباب. يوجد في وسط الجدار فتحة عريضة يتدفق عبرها الماء محدثًا رغوة بيضاء. ترك »‬كرافت» المجدافين وتشبث بالقارب، الذي أخذ يقفز ويتراقص ويتمايل. استطاع أن يحافظ علي توازن القارب الصغير بشجاعة، لكن عند عبوره الفتحة العريضة ارتطم أحد المجدافين بالجدار ودار القارب حول نفسه. ألقي »‬كرافت» بجسده في يأس من جانب إلي آخر محاولًا الحفاظ علي توازن القارب، لكن دون جدوي. انقلب القارب. حرر »‬كرافت» قدميه بسرعة بديهة من الحذاء المثبت في القارب. غاص »‬كرافت» في الماء. ارتطمت ركبته بحجر في الماء. وعند صعوده إلي السطح، اصطدمت رقبته من الخلف بالقارب. غاص مجددًا في الماء البارد. دفعه التيار وجعله يدور حول نفسه، مثل الغسالة أثناء دورة العصر. خلع الماء عنه شورته الرياضي. لمس »‬كرافت» مجددًا أرضًا صلبة يمكنه علي الأقل أن يدفعها بقوة بينما يكتم أنفاسه حتي يصل إلي سطح الماء ويسبح بكل قوته. نجح في أن يسبح بعيدًا عن التيار، لكنه فقد القارب وشورته الرياضي كذلك. وحاول بضربات قوية أن يتلمس طريقه وسط الضباب ليصل إلي الشاطئ.
بعد فترة وجيزة، شعر »‬كرافت» بأرض أسفل قدميه، لكنها لا تسمح له بالوقوف عليها. غاصت أصابع قدمه العارية في الطين والتفت أعشاب البحر حوله. كان قد حل الغروب، مدد »‬كرافت» جسده في الماء وهو يلهث. إنه لا يريد بأي حال أن يقع وسط قطيع كلاب البحر بالخطأ، أم أن هذا الوضع بالتحديد قد يكون أفضل له؟ عندئذ، سيزحف مثل صغار كلاب البحر علي بطنه ويخرج من الماء ويعوي عواءً مثيرًا للشفقة بعينين تملؤهما الثقة قبل أن تنزل العصا علي رءوسهم فتقتلهم، كما حدث في مقطع الفيديو الشهير علي موقع اليوتيوب الذي عرضته عليه ابنتاه التوأم والدموع تملأ أعينهما. وينام وسط الأجساد الدافئة ليستفيد من سمنة كلاب البحر الأخري؟
ستصبح البرودة قريبًا مشكلته الكبري، هذا ما وضعه »‬كرافت» في حسبانه عند إدارته الحكيمة للكارثة التي يمر بها. أمسك بحزمة من الحشائش البحرية وتشبث بها وزحف علي بطنه علي الأرض وهو يلهث وجسده ملطخ بالطين. جلس علي ركبتيه ونظر وسط الضباب. لا توجد كلاب بحر بالقرب منه.. لا أحد سيدفئه. لا أحد سيضطر لمواجهته وجهًا لوجه.
نهض »‬كرافت» وتخلص من تيشيرت جامعة »‬ستانفورد» المبتل الذي أصبح باردًا علي جسده. يقف الآن عاريًا في المستنقع. استعرض عضلات صدره وذراعيه. ألم ينجُ من الموت للتو؟ ألم يحرر نفسه للتو من الخطر بفضل قوته؟ أليس هذا سببًا كافيًا لأن يقف شامخًا؟ يعرف »‬كرافت» أن تلك الطريقة الذكورية الاستعراضية المبتذلة للتعبير عن الثقة بالنفس تمثل في تلك اللحظة أهمية كبيرة له. ولو كان في حالته الطبيعية، لسخر من طريقته الاستعراضية تلك في أحسن الأحوال.
لكن مع أول رياح باردة هبت حول صدره العريض، شعر بحلمتي صدره تنكمشان وانكمشت معهما ثقته بنفسه. لف »‬كرافت» ذراعيه حول جسده المنغمس في الماء وهو يرتعش بشدة، واستسلم تمامًا للجرح المؤلم في ركبته التي تنزف. إذًا سيموت هنا، متجمدًا في حالة يرثي لها، لا بل الأسوأ أن ينقذه »‬هيرب» فيجده عاريًا، ملطخًا بالطين، ينزف، وعاجزًا. »‬هيرب» ذلك الحشرة النحيفة، عالم الفيزياء ونظرياته عن المد والجزر وسرعة التيارات والمسافات وإطاره الزمني. »‬هيرب» الذي يمثل له كل ما حدث مجرد متغيرات في معادلة، يحذف منها كل ما هو غير ضروري. ماذا يعرف شخص مثل »‬هيرب» عن ارتباط الفرد بالعالم؟ عن أهمية الصدفة؟ عن جمال تلك الأشياء التي يعتبرها غير ضرورية؟ عن الألم؟ عن الإهانة؟ بالنسبة لشخص مثل »‬هيرب»، يمثل كل هذا لا شيء، مجموعًا صفريًا، لا مكسب ولا خسارة؛ حيث يمكن تعويض الشر بالخير. لا يعنيه علي الإطلاق ماذا ألَمَّ بك، فالأهم في النهاية أن تستقيم المعادلة؛ متكاملة، هكذا يسمونها مَن يتلاعبون بالأرقام.
ماذا يعرف شخص مثل »‬هيرب» عن التكامل؟ التقديس المجرد للحقائق. لكن ماذا عن معاناة »‬كرافت» المادية؟ ماذا عن جسده العاري ونزيف ركبته؟ ماذا عن وحشية كلاب البحر؟ ماذا عن جمال طائر »‬البلشون»؟ لا، »‬كرافت» لا يريد بأي حال أن ينقذه »‬هيرب»، ذلك الذي يقدس النظام. لا يريد أن ينقذه عالم الفيزياء. لا بد أن ينقذ نفسه بنفسه. سيبحث عن طريق عبر المستنقع ويسبح ليعبر القناة ويصل إلي حوض السفن. وربما ينجح إذا حالفه الحظ في أن يصل إلي خزانته بنادي التجديف دون أن يلاحظه أحد، حتي لا يواجه »‬هيرب» بدون شورت. سيواجهه بدون قارب، لكن علي الأقل ليس عاريًا، وأنقذ نفسه بنفسه.
سمع »‬كرافت» صوت الماء خلفه. بذل مجهودًا ليركز ويحدق وسط الظلام. هبت نسمة هواء باردة جعلته يرتجف، ولكنها أزاحت الضباب للحظة، وأتاحت له إلقاء نظرة علي الأبراج الأسطوانية لشركة »‬أوراكل» التي تضيء وسط الظلام مثل البطاريات العملاقة. هذا جيد، فهو الآن يعرف تقريبًا أين هو. عليه أن يستمر في التقدم نحو اليسار حتي يصل إلي القناة الكبيرة. ومن هناك يتبع أضواء الميناء.
أخذ يسير حافي القدمين في تردد - وهو الذي لم يسِر حافيًا من قبل - ممَّا أدي إلي عواقب مؤلمة. حيث أخذ العشب المدبب يشكه في باطنيِّ قدميه الحساسين. تمنَّي »‬كرافت» لو يستطيع أن يري بصورة أفضل أين يضع قدميه، لكن الجو الآن مظلم تمامًا والضباب يحيط به من جديد بكثافة. اصطدمت أصابع قدمه بأحجار وفروع أشجار وقطع خشبية، وداس بقدمه فجأة في حفرة عميقة والتوي كاحله، فصرخ من الألم. إذا حدث تمزق في أربطة قدمه، سينتهي أمره. عندئذ، سيموت أو سينقذه »‬هيرب».
وضع »‬كرافت» كاحل قدمه الذي يؤلمه علي الأرض، وتقدم بضع خطوات في تردد. كاحله ليس بحالة سيئة. عرج لكنه استمر في السير. سار ببطء شديد؛ لأن الأرض كانت تمتلئ بالحفر الطينية والبرك، وكل بضعة أمتار، يواجه مجري مائي متعرج وسط الحشائش. شعر بلسعة في جرحه بسبب الملح، بينما صفعت الرياح جلده المبتل حتي شعر بعظامه ترتعش من البرودة. أحاط عضوه الذكري المنكمش بإحدي يديه لحمايته.
هل ستقرأ »‬يوهانا» خبر وفاته في الصحيفة؟ أم ستقرأ خبر إنقاذه المُخجِل؟ ذلك الخبر الأخير يبدو له أكثر إحراجًا. أمَّا القارئ المتعاطف، فقد يفسر الخبر الأول بحسن نية علي أنه خبر بطولي مأساوي. هل ستنشر صحيفة »‬سان فرانسيسكو كرونيكل» صورته؟ وتكتب عليها »‬إنقاذ باحث ألماني عارٍ بجزيرة »‬بير»؟ هل سيكون هذا أول خبر تقرؤه عنه في صباح الغد أثناء الإفطار بعد ثلاثين عامًا من إغضابه لها لدرجة جعلتها تغادر إلي كاليفورنيا إلي الأبد؟
عليه أن يعترف أنه يمكن أن يتقدم بشكل أفضل إذا سار علي يديه وقدميه وسط الطين والوحل. أخذ يتلمس طريقه ويزحف إلي الأمام. عليه الآن أن ينسي السير منتصبًا، علي الرغم من أنه أصر علي تعليم طلابه أهمية السير بشموخٍ. عليه كذلك أن يتخلي عن طريقته المعتادة في التفكير كإنسان، وأن يستسلم تمامًا لطبيعة أرض المستنقع؛ أن يزحف علي التربة الرطبة التي تتفتت بين أصابعه والحشائش الصلبة التي يتشبث بها وتساعده علي التقدم للأمام. والشجيرات المنخفضة التي عليه تجنبها لأنها تخدش ضلوعه، وأحيانًا الأحجار التي يشعر عند ملامستها بشيء من دفء النهار.
إذا مدد »‬كرافت» جسده علي الأرض يمكنه أن يتجنب الرياح. كان يرفع رأسه بين الحين والآخر محاولًا تحديد الاتجاهات. فجأة بدا له أن الضباب يمكن اختراقه، وظن بأنه بدأ يري بعض الأضواء بوضوح. ربما يكون الآن قريبًا جدًا من القناة. نعم، إنه بالتأكيد علي وشك أن يقترب منها. وُلد أملٌ جديدٌ بداخله. ثم فجأة انقشع الضباب تمامًا وتطاير مثل ستارة خفيفة من الحرير والدانتيل ليكشف الوادي بأكمله. رأي أمامه بريقًا ووميضًا لا نهاية لهما. بحرٌ من الضوء، ومجموعة من عواميد النور البرتقالية. ورأي وميض أضواء مدرج الطائرات، وآلاف النوافذ المستطيلة الصفراء، وأضواء السيارات تذهب وتأتي. انعكست تلك الأضواء لتنير السماء وتضفي إضاءة رقيقة علي المستنقع.
لم يسمع شيئًا قبل انقشاع الضباب، وكأن ذلك الضباب أشبه بسدادات الأذن، لكنه يستطيع الآن أن يسمع الأصوات الصادرة عن خلية النحل المحيطة به؛ أصوات السيارات وأجهزة التكييف وأناس يعملون علي المستقبل التكنولوجي. نهض »‬كرافت» من الماء. كان عاريًا، ولكن شامخًا، علي الرغم من أنه أصبح عرضة للرياح مرة ثانية. وهناك علي مسافة أقل من ثلاثمائة متر امتد أمامه مركز العالم، محرِّك التقدم، مهد المستقبل. »‬وادي السليكون» يومض ويتلألأ ويشع. لم يعد يستطيع التنفس. شعر بالانكسار، وصرخ قائلًا: »‬يوهانا، يوهانا ماذا فعلت لتغضبي هكذا؟». انهار »‬كرافت» ساقطًا علي ركبتيه وغطَّي وجه بكفيه في حركة مثيرة للشفقة غير مناسبة لشخصيته تمامًا. وكأنه يحمي نفسه من حضارة »‬وادي السليكون» التي تتناقض بشدة مع حالته التي يُرثي لها.
ووسط الظلام الذي يغطي عينيه بسبب كفيه، ورائحة الطين والأعشاب والأسماك والبحر المنبعثة من ثناياهما، استسلم »‬كرافت» تمامًا للشعور بالذنب. شعور لا يمكن تحديد سببه بوضوح. لكنه تاه في هذا الشعور مثلما يتوه في مدينة قديمة مظلمة. بدا له أن هناك شيئًا سيئًا يحدث خلف أسوار المدينة بعيدًا عن أنظاره. هو لا يعرف إذا كان الشعور بالذنب يرجع إلي الشر المحيط به، أم أنه يشعر بالذنب لعدم تصديه لذلك الشر؟ لكن لا يمكن اتهامه بأنه لم يحاول منعه. فقد حاول بكل قواه العقلية أن يدفع الأبواب، لكنها لم تتحرك سنتيمترًا واحدًا، وظل محتجزًا واتُهم بالتقاعس. سمع صدي صوت من بعيد يردد اسمه بلكنة أمريكية عبر الشوارع المهجورة لتلك المدينة المظلمة في عقله: »‬ريتشارد، ريتشارد».
غادر »‬كرافت» المدينة المظلمة، وأبعد كفيه عن وجهه. ترك وراءه تلك الكهوف العفنة، وقفز علي ساقيه علي الرغم من الألم وأخذ يسير الي الأمام وهو يعرج باتجاه الصوت. يسمع الآن أيضًا صوت محرك قارب ويري ضوء كشَّاف يجوب أنحاء المستنقع. رأي »‬هيرب» يقف هناك في القناة ويقود قاربًا مطاطيًا وينادي علي اسمه بقوة. صرخ »‬كرافت»: »‬أنا هنا، أنا هنا». استدار »‬هيرب» وأرسي القارب المطاطي علي شاطئ المستنقع. عرج »‬كرافت» الأمتار الأخيرة وشعر بالضوء مسلطا عليه. ظل »‬كرافت» واقفًا مثل حيوان أمام ضوء الكشَّاف وخفض ذراعيه. قفز »‬هيرب» من القارب وذهب إليه. قال ل »‬كرافت» وهو يضع بطانية علي كتفيه: »‬لقد فقدت شورتك يا رجل». أخذ »‬كرافت» يبكي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.