السؤال الأبرز الذي يواجهنا كلما تجدد الحديث عن مسيرة الكاتب الراحل محمود السعدني هو: لماذا لم يواصل السعدني كتابته للقصة القصيرة، وقد حقق في هذا المجال قدراً كبيراً من النجاح، وهذا ليس علي سبيل المجاز، بل بالفعل عندما صدرت مجموعته الأولي »السماء السوداء« برسوم الفنان العظيم »حاكم« لاقت قدراً من لفت النظر، بل إن الاستفتاء الذي أجرته مجلة »التحرير« في 3 يناير 6591 جاءت مجموعته هذه من أهم الأعمال التي صدرت عام 5591، كانت ضمن خمسة كتب لنجوم الأدب والثقافة آنذاك، وبجوار كتاب »الأدب الشعبي« لأحمد رشدي صالح، و»الصين الشعبية« لمحمد عودة، و»صح النوم« ليحيي حقي، و»أيام الطفولة« لإبراهيم عبدالحليم، وكان الذين اختاروا المجموعة لتحصل علي هذا التكريم هم: أحمد رشدي صالح، محمد عودة، يوسف إدريس، يوسف السباعي، مصطفي محمود، كامل الشناوي، سامي داود، وكانت »السماء السوداء« قد حققت رواجاً بالفعل علي مستوي القراءة والتوزيع، ليس لأن مولفها صاحب أي صولجان، ولكن لأن كتابات السعدني كانت تلبي الحاجة الفنية العميقة لدي قارئ هذه المرحلة، وتعتبر- بحق- من أعلي النماذج التي جسدت تيار »الواقعية« الذي كان يضرب المبدعين من كل حدب وصوب، وكان صوت السعدني فريداً وحياً وناطقاً إبداعياً بلسان الجماعة الشعبية، وكانت شخصيات قصصه تعبر عن الساكن والمقيم والمتحرك لدي الطبقات الشعبية المطحونة، مثل قصة »السماء السوداء« ذاتها هذا الرجل الذي تغلق في وجهه كل السبل. أو قصة »إلي طما« وشخصية هريدي، النموذج الشعبي السائد، الذي يأتي من الصعيد الجواني والقاسي لتحقيق بضعة أحلام إنسانية عادية، وأظن أن شخصية هريدي أصبحت نموذجاً فيما بعد في إبداعات كثيرة، ربما نقرأها بتوسع في شخصية »حسن أبوضب« في ثلاثية الكاتب الكبير خيري شلبي. إذن لماذا توقف محمود السعدني، رغم أنه نال الكثير من التقدير والمناقشة والجدل، ويكفي مقدمة »أحمد رشدي صالح« لقصته »جنة رضوان« التي نشرت أولاً في مجلة التحرير. ويثير عدداً من الأسئلة في كتابة السعدني قائلاً: »ما الذي يمنع محمود السعدني من كتابة قصصه بالعامية؟ سألت السعدني هذا السؤال، وكنت قد أطلت التفكير فيه، ويبدو لي أنه اقتنع بأن العامية تصلح أن تكون لغة أدبية ناجحة، متي وجدت كاتباً صادق الشعور بجلالها، ورقة تركيبها، ومرونتها العظيمة، وأعتقد أن السعدني واحد من أقلية تمتاز بهذا الشعور، فأنا أسمعه وهو يروي الحادثة المألوفة فيجري فيها دماً دافقاً، وحيوية ظاهرة لأنه يعرف كيف ينتخب التراكيب، ويجيد السبك والتصوير والسخرية، ويسترسل رشدي صالح في تعداد خصائص وميزات الكتابة السعدنية الفريدة، وتأتي المقدمة الثانية التي كتبها يوسف السباعي للمجموعة »جنة رضوان« وقد رصد بضع خصائص أخري، ثم التذييل النقدي الذي كتبه الكاتب الروائي فتحي غانم لمجموعته الثالثة »بنت مدارس« والتي صدرت في نوفمبر 0691، وكتب غانم مقالاً يسرد فيه تاريخ القصة القصيرة في مصر، منذ أن كانت مطاردة، حتي أصبح لها مكانة، وخرج بعض خصائصهما، ثم يقول: »قصص السعدني تثير أيضاً نفس الاعتراضات القديمة التي ثارت من حول استعمال اللغة العامية، وضرورة ارتباط الأدب بهدف اجتماعي، أو ضرورة تحرره من جميع الأهداف اللهم إلا الفن ذاته. إذن كانت قصص السعدني وكتاباته عموماً تنال ذلك التقدير الذي يدفع الكاتب قدماً للتواصل، رغم أن السعدني جاء في ظل كوكبة من كتّاب وفرسان القصة- آنذاك- وعلي رأسهم يوسف إدريس ومصطفي محمود وصلاح حافظ ومحمد يسري أحمد، ثم يوسف الشاروني، ولكنه كان واسطة العقد الفني بينهم، وقد خرج- فيما أعتقد- عن هذا الجلال الذي أضفاه الجميع حول قدسية اللغة وهالاتها، فراح يضرب في اتجاهات أسلوبية وموضوعية كثيرة، واستهوته الكتابة الساخرة والهادفة مباشرة، ووجد أن الصحافة قادرة علي تلبية هذه الأغراض بجدارة، فبعد مرحلة مجلة »التحرير« انتمي بكل كيانه لمدرسة »صباح الخير« وأغرقها- بالعقل- بكتاباته المتنوعة والمتعددة، ويكفي أنه كتب في المجال الرياضي، بل إنه ترأس »القسم الرياضي« في المجلة، وكتب باباً كان يتناوب عليه هو ولويس جريس عنوانه »هذا الرجل«، وقد ظل يحرر هذا الباب لسنوات طويلة، وأظن أن هذا الباب وغيره قد نهب من طاقته الكثير، وفي الوقت نفسه كان يلبي عنده أغراضاً سردية عميقة ومباشرة، عوضته عن الكتابة الإبداعية والقصصية التي تسربت في أشكال أخري، فقد كتب الرواية مثل »حتي يعود القمر«، وكتب المسرحية مثل »عربة بنايوتي«، وكتب المذكرات الفريدة من نوعها، ولم تأخذ قدراً كاملاً من الدرس النقدي. محمود السعدني واحد من كتّاب القصة القصيرة الكبار، ولا يستطيع أحد أن يحذف بصماته من تاريخها علي الإطلاق، وأظن أن التاريخ لا ينسي.