الطريق إلى البرلمان.. انتهاء اليوم الأول من تلقى أوراق الترشح في انتخابات مجلس النواب    محافظ الجيزة يعتمد حركة مديري ووكلاء الإدارات التعليمية    وكيل «تعليم البحيرة» يشهد ندوة «التعليم بين تحديات الحاضر ورهان المستقبل»    نائب محافظ الأقصر يشارك في احتفال مصنع سكر أرمنت بانتصارات أكتوبر | صور    توقيع مذكرة تفاهم لتنفيذ البرنامج العالمى الخاص بأكاديمية إتش بى للابتكار والتعليم الرقمى HP IDEA فى مدارس WE للتكنولوجيا    اسعار الحديد فى الشرقية اليوم الاربعاء 8102025    التحالف الوطنى يقدم خدمات متنوعة ل 18 ألف مواطن فى برنشت بالعياط    وزارة الاتصالات: تنفيذ برنامج عالمى لأكاديمية إتش بى للابتكار فى مدارس WE    توتر جديد في القدس.. بن غفير يقتحم المسجد الأقصى ويدعو ل«نصر كامل» على حماس    عاجل- السيسي يشيد بالدور التاريخي للقوات المسلحة الجزائرية في حرب أكتوبر خلال اتصال مع الرئيس تبون    ألمانيا تمنح الشرطة صلاحية إسقاط الطائرات المسيرة بعد حوادث مطار ميونيخ    مواجهة نارية.. موعد مباراة السعودية وإندونيسيا في الملحق الآسيوي    استعدادا للسوبر الأفريقي.. بيراميدز يستأنف تدريباته    برنامج تأهيلي لثلاثي الزمالك المصاب    تعدي 6 طلاب على زملائهم أمام مدرسة بالتجمع.. والأمن يتدخل    تكاثر السحب الممطرة على هذه المناطق.. الأرصاد الجوية تكشف حالة الطقس في القاهرة والمحافظات    عاجل- الداخلية تناشد المواطنين بالتقديم بجهة واحدة لحج 2026    تأجيل دعوى تعويض ضد الفنان أحمد صلاح حسني بسبب حادث سيارة    ضبط 19 طن دقيق مدعم بالمخابز السياحية    من هو عمر مؤنس ياجي الفائز بنوبل في الكيمياء؟ أمريكي أردني من أصل فلسطيني ومعه جنسية سعودية    قصر ثقافة حلوان فى ثوبه الجديد.. مسرح وقاعات أنشطة بأحدث التقنيات    مواقيت الصلاه اليوم الأربعاء 8 اكتوبر 2025 فى المنيا    أحمد عمر هاشم.. تعرف على أبرز 10 معلومات عن جهوده الدعوية    «نادية عمارة» تكشف الأسس الشرعية والاجتماعية لاختيار شريك الحياة    احذر هذه الأطعمة على معدة فاضية.. تسبب مشاكل في الهضم    السيطرة على حريق نشب فى مخزن سيراميك على طريق مصر الإسماعيلية    تأجيل محاكمة ميدو بتهمة سب وقذف الحكم محمود البنا    خالد العناني مديرًا عامًا لليونسكو.. والريادة الثقافية والحضارية موطنها مصر    انطلاق برنامج مصر جميلة لاكتشاف المواهب الفنية والأدبية بالوادي الجديد    بلخي: إعادة بناء النظام الصحي في غزة ضرورة إنسانية عاجلة    بالأسماء.. إصابة 9 مواطنين في حادث تصادم سيارتين على طريق شبرا بنها الحر    طارق العوضي: البرلمان الحالي غير مؤهل للنظر في «الإجراءات الجنائية»    في ذكرى ميلاد فارس السينما.. «أحمد مظهر» العسكري المثقف الذي سكن قلوب الجمهور    علاج 1928 مواطنا مجانا ضمن قافلة طبية بقرية في الشرقية    «فصل الشتاء».. نصائح للوقاية من الأمراض الموسمية    بلخي: اجتماع اللجنة الإقليمية بالقاهرة يناقش إصلاحات جذرية لمستقبل الصحة في المنطقة    السيسي: الوضع الاقتصادي يتحسن يومًا بعد يوم.. ولسه الأفضل قادم    أشرف عبد الباقي ضيف برنامج فضفضت أوى مع معتز التونى اليوم    «فضل الشهادة والتضحية في سبيل الوطن» في ختام فعاليات الأسبوع الثقافي لوزارة الأوقاف    الإحصاء: 36.8 % زيادة بقيمة المبالغ المودعة فى صندوق توفير البريد 2024 / 2025    نجاة رئيس الإكوادور من هجوم على موكبه    مشاركة دولية غير مسبوقة في بطولة مصر لهواة للجولف 2025    الأهلي يعود للتدريبات اليوم استعدادًا لضربة البداية بدوري الأبطال    عزاء الدكتور أحمد عمر هاشم اليوم بمسجد الشرطة بالتجمع الخامس بعد صلاة المغرب    رجال لا يكررون الخطأ مرتين.. 4 أبراج تتعلم بسرعة من التجارب    وفد لبنانى يزور هيئة الاعتماد والرقابة للاطلاع على تجربة مصر بالإصلاح الصحى    بن جفير يقتحم الأقصى مجددًا وسط توتر أمني في عيد العرش اليهودي    السيسي يوجه بإطلاق اسم أحمد عمر هاشم على مسجد وطريق ومحطة قطار    «الشكاوى الحكومية» تتلقى 13.5 ألف شكوى واستغاثة صحية    رئيس هيئة الشراء الموحد يبحث مع مستشار الرئيس للصحة الموقف التنفيذي لمشروع «المخازن الاستراتيجية»    يد - بعثة الأهلي إلى المغرب للمشاركة في بطولة إفريقيا    تزوجت بقصد الإنجاب عبر الحقن المجهرى دون جماع والطلاق بعده.. ما حكم الدين    أكسيوس: ويتكوف وكوشنر يصلان شرم الشيخ للانضمام لمفاوضات إنهاء حرب غزة    سعر الريال القطرى اليوم الأربعاء 8 أكتوبر 2025 فى بداية التعاملات    «كنت أسير خلفه».. كيف بشر نبي الله الراحل أحمد عمر هاشم بمستقبله    اسعار الذهب اليوم الأربعاء 8-10-2025 في بني سويف    نائب رئيس الزمالك: «مفيش فلوس نسفر الفرق.. ووصلنا لمرحلة الجمود»    منتخب مصر المشارك في كأس العرب يواصل تدريباته استعدادًا لمواجهة المغرب وديًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإخوان بين السياسة والدين
إخواني لا يُقبّل يد المرشد!
نشر في أخبار الأدب يوم 02 - 06 - 2012

ماذا كان سيحدث للمجتمع المصري لو لم يظهر حسن البنا ويؤسس جماعته؟ السؤال في حقيقته ليس افتراضاً عبثياً، فبالتأكيد كان من الممكن أن نسير في مسارات أخري، في حال عدم ظهوره وتأسيسه لجماعة الإخوان المسلمين. مع ذلك، فهناك ظروف سياسية واجتماعية كانت تموج بها مصر في عشرينيات القرن الماضي، جعلتها أرضاً خصبة لميلاد تيار مناويء لقوي التفتّح والحضارة.
في كتاب "حسن البنا.. وجماعة الإخوان المسلمين بين الدين والسياسة" يرصد حمادة حسن إسماعيل تاريخ الجماعة الأهم الآن في مصر من حيث التنظيم، والتي تدعو إلي العودة إلي الوراء بتبني مشروع الخلافة. الكتاب يجعلنا نطرح علي أنفسنا العديد من الأسئلة حول الهدف الأساسي الذي من أجله أنشئت جماعة دينية بأهداف سياسية.
من الممكن أن تبدأ الحكاية في الفترة ما بين - 1919، 1928 فموضوع الخلافة كان أهم قضية فكرية مثارة ومحوراً لجدل ونقاش ممتد، حيث قامت الحكومة التركية بموافقة المجلس الوطني الكبير في أنقرة علي خلع الخليفة وإلغاء دولة الخلافة في مارس . 1924 كان من المنتظر حينذاك أن تنهض الدول الواقعة تحت لواء الدولة الإسلامية، وأن تسير مع حركة التاريخ نحو تيارات أكثر انفتاحاً علي العالم، غير أن المؤمنين بالخلافة، أصحاب العقول المتحجرة، دعوا لعقد مؤتمر إسلامي تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية، لم يتم فيه اتخاذ قرار، لكن بعدها تكونت "جمعية الدفاع عن الأزهر" التي اختارت الملك فؤاد الأول خليفة للمسلمين. أثناء ذلك، ظهر أحد المؤلفات الصغيرة لرجل من رجال الأزهر قاضي محكمة المنصورة علي عبد الرازق، وكان عنوانه "الإسلام وأصول الحكم" هاجم فيه نظام الخلافة وأوضح أنه لم يرد له ذكر في القرآن بل وتجاهلته السنة كذلك. وكان الكتاب في مجمله إدانة صريحة لنظام الخلافة. لم يمر الكتاب مرور الكرام، لقد حرك المياه الراكدة وواجه معارضة شديدة انتهت بفصل عبد الرازق من وظيفته وإخراجه من زمرة العلماء، ولما رفض عبد العزيز فهمي وزير الحقانية التصديق علي قرار هيئة كبار العلماء، اضطر رئيس الوزراء إلي إقالته. وما إن هدأت قضية الإسلام وأصول الحكم حتي تفجرت قضية طه حسين و"الشعر الجاهلي" والذي طبق فيه منهج الشك الديكارتي علي بعض مسائل دينية تمس القرآن والسنة. توافق مع ذلك كله تعرّض الاشتراكية والشيوعية لهجوم عنيف، ووصف البعض الشيوعية والماركسية بأنها دعوات للهدم والتخريب والتدمير.
لم يكن حسن البنا بعيداً عما يحدث، فنشأته الدينية المبنية علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جعلته يطمح في دولة خلافة أكثر قوة في تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظره(حيث الديمقراطية والأحزاب السياسية محض بدعة غربية). يشير المؤلف إلي أن "مؤسس الجماعة كان رئيساً لجمعية "منع المحرمات »في صباه« وكان يرسل خطابات إلي من يرتكب إثماً بالبلدة أو يقصر في فريضة من الفرائض، ولم يكن ذلك إلا بداية لفرض الشريعة بالقوة حال سنحت الفرصة لتحقيق ذلك. وما من شيء يمكن أن يبرز العقلية التي أسست جماعة الإخوان المسلمين، من تلك الحادثة التي رواها البنا عن أنه أحرق ديواناً من الشعر ألّفه بعد ثورة 19 وبعض المؤلفات الأدبية، قائلاً:"أن الاشتغال بالعلم الكثير معطل عن العمل النافع والتفرغ لعبادة الله، وحسب الإنسان لدينه أن يتعرف ما يصحح به أحكامه، وحسب الإنسان لدنياه أن يتعرف ما يحصل به علي رزقه..." وهي المقولة التي تحدد موقعه من فكرة "المعرفة" بشكل عام، والتي صارت العدو الكبير للجماعة من بعده.
لقد قرر حسن البنا سلفاً أن يغيّر العالم ليصير إسلامياً علي طريقته، رافضاً، كما يقول إسماعيل في كتابه، التيارات العلمانية والتوجه القوي نحو مدنية حديثة، معادياً للثورة التي ألهمت الليبراليين ودعاة التجديد وشجّعتهم، بينما أخافت المحافظين وزادت من سخطهم. ولأن التيار العلماني الرافض لدولة الخلافة والانصياع لرجال الدين الذين يدعون أنهم يتحدثون باسم الله، كان أشد وأقوي من التيار الديني، فكّر البنا في كيفية تعزيز الجمعيات الإسلامية الموجودة بالفعل، ومع إقامته في القاهرة بدأ يحدد ما رآه منابع الفساد: الجامعة المصرية التي اندفعت وراء التفكير المادي المنقول من الغرب؛ الحزب الديمقراطي الذي لم يكن له منهاج إلا أن يدعو للحرية والديمقراطية؛ المجمع الفكري الذي جمع يهوداً ومسيحيين ومسلمين وكانوا يتحدثون بحرية في مسألة الاعتقاد؛ الكتب والمجلات التي تنشر الفكر الليبرالي. (وكما يتضح، فقد كانت مصر منذ 90 عاماً أفضل حالاً من الآن، وهو ما لم يرض به البنا فكوّن جماعة إسلامية تجرها إلي الخلف 1400 عاما تقريباً). يقول حمادة محمود إسماعيل في كتابه :"لم يقف البنا مكتوف اليدين أمام هذا التيار، فوجد أن المسجد لا يكفي وحده كأسلوب مضاد فعرض علي بعض زملائه بدار العلوم أن يقوموا بعملية وعظ للناس في المقاهي".
في الإسماعيلية كانت بداية تكوين الجماعة، حيث درس البنا المجتمع دراسة متأنية، ووجد لديه استعداداً وميولاً دينية، فبدأ يتسرسب إليه، بدايةً من المسجد والمقهي والنادي. هكذا تكونت الإخوان المسلمين عام 1928، كما حدد البنا في مذكراته، وانتقلت للقاهرة، وفي غضون عشر سنوات صدرت صحيفة باسم الجماعة، وكان الهدف منها تأكيد توجيه المسلمين إلي المطالبة بأحكام الله وشريعته. الطريقة التي اتبعها البنا هامة في فهم كيف ينتشر الإخوان سريعاً في المجتمع، لقد اتبعوا خطاه وبدأوا مع مرور السنين في الوصول للكفور والنجوع، رافعين راية مزيفة تحمل اسم الإسلام واحتكروا لأنفسهم الحديث باسم الدين. فالجماعة التي كان يجب أن تكون دعوية، وأن توضّح ما التبس في أمور الدين، وتراعي البعد الزماني والمكاني في تفسير الآيات القرآنية وتنقية الأحاديث النبوية مما شابها من أحاديث مدلسة، لجأت إلي السياسة لفرض سلطانها ورؤيتها المنغلقة للعالم وللدين، ودخلت معارك لا علاقة لها بالإسلام الذي اختبأوا وراء ستارته ليقنعوا البسطاء من الناس بأنهم يريدون لهم الخير، وأن هذا الخير لا يحل إلا أينما حلوا هم. كان من الممكن أن يتبع حسن البنا نهج الإمام الشافعي أو أبو حنيفة في وضع فقه يناسب الزمن الحديث دون أن يخالف صريح الآيات، وأن يقدّم تفسيرات تتفق مع إيمان المسلمين بأن القرآن كتاب يناسب كل زمان ومكان، لكنه تخلي عن كل هذا وامتص القشور فقط دون الوصول للعمق، ليس مستغرباً إذن أن تكون نتيجة ذلك الدعوة لدولة الخلافة، والصدام مع الليبراليين ودعاة حرية العقائد، وتكفير الشيوعيين ومهاجمتهم كلما أتيحت الفرصة، دون أن ينتبه في غمرة تعصبه أنه "لا إكراه في الدين" وأنه "لكم دينكم ولي دين" وأنه "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". امتلك البنا، لقوة شخصيته وذكائه، فرصاً ذهبية لتنفيض الغبار عن قضايا فقهية كان أولي به أن يناقشها، مثل حد الردة، وأن يتفق مع التيار الليبرالي في أن حرية العقيدة مكفولة في الإسلام وأن القرآن لم يفرض هذا الحد. وبنظرة سريعة علي ما قدّمه البنا للدين، نجد أنه لم يقدّم شيئاً ملموساً، فهدفه الرئيسي كان حشد واستقطاب أكبر عدد من المسلمين لجماعته، وممارسة السياسة بأتباع عميان.
وضع مؤسس الإخوان المسلمين أيديولوجيتهم الخاصة التي تدور داخل أحكام الإسلام، دون أن يعي أن هذه الأحكام ليست كلها من أصل الدين بل أن كثيراً منها كان اجتهادات علماء سابقين يمكن التجادل معها وتجاوزها، كما أن النص القرآني نفسه مفتوح وقابل للتأويل. ولكي يربط جماعته بالسياسة ويبرر طموحه في الوصول للسلطة، قال إن الإسلام "هو النظام الشامل والسيادة والسياسة" وهو "النظام الداخلي للحكم" وهو "النظام الخارجي للدولة...والنظام الدقيق للاقتصاد...والنظام الرائع للجندية". رغم أن الإسلام كدين جاء للتواصل بين العبد وربه، وما بُني بعد ذلك عليه محض تفسيرات يمكن تطورها أو حذفها ليحل محلها تفسيرات جديدة. وللتوفيق بين الدين وتغيرات العصر، يدّعي، علي سبيل المثال، "أن العولمة والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية وتوزيع الثروة، وكل ما شغل بال ساسة الأمم وفلاسفة الاجتماع، كل هذه خاض الإسلام في لبها ووضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن"، جامعاً بذلك كل المتناقضات في جملة واحدة، فكيف يكون الإسلام اشتراكياً ورأسمالياً في آن واحد؟ ولعل الخطيئة التي ارتكبها البنا والإخوان في حق الدين، كعلاقة روحانية طاهرة، أن أنزله "في حلبة الصراع مع الأنظمة العالمية، تلك التي تتنازع السيادة والسيطرة علي العالم". ورغم ذلك، رفض الإخوان المسلمون الاشتراكية بدعوة أن الإسلام:"لم يقر المساواة بين الناس بتوزيع الثروة الطبيعية والصناعية بينهم فلا يكون لا غني ولا فقير...وقد اعتبر المساواة في توزيع الثروة ضرباً من ضروب الظلم" ليتضح بذلك أن الفكر الإخواني رأسمالي، يعبر عن وجهة نظره لا عن وجهة نظر الإسلام.
يتناول كتاب"حسن البنا..وجماعة الإخوان المسلمين" علاقة الجماعة بالسلطة، ويؤرخ لها. يقول إسماعيل: "كانت الجماعة منذ بداياتها تحاول جاهدة إعلان ولائها المطلق للجالس علي العرش" و"من يتصفح الإخوان الأسبوعية يجد بعضاً من المقالات التي تفيض ثناءً ومدحاً للجالس علي العرش، فقد وصفته إحدي هذه المقالات بأنه ولي مصر". وعند وفاة الملك فؤاد كتبت جريدة الإخوان"مصر تفتقد اليوم بدرها في الليلة الظلماء" كما أنها كانت تصفه بأمير المؤمنين وحامي حمي الدين. ونتيجة لهذا التعريض "استفادت الجماعة من دعم القصر لها فثبتت أقدامها ورسخت". ورغم ذلك الولاء توترت العلاقة بين القصر والجماعة واغتيل حسن البنا، ولعل السبب في ذلك تنازل الإخوان للوفد عن الترشح في دائرة الإسماعيلية، وما تلا ذلك من ظن القصر أن الإخوان جماعة ثورية تهدف لإقامة الجمهورية. أما آراء الجماعة في الأحزاب السياسية فكانت قاطعة، فهي "سيئة هذا الوطن الكبري، وأساس الفساد الاجتماعي" والمقصود بذلك فكرة وجود الحزب أصلاً وليس حزباً بعينه، وتظهر ازدواجية حسن البنا في أنه كان يصادق رؤساء الأحزاب ويتلقي منهم دعماً.
يكشف الكتاب علاقة الإخوان بالضباط الأحرار، فقد نجح البنا في تجنيد عناصر منهم مثل السادات وحسين الشافعي وكمال الدين حسين ومحمود لبيب، وعندما علم عبد الناصر أوضح لهم ألا يكون التنظيم أداة في أيدي أي جماعة مهما تلاقت الأهداف. واتضح صواب ذلك مع مهادنة الإخوان لحكومة إسماعيل صدقي.
وأخيراً، فالمباديء التي وضعها البنا لجماعته، سارت عليه دون مخالفة ودون جدال، ذلك لأن جماعة الإخوان تقوم في الأساس علي فكرة السمع والطاعة، أو ما يمكن وصفه بسياسة القطيع، وهو ما يتنافي تماماً مع الأرواح الحرة، ولعل ذلك ما سبّب ارتباكاً في صفوفها مع رحيل مؤسسها، لكن الأهم من ذلك أنها خرّبت المجتمع وساهمت في تأخيره بمواجهتها للتيارات الليبرالية واليسارية، وبمحاولاتها المستميتة في الوصول إلي السلطة لتطبيق فاشيتها.
امرأة علي أعتاب مكتب الإرشاد!
كثيرة هي الكتب التي ترصد تجارب الإخوان داخل الجماعة، لكنها غالبا -كما الجماعة نفسها- الغلبة فيها للرجال، نادرا ما نجد تسجيل نسائيا، من هنا تأتي أهمية كتاب "حكايتي مع الاخوان..مذكرات أخت سابقة" لانتصار عبد المنعم.
"إن لي هوية، إني انسان كامل الأهلية، لدي عقل ناقد مفكر يرفض سياسة القطيع الممنهجة." هذا ما تحاول انتصار التأكيد عليه في مذكراتها، توضح في مقدمة كتابها الأسباب التي دفعتها لتسجيل شهادتها الشخصية عن تجربتها الخاصة مع جماعة الإخوان المسلمين، عن أحوالها من الداخل من طبقية وطاعة عمياء وتغليف الرغبات الشخصية بغلاف الدعوة الإسلامية.
تحكي انتصار ليست فقط كعضوة سابقة في جماعة الإخوان المسلمين ولكن كامرأة تعرضت للتهميش والإقصاء عن وضع المرأة في الجماعة، وتطرح ظاهرة تعدد زوجات رجال الجماعة بمبررات دينية والفرق مثلا بين المسيرات النسائية والرجالية تقول:"لم يحدث ولو لمرة واحدة أن وصلت امرأة لأعتاب مكتب الإرشاد المقدسة." وتخصص فصلا لمناقشة وضع المرأة في الإسلام مقارنة بوضعها في الجماعة وما ذكرته رسائل حسن البنا عن المرأة.
في البداية تبدو انتصار مصدومة بحقيقة اكتشافها لجماعة تصورتها المدينة الفاضلة التي حلمت بها، لكنها ورغم ذلك تؤكد أنها تكتب لتسجل شهادتها علي الجماعة لا مهاجمتها, مع المحافظة علي بعض الرموز، بعض الشعارات، بعض المعارف الشخصية. ربما يرجع ذلك إلي أنها بدأت في كتابة المذكرات عام 2007 ثم عادت إليها عام 2009 نلاحظ التغير في لهجة الكتاب وهي تكتب مثلا عن حسن البنا في فصل: الإمام مجدد ومصلح؟ تسقط الهالة المقدسة عن حسن البنا وتناقش أقواله ويصبح الإمام نفسه محل جدل ونقاش لا الجماعة فقط.
تختفي انتصار عبد المنعم خلف الكثير من علامات الاستفهام فعلي الرغم من أنها تعاملت مع هذا الكتاب ليس كمذكرات شخصية فقط بل كبحث طويل إلا أنها لا تقدم إجابات في كثير من الأحيان بل تستنكر وتشجب دون مناقشة جدية.
ترصد الكاتبة في الفصل الخامس كاريزما الوجود الإخواني في مدينة صغيرة مثل إدكو، تراقب نفسها وتحكي عن متي شعرت بالميل تجاه الجماعة، ولماذا؟ "سألت نفسي كنموذج لماذا أجد نفسي منجذبة إلي جماعة الإخوان المسلمين، فكانت الإجابة إنه الفراغ الذي يلفنا كفتيات في مدينة لا تسنح لغير الذكور شيئا."
تؤجل انتصار عبد المنعم لحظة التحاقها بصفوف الجماعة قدر ما تستطيع وتبدأ في الفصل السادس تروي كيف كانت رحلتها إلي السعودية بداية دخولها الجماعة وعلي الرغم من شعورها ب"الازدواجية واليأس من الجميع." إلا أنها فور عودتها مصر انتظرت اتصال لتسكينها في الجماعة!
ثم تنتقل الرؤية من الخارج إلي الداخل حيث تحكي انتصار عبد المنعم عن تجربتها من داخل الجماعة، كيف تحولت إلي أخت؟ نوعية الأخوات التي قابلتهن ومدي وعيهن الثقافي، تحكي مثلا تجربة خاصة عن سرقة مجهودها الشخصي من الأخت المسئولة التي تسبقها تنظيميا.
تكتب انتصار عبد المنعم تحت رقيب، فهي تدرك محظورية ما تكتب, وتحاول أن تبرر للآخرين ما تفعل, فتستخدم بدلاً من الأسماء حروف: عندما قابلت (س) وعندما سرقت (ض.ع) مجهودي. تكرر شرح كلامها بصيغات متعددة خوفا من أن يفهمها أحد خطأ. وفي كلمة أخيرة تؤكد مرة أخري أنها شرحت فكرها وليس علاقات شخصية وأنها "مازلت قيد المقاومة وأريد العيش بسلام."
ماذا كان سيحدث للمجتمع المصري لو لم يظهر حسن البنا ويؤسس جماعته؟ السؤال في حقيقته ليس افتراضاً عبثياً، فبالتأكيد كان من الممكن أن نسير في مسارات أخري، في حال عدم ظهوره وتأسيسه لجماعة الإخوان المسلمين. مع ذلك، فهناك ظروف سياسية واجتماعية كانت تموج بها مصر في عشرينيات القرن الماضي، جعلتها أرضاً خصبة لميلاد تيار مناويء لقوي التفتّح والحضارة.
في كتاب "حسن البنا.. وجماعة الإخوان المسلمين بين الدين والسياسة" يرصد حمادة حسن إسماعيل تاريخ الجماعة الأهم الآن في مصر من حيث التنظيم، والتي تدعو إلي العودة إلي الوراء بتبني مشروع الخلافة. الكتاب يجعلنا نطرح علي أنفسنا العديد من الأسئلة حول الهدف الأساسي الذي من أجله أنشئت جماعة دينية بأهداف سياسية.
من الممكن أن تبدأ الحكاية في الفترة ما بين - 1919، 1928 فموضوع الخلافة كان أهم قضية فكرية مثارة ومحوراً لجدل ونقاش ممتد، حيث قامت الحكومة التركية بموافقة المجلس الوطني الكبير في أنقرة علي خلع الخليفة وإلغاء دولة الخلافة في مارس . 1924 كان من المنتظر حينذاك أن تنهض الدول الواقعة تحت لواء الدولة الإسلامية، وأن تسير مع حركة التاريخ نحو تيارات أكثر انفتاحاً علي العالم، غير أن المؤمنين بالخلافة، أصحاب العقول المتحجرة، دعوا لعقد مؤتمر إسلامي تحت رئاسة شيخ الإسلام بالديار المصرية، لم يتم فيه اتخاذ قرار، لكن بعدها تكونت "جمعية الدفاع عن الأزهر" التي اختارت الملك فؤاد الأول خليفة للمسلمين. أثناء ذلك، ظهر أحد المؤلفات الصغيرة لرجل من رجال الأزهر قاضي محكمة المنصورة علي عبد الرازق، وكان عنوانه "الإسلام وأصول الحكم" هاجم فيه نظام الخلافة وأوضح أنه لم يرد له ذكر في القرآن بل وتجاهلته السنة كذلك. وكان الكتاب في مجمله إدانة صريحة لنظام الخلافة. لم يمر الكتاب مرور الكرام، لقد حرك المياه الراكدة وواجه معارضة شديدة انتهت بفصل عبد الرازق من وظيفته وإخراجه من زمرة العلماء، ولما رفض عبد العزيز فهمي وزير الحقانية التصديق علي قرار هيئة كبار العلماء، اضطر رئيس الوزراء إلي إقالته. وما إن هدأت قضية الإسلام وأصول الحكم حتي تفجرت قضية طه حسين و"الشعر الجاهلي" والذي طبق فيه منهج الشك الديكارتي علي بعض مسائل دينية تمس القرآن والسنة. توافق مع ذلك كله تعرّض الاشتراكية والشيوعية لهجوم عنيف، ووصف البعض الشيوعية والماركسية بأنها دعوات للهدم والتخريب والتدمير.
لم يكن حسن البنا بعيداً عما يحدث، فنشأته الدينية المبنية علي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جعلته يطمح في دولة خلافة أكثر قوة في تطبيق الشريعة الإسلامية من وجهة نظره(حيث الديمقراطية والأحزاب السياسية محض بدعة غربية). يشير المؤلف إلي أن "مؤسس الجماعة كان رئيساً لجمعية "منع المحرمات »في صباه« وكان يرسل خطابات إلي من يرتكب إثماً بالبلدة أو يقصر في فريضة من الفرائض، ولم يكن ذلك إلا بداية لفرض الشريعة بالقوة حال سنحت الفرصة لتحقيق ذلك. وما من شيء يمكن أن يبرز العقلية التي أسست جماعة الإخوان المسلمين، من تلك الحادثة التي رواها البنا عن أنه أحرق ديواناً من الشعر ألّفه بعد ثورة 19 وبعض المؤلفات الأدبية، قائلاً:"أن الاشتغال بالعلم الكثير معطل عن العمل النافع والتفرغ لعبادة الله، وحسب الإنسان لدينه أن يتعرف ما يصحح به أحكامه، وحسب الإنسان لدنياه أن يتعرف ما يحصل به علي رزقه..." وهي المقولة التي تحدد موقعه من فكرة "المعرفة" بشكل عام، والتي صارت العدو الكبير للجماعة من بعده.
لقد قرر حسن البنا سلفاً أن يغيّر العالم ليصير إسلامياً علي طريقته، رافضاً، كما يقول إسماعيل في كتابه، التيارات العلمانية والتوجه القوي نحو مدنية حديثة، معادياً للثورة التي ألهمت الليبراليين ودعاة التجديد وشجّعتهم، بينما أخافت المحافظين وزادت من سخطهم. ولأن التيار العلماني الرافض لدولة الخلافة والانصياع لرجال الدين الذين يدعون أنهم يتحدثون باسم الله، كان أشد وأقوي من التيار الديني، فكّر البنا في كيفية تعزيز الجمعيات الإسلامية الموجودة بالفعل، ومع إقامته في القاهرة بدأ يحدد ما رآه منابع الفساد: الجامعة المصرية التي اندفعت وراء التفكير المادي المنقول من الغرب؛ الحزب الديمقراطي الذي لم يكن له منهاج إلا أن يدعو للحرية والديمقراطية؛ المجمع الفكري الذي جمع يهوداً ومسيحيين ومسلمين وكانوا يتحدثون بحرية في مسألة الاعتقاد؛ الكتب والمجلات التي تنشر الفكر الليبرالي. (وكما يتضح، فقد كانت مصر منذ 90 عاماً أفضل حالاً من الآن، وهو ما لم يرض به البنا فكوّن جماعة إسلامية تجرها إلي الخلف 1400 عاما تقريباً). يقول حمادة محمود إسماعيل في كتابه :"لم يقف البنا مكتوف اليدين أمام هذا التيار، فوجد أن المسجد لا يكفي وحده كأسلوب مضاد فعرض علي بعض زملائه بدار العلوم أن يقوموا بعملية وعظ للناس في المقاهي".
في الإسماعيلية كانت بداية تكوين الجماعة، حيث درس البنا المجتمع دراسة متأنية، ووجد لديه استعداداً وميولاً دينية، فبدأ يتسرسب إليه، بدايةً من المسجد والمقهي والنادي. هكذا تكونت الإخوان المسلمين عام 1928، كما حدد البنا في مذكراته، وانتقلت للقاهرة، وفي غضون عشر سنوات صدرت صحيفة باسم الجماعة، وكان الهدف منها تأكيد توجيه المسلمين إلي المطالبة بأحكام الله وشريعته. الطريقة التي اتبعها البنا هامة في فهم كيف ينتشر الإخوان سريعاً في المجتمع، لقد اتبعوا خطاه وبدأوا مع مرور السنين في الوصول للكفور والنجوع، رافعين راية مزيفة تحمل اسم الإسلام واحتكروا لأنفسهم الحديث باسم الدين. فالجماعة التي كان يجب أن تكون دعوية، وأن توضّح ما التبس في أمور الدين، وتراعي البعد الزماني والمكاني في تفسير الآيات القرآنية وتنقية الأحاديث النبوية مما شابها من أحاديث مدلسة، لجأت إلي السياسة لفرض سلطانها ورؤيتها المنغلقة للعالم وللدين، ودخلت معارك لا علاقة لها بالإسلام الذي اختبأوا وراء ستارته ليقنعوا البسطاء من الناس بأنهم يريدون لهم الخير، وأن هذا الخير لا يحل إلا أينما حلوا هم. كان من الممكن أن يتبع حسن البنا نهج الإمام الشافعي أو أبو حنيفة في وضع فقه يناسب الزمن الحديث دون أن يخالف صريح الآيات، وأن يقدّم تفسيرات تتفق مع إيمان المسلمين بأن القرآن كتاب يناسب كل زمان ومكان، لكنه تخلي عن كل هذا وامتص القشور فقط دون الوصول للعمق، ليس مستغرباً إذن أن تكون نتيجة ذلك الدعوة لدولة الخلافة، والصدام مع الليبراليين ودعاة حرية العقائد، وتكفير الشيوعيين ومهاجمتهم كلما أتيحت الفرصة، دون أن ينتبه في غمرة تعصبه أنه "لا إكراه في الدين" وأنه "لكم دينكم ولي دين" وأنه "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". امتلك البنا، لقوة شخصيته وذكائه، فرصاً ذهبية لتنفيض الغبار عن قضايا فقهية كان أولي به أن يناقشها، مثل حد الردة، وأن يتفق مع التيار الليبرالي في أن حرية العقيدة مكفولة في الإسلام وأن القرآن لم يفرض هذا الحد. وبنظرة سريعة علي ما قدّمه البنا للدين، نجد أنه لم يقدّم شيئاً ملموساً، فهدفه الرئيسي كان حشد واستقطاب أكبر عدد من المسلمين لجماعته، وممارسة السياسة بأتباع عميان.
وضع مؤسس الإخوان المسلمين أيديولوجيتهم الخاصة التي تدور داخل أحكام الإسلام، دون أن يعي أن هذه الأحكام ليست كلها من أصل الدين بل أن كثيراً منها كان اجتهادات علماء سابقين يمكن التجادل معها وتجاوزها، كما أن النص القرآني نفسه مفتوح وقابل للتأويل. ولكي يربط جماعته بالسياسة ويبرر طموحه في الوصول للسلطة، قال إن الإسلام "هو النظام الشامل والسيادة والسياسة" وهو "النظام الداخلي للحكم" وهو "النظام الخارجي للدولة...والنظام الدقيق للاقتصاد...والنظام الرائع للجندية". رغم أن الإسلام كدين جاء للتواصل بين العبد وربه، وما بُني بعد ذلك عليه محض تفسيرات يمكن تطورها أو حذفها ليحل محلها تفسيرات جديدة. وللتوفيق بين الدين وتغيرات العصر، يدّعي، علي سبيل المثال، "أن العولمة والاشتراكية والرأسمالية والبلشفية وتوزيع الثروة، وكل ما شغل بال ساسة الأمم وفلاسفة الاجتماع، كل هذه خاض الإسلام في لبها ووضع للعالم النظم التي تكفل له الانتفاع بما فيها من محاسن"، جامعاً بذلك كل المتناقضات في جملة واحدة، فكيف يكون الإسلام اشتراكياً ورأسمالياً في آن واحد؟ ولعل الخطيئة التي ارتكبها البنا والإخوان في حق الدين، كعلاقة روحانية طاهرة، أن أنزله "في حلبة الصراع مع الأنظمة العالمية، تلك التي تتنازع السيادة والسيطرة علي العالم". ورغم ذلك، رفض الإخوان المسلمون الاشتراكية بدعوة أن الإسلام:"لم يقر المساواة بين الناس بتوزيع الثروة الطبيعية والصناعية بينهم فلا يكون لا غني ولا فقير...وقد اعتبر المساواة في توزيع الثروة ضرباً من ضروب الظلم" ليتضح بذلك أن الفكر الإخواني رأسمالي، يعبر عن وجهة نظره لا عن وجهة نظر الإسلام.
يتناول كتاب"حسن البنا..وجماعة الإخوان المسلمين" علاقة الجماعة بالسلطة، ويؤرخ لها. يقول إسماعيل: "كانت الجماعة منذ بداياتها تحاول جاهدة إعلان ولائها المطلق للجالس علي العرش" و"من يتصفح الإخوان الأسبوعية يجد بعضاً من المقالات التي تفيض ثناءً ومدحاً للجالس علي العرش، فقد وصفته إحدي هذه المقالات بأنه ولي مصر". وعند وفاة الملك فؤاد كتبت جريدة الإخوان"مصر تفتقد اليوم بدرها في الليلة الظلماء" كما أنها كانت تصفه بأمير المؤمنين وحامي حمي الدين. ونتيجة لهذا التعريض "استفادت الجماعة من دعم القصر لها فثبتت أقدامها ورسخت". ورغم ذلك الولاء توترت العلاقة بين القصر والجماعة واغتيل حسن البنا، ولعل السبب في ذلك تنازل الإخوان للوفد عن الترشح في دائرة الإسماعيلية، وما تلا ذلك من ظن القصر أن الإخوان جماعة ثورية تهدف لإقامة الجمهورية. أما آراء الجماعة في الأحزاب السياسية فكانت قاطعة، فهي "سيئة هذا الوطن الكبري، وأساس الفساد الاجتماعي" والمقصود بذلك فكرة وجود الحزب أصلاً وليس حزباً بعينه، وتظهر ازدواجية حسن البنا في أنه كان يصادق رؤساء الأحزاب ويتلقي منهم دعماً.
يكشف الكتاب علاقة الإخوان بالضباط الأحرار، فقد نجح البنا في تجنيد عناصر منهم مثل السادات وحسين الشافعي وكمال الدين حسين ومحمود لبيب، وعندما علم عبد الناصر أوضح لهم ألا يكون التنظيم أداة في أيدي أي جماعة مهما تلاقت الأهداف. واتضح صواب ذلك مع مهادنة الإخوان لحكومة إسماعيل صدقي.
وأخيراً، فالمباديء التي وضعها البنا لجماعته، سارت عليه دون مخالفة ودون جدال، ذلك لأن جماعة الإخوان تقوم في الأساس علي فكرة السمع والطاعة، أو ما يمكن وصفه بسياسة القطيع، وهو ما يتنافي تماماً مع الأرواح الحرة، ولعل ذلك ما سبّب ارتباكاً في صفوفها مع رحيل مؤسسها، لكن الأهم من ذلك أنها خرّبت المجتمع وساهمت في تأخيره بمواجهتها للتيارات الليبرالية واليسارية، وبمحاولاتها المستميتة في الوصول إلي السلطة لتطبيق فاشيتها.
إخواني لا يُقبّل يد المرشد!
كيف يُفكر الإخواني بعد أن يترك الجماعة؟! الإجابة في 136 صفحة من القطع الصغير، تُمثّل كتاب أحمد العجوز "إخواني out of the box". العجوز لا ينتقم، بعد أن حرر نفسه من الإطار المرعب للجماعة، ولا يدّعي أنه يكشف أسرار التنظيم، فباعترافه هو كان يعرف أخبار الجماعة من الإعلام أكثر مما يعرفه بالداخل. إنه يحاول فقط أن يفهم، ويشاركنا في محاولة الفهم تلك، كيف يفكر الإخوان، بلهجة ساخرة، تُشبه قشرة السكر، التي تُغلّف الكبسولة المُرّة، أو الذكريات الأليمة. أليس تعليقه يبدو مناسباً للدلالة علي ذلك؟.. "أقف علي صورة موضوعية، فلا يستفزني حِجرٌ علي رأي، ولا يأسرني قول إني أحبك في الله"، وأيضاً "هذا الكتاب ليس كفراناً بأهداف جماعتي، ولكنه فرار بعقلي خوفاً من أن يتجمّد أو يوضع في ثلاجة"!
الإخواني الصغير يدخل مصنع الجماعة، ورويداً رويداً، يتشرّب أفكار التنظيم، ويشعر بما يشعر به الآخرون، وأول شعور سيتسرّب إلي نفسه، هو فكرة المظلومية التاريخية، فالإخواني يُفكّر بمنطق الضحية "نتيجة لهذا الشعور بالقهر والظلم، عاشت الجماعة حالة الضحية المغلوبة علي أمرها"، واستثمرت الجماعة هذا الإحساس، يعترف العجوز، لجني بعض المكاسب السياسية، عن طريق استدرار عطف الناس، وهذا العطف قد يدفعك لمحاولة معرفة تلك الجماعة عن قرب، وتذهب بقدميك لتدخل دائرة المحبين، وما تلبث أن تصبح مؤيداً، فمنتسباً، فعضواً عاملاً بها..
يتحدث العجوز عن "الخصوصية الإخوانجية"، وأسمّيها "العنصرية الإخوانية"، فالإخواني يتلبّسه شعور عام بأنه مختلف ثقافياً ودينياً عن غيره "وبالتالي لا تنطبق عليهم كثير من النظريات والتطبيقات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تنطبق علي غيرهم". يقول ويُعلّق علي الفكرة "باطنها يحوي قدراً كبيراً من احتقار الآخر، والنظر إليه باعتباره أقل أهلية وكفاءة من أن يُطلب منه أن يتحمّل، أو ينفذ ما يُطلب من الفرد داخل الجماعة". تبدو أفعال الإخوان أحياناً غريبة، أو كأنها مجرد تنفيس عن طاقة زائدة، فمثلاً قاموا بمظاهرة ضخمة في ستاد القاهرة أثناء حرب العراق، نتج عنها شعور وقتي بالنشوة والنصر، وإخراج وتنفيس الطاقة المشحونة. يعلق بسخرية، "ولكن في النهاية لا العراق تحرّرت ولا الإخوان حاربوا، ولا أمريكا تراجعت"، والمعني مفهوم طبعاً من اختيار "الإخوان والعادة السرية" عنواناً للفصل الذي يتحدث فيه عن ذلك، فكل ما أرادته الجماعة من وراء تلك المظاهرة وغيرها مجرد تنفيس عن طاقة مكبوتة!
إلي أمن الدولة. محطة أساسية لا بد منها للإخواني.. هناك رأي ملفاً مكتوباً عليه "عملاء الإخوان". يقول "والصاعقة أن تجد في نهاية التقرير: مصدرنا نائب رئيس الشعبة"، ربما كان ذلك أكبر من أي مفاجأة أخري، كأن يعرف أسماء عملاء شخصيات أمن الدولة، من الرموز العامة، ومنهم شيخ مشهور أعطي الضبّاط تليفون امرأة اتصلت به في استشارة فقهية، طالباً منهم متابعتها. الأهم من كل ذلك الفصل الذي جاء بعنوان "نحو جيل لا يُقبّل يد المرشد". إنها بالضبط المسألة الأساسية، أو بشكل أدق الدافع للخروج عن إطار الأبوية في أسوأ أشكالها الريفية، أو البطريريكية، إنه محاولة للخروج عن مبدأ السمع والطاعة أو بتعبير العجوز "قناعتي أن ظاهرة تقبيل الأيدي هي عارض لمرض سيادة مفهوم السيطرة علي مفهوم القيادة"، القائد هنا كما يري يهتم بالنظر إلي الوراء للتأكد من أن الناس لا يزالون تابعين له، أكثر من اهتمام بالتطلّع إلي الأمام، والتفكير في تطوير وتحسين أداء التنظيم. يحكي قصة "رُوي أن رجلاً استأذن المأمون في تقبيل يده، فقال: إن القبلة من المؤمن مذلة، ومن الذمي خديعة، ولا حاجة بنا أن نُخدع".
عاش العجوز داخل الجماعة طوال الوقت بعقلية المسافر، يعرف أن اليوم الذي سيُغادر فيه سيأتي، وكان التنظيم يفكر فيه أيضاً، وفي والآخرين، بنفس المنطق "يريد أن يستفيد منك أكبر استفادة وأنت خارجه، دون أن يتحمل أعباءك أو مسئوليتك، فإذا أصبت قال إنك تلعب علي أرضه، وإذا أسأت قال إنك لا تحمل جنسيته".. ما يقوله يتماشي بالطبع مع الكثير من التصريحات التي تصدر من مكتب الإرشاد في المقطم، ففي اللحظة التي يجرؤ فيها الإخواني علي إظهار فرديته ورؤاه حول ما يتعلق بأمور سائلة في المجتمع، تخرج الجماعة لتؤكد أنه يُعبّر عن نفسه!
لا يسير العجوز علي خط واحد، بمعني أنه لا يتتبع رحلته مع الإخوان تاريخياً، ولكنه يكتب محطات من هنا وهناك، إنه يستريح أحياناً أيضاً ليكتب عن أمور لا علاقة لها مباشرة بالإخوان. أمور تخص المجتمع والدين عموماً، ولكنه بهذا الكتاب يعلن خروجه عن الجماعة التي لم يكرهها برغم كل شيء "خرجت من الدائرة لأني لم أرض بأن أكون ترساً في ماكينة، كل وظيفته التبرير لمدة أربعة وعشرين ساعة".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.