في سنة 2011 اختارت مجلة Times السيرة الذاتية للكاتب الأمريكي، الروسي الأصل فلاديمير نابوكوف (1899-1977) »تكلمي أيتها الذكريات» من بين أهم مائة عمل أدبي في كل العصور، مشيرة إلي أنها درّة من درر الأدب العالمي. بينما قال كاتب المقالات والمحرّر الأدبي الأمريكي الشهير »جوزيف إبشتاين» عن سيرة نابوكوف: »لقد رسّخ أسلوب السيرة القائم علي الانطباعات الذاتية من فهمنا لآلية عمل الذاكرة، والفضل في ذلك يعود إلي نثر نابوكوف الساحر، ومخيّلته الخصبة»، مضيفًا: »صحيح أنّ نابوكوف لم ينجح في إثارة شغفنا بصيد الفراشات وبلعبة الشطرنج، لكنه استطاع من خلال سيرته الذاتية أن يشيّد ممرًا يجوز بنا بسلاسةٍ نحو فهم حياة الكاتب الشخصية». ولِد فلاديمير نابوكوف في 23 إبريل 1899 في مدينة سانت بيترسبرج الروسية، وقضي بها بضع سنوات قبل أنّ يفرّ مع عائلته إلي شبه جزيرة القرم عقب قيام الثورة البلشفية. وقد تنقلّ بين لندن وبرلين وباريس، ثم هاجر إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية سنة 1940 حيث تابع نشاطه الأدبي كروائي وناقد ومترجم. وفي أوائل السبعينيات انتقل نابوكوف إلي مونترو بسويسرا، حيث وافته المنية هناك سنة 1977، تاركًا وراءه أعمالًا أدبية مهمّة، من أشهرها روايات »لوليتا» و»نار شاحبة» و»بنين»، بالإضافة إلي رواية أخيرة لم تكتمل بعنوان »نسخة لورا الأصلية»، كان قد كتبها قبل وفاته بشهور، وطلب إحراقها لعدم رضائه عنها، إلا أنها نُشِرت سنة 2010 بعد وفاته بثلاث وثلاثين سنة، هذا فضلًا عن سيرته الذاتية »تكلمي أيتها الذكريات»، والتي صدرت ترجمتها العربية مؤخرًا عن دار منشورات الجمل بترجمة ممتازة لحنان يمق.
السيرة مُهداة إلي »فيرا». ولفيرا حضورٌ قويّ في حياة نابوكوف؛ لإن فيرا هي القرية التي أمضي فيها سنوات طفولته، وفيرا أيضًا اسم زوجته التي يتوجّه إليها بالإهداء في مفتتح الكتاب، والتي عاونته علي ترجمة فصول منه إلي اللغة الروسية. يستهلّ نابوكوف سيرته الذاتية بمقدمة كاشفة عن تفاصيل كتابة العمل، هي أشبه بالتمهيد الذي نستهلّ به العقود: جزء لا يتجزأ من العمل متممًا ومكمّلًا له. تغطي السيرة الفترة الزمنية من سنة 1903 حتي سنة 1940، وقد كُتبَت علي مدي عدة سنوات، ونُشرتْ علي حلقات متفرّقة في مجلات أمريكية كمجلة النيو يوركر وغيرها، وأخري فرنسية بدايةً من سنة 1936 وحتي سنة 1951، وهو توقيت نشر الطبعة الأولي. وعن أهمية كتابة هذه السيرة بالنسبة له شخصيًا يقول نابوكوف: »ما أصغر هذا الكون، كم هو ضئيل وتافه قياسًا بالوعي البشري، وقياسًا بإمكانية إنسان واحد علي التذكر، وقدرته علي التعبير بالكلمات. قد أكون مبالغًا في ولعي بانطباعاتي الأولي، ولكن لدي أسبابي لأشعر بامتناني لها، لقد أوصلتني إلي جنة عدن حقيقية حسّة وبصرية».
في البداية، يعترف نابوكوف أنّه كتب فصول سيرته الذاتية بتسلسل عشوائي كما يظهر في تواريخ نشر الفصول قبل ضمّها في كتابٍ واحد، حيث نَشر الفصل الخامس، علي سبيل المثال، باللغة الفرنسية تحت عنوان (الآنسة O) سنة 1936 كنصّ أدبي مستقل، دون الإشارة إلي كونه جزءًا من سيرة ذاتية. يكتشف قارئ يوميات نابوكوف أنّها ليست مجرد سيرة ذاتية، بل سيرة حياة مزيدة ومُنقحة، بمعني أن نابوكوف لم يكتب سيرته الذاتية مرة، ثمّ قُضي الأمر، بل واصل إمداد قارئه في كل طبعة بما يُمكن تسميته »تحديث بيانات»، أي تحديث رؤيته/خبرته الحياتية في الفترة الزمنية ما بين الطبعة الأولي والطبعات اللاحقة. كان عنوان السيرة في البداية »دليل قاطع»، أي دليل قاطع علي وجوده شخصيًا، أما في الطبعة البريطانية فقد قرّر نابوكوف تعديل الاسم إلي »منيوماسين حين تتكلم»، ومنيوماسين هي آلهة الذاكرة عند الإغريق، لكن العنوان لم يُعجب أحدًا، فاستقرّ في النهاية علي عنوان »الذاكرة حين تتكلم»، بينما تُرجم الكتاب إلي الروسية تحت عنوان »شواطيء أخري». الطريف أنّ نابوكوف رأي في مسألة ترجمة سيرته إلي الروسية، وإعادة تنقيح فصولها المكتوبة في الأساس باللغة الإنجليزية عن ذكريات هي بالأصل روسية، رأي في ذلك تحولات شيطانية، لكنه عاد مواسيًا نفسه بأنّ مسألة التحولات قانون مألوف في »عالم الفراشات»، وهي العبارة التي يُمكن أن تقودنا إلي سبب ولع نابوكوف بمراقبة الفراشات وبأطوار حياتها. علي الرغم من تركيز نابوكوف علي الذاكرة وحديثها إليه، فإننا نلمح تكرّر الإشارات إلي صعوبة كتابتها. إذ عاني الرجل معاناة شديدة في أثناء كتابة فصولها لأسباب متفرّقة، من بينها افتقاره إلي بيانات كاملة وموثّقة حول تاريخ عائلته، حيث حرص علي توخيّ أقصي درجات الدقة في سرد تاريخ »آل نابوكوف»، بالإضافة إلي غياب تفاصيل بعينها عن الفترة الساخنة التي سبقتْ مغادرة روسيا بعد اندلاع الثورة البلشفية، فضلًا عن عناء عمليات تنقيح فصول السيرة، وإعادة ترتيبها، ومحاولات ترميم فجوات الزمن، وإصلاح الخلل الموجود في الذاكرة الضبابية، بل والمعتمة في بعض الأحيان. الأسباب السابقة وغيرها جعلت من مهمة كتابة سيرته مهمّة شاقّة، لكنها في الوقت ذاته مهمّة جميلة أوصلته إلي جنة عدن حقيقية علي حد وصفه.
في سيرة نابوكوف الزمن سجن كروي، ولا سبيل إلي الخروج من هذا السجن إلا بتقديم فروض الولاء للذاكرة، واستجدائها كي تتهادي مِن فوق جبال الأوليمب، لتهبطَ علي عقل نابوكوف وروحه في صورة تجليات خاطفة. تتجلّي الذاكرة - والتي كان يصفها أحيانًا بأنها فتاة مستهترة - مثل سلسلة ومضات متباعدة، فتتضاءل الفواصل الزمنية بينها تدريجيًا لتتكشّف مثل »كتل إدراك مُشرقة»، وهو تعبير لافت يحيلنا إلي مصطلحات أهل العرفان مثل الكشف والإشراق والتجليّ، أي تلك اللحظات النادرة التي تتكشّف فيه حقائق الأشياء في ومضات سريعة خاطفة. صحيحٌ أن نابوكوف كتب هذه السيرة بغرض استنطاق ذاكرته، وبغرض الوقوف علي العناصر التي شكّلت وعيه، لكن معرفته بنفسِه بقيت رغم ذلك غامضة، وقد شبّه هذا الغموض بعجلة مجهولة مرّتْ فوق حياته تاركةً علامات معقّدة، لا يُمكن تحليل رموزها إلا حين يشرق عليها مصباح الفن من وراء أوراق دفتر سيرته. وهكذا، فالسيرة الذاتية وحدها- بوصفها تواريخ وحقائق وأحداث مجردة- هي والعدم سواء إن لم تشعشع عليها أنوار الفن. في الفصل الأول يشير نابوكوف إشارةً عابرة إلي واقعة جرت في شتاء سنة 1904، وكان آنذاك طفلًا في الخامسة، لما حاول تسيير قطاره اللعبة فوق البرك المجمدة في أحد شوارع مدينة فيسبادن الألمانية، فهوتْ عربات القطار اللعبة فوق الجليد، وتحطّمتْ مثل كل شيء يهوي ويتحطّم في الحياة. يقول نابوكوف عن هذا المشهد: »تتابع الصور في حياة المرء، المرتبطة بفكرةٍ رئيسية، حسب ما أظن، هو ما يجب أن يكون الهدف الحقيقي لسيرة ذاتية».
وهنا يتضّح- في تقديري- غرض نابوكوف من تأليف هذا الكتاب؛ في الظاهر كتابة سيرة ذاتية، وفي الباطن إصابة هدفٍ أعلي؛ استدعاء مشاهد وصور بعينها من الماضي، وإعادة تشكيلها، وتأمّلها بعد انقضاء فترة طويلة من وقوعها، للخروج بنتيجة واحدة، الذكريات هي الحقيقة الوحيدة الخالدة، وكل ما دون ذلك سراب. تدّلنا علي ذلك عبارة كاشفة في الفصل الثالث تقول: »متانة ذلك الواقع (أي في ذاكرته) تجعل من حاضري مجرد شبح، كل شيء في ذاكرتي كما ينبغي له أن يكون، لن يتغيّر شيء أبدًا، ولا أحد سيموت». يتباهي نابوكوف أحيانًا، كما في الفصل الرابع، بأن قدرته علي تذكّر أحداث الماضي تذكرًا واضحًا هي أمر طالما مارسه بمنتهي الاستمتاع، لكن هذه القدرة لم تخلُ أحيانًا من وخزات الذاكرة البروستية (نسبة إلي مارسيل بروست)، أقصد بها الذاكرة اللا إرادية التي تظهر ظهورًا مفاجئًا بفعل تأثيرٍ عارضٍ مثل رائحة أو صوت، إلخ، فيربط – علي سبيل المثال- ذكري الآنسة راتشيل الكئيبة (إحدي المربيات الإنجليزيات في منزل عائلته) ببسكويت Huntly and Palmer، في معارضةٍ (غير مقصودة؟) لتأثير حلوي المادلين علي ذاكرة بروست في رواية البحث عن الزمن المفقود. أفرد نابوكوف الفصل السادس للحديث عن ولعه المعروف بالفراشات وأنواعها، متذكرًا أوائل الكتب التي قرأها، ومسترجعًا ذكرياته ومغامراته لاصطياد الفراشات، ثمّ يعود في نهاية الفصل ليربط شغفه العميق بالفراشات، وبأطوارها، وبتحولاتها بمعني يرتبط إلي حد بعيد برؤيته لطبيعة العمل الفنيّ. لنقرأ الفقرة التالية كمثال: »عندما يتوجّب علي فراشة أن تبدو كورقة، فإنها لا تقدم كل خصائص الورقة بكل روعة فحسب، بل تقدم أيضًا وبسخاء علامات ثقوب تحاكي تلك التي تفتعلها ديدان الأرض، داروين لا يمكنه تفسير التطابق العجيب بين محاكاة الشكل ومحاكاة السلوك. اكتشفتُ في الحياة وجود ملذات غير نفعية، سعيتُ إليها من خلال الفن. كان كلاهما ضربًا من السحر». تسير بقية فصول الكتاب حتي النهاية علي هذه الوتيرة؛ استدعاء لذكريات غابرة ومواقف عابرة، ثمّ تسليط الضوء عليها لاكتشاف ما تستره من جمال خفي.. والغرض الجمالي واضح. يقول نابوكوف في صفحة 190: »النقطة التي يُمكن الوصول إليها، بتصغير الأشياء الكبيرة، وتكبير الأشياء الصغيرة، هي جوهر الفنّ». يستهلّ نابوكوف الفصل الخامس عشر والأخير بمرثية شعرية لهوراس تقول: واحسرتاه إن السنين تمرّ بنا سراعًا، سراعًا»، منتقلًا إلي مخاطبة زوجته فيرا (دون التصريح باسمها) من خلال مونولوج عذب طويل، يستدعي فيها بلغة شاعرية ذكرياته عن ميلاد ابنه، واصفًا المشاعر المختلطة التي تملّكته بعد قدوم ابنه إلي الدنيا.
هناك عبارة شهيرة منسوبة للفيلسوف والمفكّر الفرنسي بول ريكور تقول: »السرد هو حارسُ الزمن الأمين». ويبدو أن سيرة نابوكوف قد استطاعت أن تضطلع بهذا الدور علي أكمل وجه، أقصد دور الحارس الأمين علي الزمن الآخر، الماضي الجميل الذي انقضي بلا رجعة، لا ذلك فحسب، بل ربما امتدّ دورها لتنفتح علي معانٍ وتجليات موحية لأي قارئ، بل ولأي كاتب أيضًا من خلال الاستراتيجية التي تبنّاها نابوكوف في بناء سيرته. حيث اتكأ علي تقنية تُكرّر في كل فصل تقريبًا، حيث يستدعي مشاهد من زمن الطفولة كما رأينا في مشهد القطار اللعبة، أو يُسهب في وصف مغامراته في أثناء مطاردة الفراشات، أو يعَرّج علي رسائله إلي »تمارا» حبّه الأول في سنوات المراهقة (يقول نابوكوف أنه كان يشعر أنّ رسائل تمارا لن تنقطع رغم الزمن، وستطير لتصل حتمًا إلي مهد الشباب، باحثةً عن عنوان مندثر كما تفعل فراشات محتارة أطلِقَ سراحها)، ثم يشرع في مدَّ الخطّ السردي علي استقامته إلي أبعد نقطة ممكنة، تخليدًا لذكري الأيام التي شكّلت وجدانه الحقيقي. في ختام الفصل الأخير، يخاطب نابوكوف زوجته فيرا قائلًا: »من عادتي كلما فكّرت في حبي لشخصٍ ما، أن أرسم مباشرة أشعة، تبدأ نقطتها الأولي من قلبي، النواة الحنونة لمشاعري، وتنتهي عند أبعد نقاط وأكثرها نأيًا في الكون. هناك ما يدفعني لقياس إدراك مشاعري بأشياء لا يمكن تخيلها أو حتي إحصاؤها».