منذ شهور قليلة، وبالتحديد في النصف الأول من شهر فبراير الماضي مرت الذكري العاشرة لرحيل واحد من نقّاد وأدباء مصر العظام هو رجاء النقاش الذي أثري الحياة الثقافية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وترك بصماته علي المشهد الثقافي العربي من خلال ابداع نقدي ومسيرة حياة تتسم بالغني والتنوع. شغلت مسيرته الثقافية هموم ومشاغل الحياة الثقافية علي امتداد الساحات العربية، فكتب عن أبوالقاسم الشابي:شاعر الحب والثورة، وكان أول من احتفي برواية الطيب صالح: موسم الهجرة إلي الشمال،ولفت إليها الأنظار عندما لم يكن الطيب صالح معروفا، ولم يكن قد نال الشهرة بعد. وكان أول من عرّف بالشاعر محمود درويش عندما لم يكن أحد في العالم العربي يسمع به، فقد سمع عن درويش من خلال صديقه الكاتب والروائي غسان كنفاني عندما التقيا في بيروت عام 1966، وكان درويش آنذاك معتقلا في سجون الاحتلال فأثار ذلك اهتمامه، وبدأ عملية البحث عنه، واستطاع أن يحصل علي دواوينه الأولي، فكتب عنه دراسة في وقت مبكر(1969) تحت عنوان: محمود درويش شاعر الأرض المحتلة، كما جمع بعض قصائده ونشرها في ملف خاص في مجلة الهلال نحت عنوان: آخر الليل نهار. وقد بادله محمود درويش الوفاء، ووصف رجاء النقاش بأخيه الذي لم تلده أمه، وقال إن رجاء هو الذي أخذ بيدي وأدخلني إلي قلب القاهرة الإنساني والثقافي وساعد جناحي علي الطيران التدريجي فعرّف قرّاءه عليّ وعلي زملائي القابعين خلف الأسوار، وعمّق احساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي. وقال أيضا:إننا مدينون له لأنه ابن مصرالبار وابن الثقافة العربية الذي لم تدفعه موجات النزعات الإقليمية الرائجة إلي الاعتذار عن عروبته الثقافية.
لم يقتصر اهتمام رجاء النقاش بالشاعر الكبير محمود درويش، بل إنّه عرّف أيضا بشعراء آخرين من شعراء الأرض الفلسطينية المحتلة، واعتني بهم، ومن هؤلاء سميح القاسم، وفدوي طوقان انطلاقا من وقوفه الدائم مع أدب الحريّة، ولعلّ كتابه عن الرسائل المتبادلة بين الناقد الكبير أنور المعدّاوي والشاعرة فدوي طوقان وقصة حب بدأت عندما نشر المعداوي ديوانها الأول: (وحدي مع الأيام) عام 1952 في القاهرة هو وثيقة وكشف وجداني عن بوح انساني من خلال الرسائل المتبادلة بينهما التي كتباها بعد صدور الديوان،والتي تناولت قضايا وهموما ثقافية ثمّ تطورت إلي حب عفيف ونقي وشفّاف،وكشف في كتابه عذوبة وجماليات أحاسيس انسانية لا تقل عذوبة وجمالا عن الرسائل المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران، خصوصا وأن التجربتين متشابهتان، وأنّ من كتبوا تلك الرسائل لم يلتقوا أبدا.
كان رجاء النقاش منفتحا علي محيطه العربي، وكان يشارك في اللقاءات والمناسبات الثقافية العربية، وكانت تربطه علاقات حميمة مع معظم الأدباء العرب،وكان يؤمن بدور الثقافة في تعزيز الهوية العربية، ودورها في المصير القومي المشترك، وهو صاحب القول المشهور: الثقافة العربية هي جامعة الدول العربية وليس المبني المقام علي ضفة النيل الشرقية. عرفت رجاء النقاش في أواخر السبعينات عندما زرت القاهرة علي ما أذكر عام 1978 وكانت قد صدرت روايتي الأولي (نجران تحت الصفر) التي كانت أول رواية تتحدث عن المسكوت عنه في بقعة منسية من بقاع الجزيرة العربية،وكانت شهادة عن تجربة معيشة إذعملت في تلك البقعة معلما لمدة سنة، ووجدت الرواية استحسانا واهتماما غير مسبوق، وتعرضت للمنع والمصادرة، وقدمتني بقوة إلي المشهد الثقافي العربي. وفي تلك الزيارة تعرفت علي كثير من القامات الثقافية المصرية،تعرفت علي أمل دنقل، ورجاء النقاش، وفاروق عبد القادر، ونعمان عاشور، وفريدة النقاش، وبهاء طاهر، وإبراهيم عبد المجيد، وأسماء عربية كانت تقيم في القاهرة وفي مقدمتها الشاعر اليمني الكبير عبد العزيز المقالح. التقيت رجاء النقاش وعرفته عن قرب، وكان يتسم بالدماثة واللطف والتواضع والخلق الكريم، وتواصلت لقاءاتنا حتي عندما ذهب في أوائل الثمانينات إلي قطر وترأس تحرير مجلة: الدوحة الثقافية وكنت وقتها أمينا عاما لاتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين وشارك معنا في فعاليات أسبوع ثقافي فلسطيني أقمناه في الدوحة آنذاك. وأذكرأنه عندما كان يشرف علي الصفحة الثقافية في جريدة خليجية تصدر من لندن وتطبع في عدة عواصم عربية ومنها القاهرة، أنّه طلب من الصديق الكاتب المصري حسين عيد أن يجري معي مقابلة حول روايتي: نجران تحت الصفر، للنشر في تلك الصحيفة. وقد نشرت المقابلة بالفعل، ونظرا لأن الرواية منعت وصودرت من قبل الرقيب في تلك الدولة، فقد أثار نشرها مشكلة وزوبعة. وفي أول زيارة لي إلي القاهرة بعد نشر المقابلة اتصلت به وذكرت له اسم الفندق الذي نزلت به، وحددنا موعدا للقاء ظهرا. جاءني علي الموعد، واصطحبني بسيارته إلي مطعم فاخر، وكان في غاية السعادة، وقال لي بعد أن جلسنا: أتدري لماذا هذه الدعوة؟ سألته: لماذا؟ أجابني وهو يبتسم ابتسامته الساحرة: لنحتفي معا بقوة الكلمة التي تقف إلي جانب قضية الإنسان. لحظتها عرفت أنّه بسبب تلك المقابلة قد فقد وظيفته. كان يشعر بالفخر لأنّه انحاز لحرية وكرامة الإنسان العربي ولحرية التعبير.